عتبة بن ربيعة يتأثر بالقرآن ولكن..! {فَإِنَّهُم لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجحَدُون1}


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن التأمل في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعظم ما يُعين المسلم على مجاوزة الصعاب، وتحمل أعباء الحياة، فكلما أصابه هم أو غم تذكر حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان فيه من البلاء فصبر حتى نصره الله على الأعداء.

 ثم إن التأمل في السيرة النبوية يعطينا درساً آخر ألا وهو معرفة عظمة هذا الرسول البشري، بحيث يزيد المسلم تمسكاً بشرعه وثباتاً على طريقه التي سلكها، فكلما كان القائد عظيماً ذا مهابة وجلال، كان حبه وتقديره أعظم من غيره.. وإبراز سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأمة اليوم من أهم ما يعتني به الداعية المسلم، والخطيب المفوَّه، والواعظ المؤثر، يجب أن يكون قدوتنا هو وحسبº لأنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، بل إن ما يقوله وحي من الله العلي الكبير، فلا يليق بمسلم أن يقتدي إلا برسول الله أو بمن مات وهو على هدي رسول اللهº ولهذا قال ابن مسعود: (من كان مستنّاً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، فأولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً قد اختارهم الله -تعالى- لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم على الهدي المستقيم). فما أجدر النَّاسَ اليوم - الذين يُنصِّبون لهم رجالاً فيُوالون ويُعادون من أجلهم- ما أجدرهم بالاقتداء بخاتم النبيين وسيِّدِ المرسلينَ!

 

وسنذكر موقفاً من مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أحد كفار قريش لنرى فيه أدب الرسول وحسن خلقه ولو مع الكافر، وبلاغة الرسول وتأثيره في محدثه، وكيف يفعل الرجال المخلصون الذين لم يسقطوا في الوحل، ولم يتمرغوا في الترابº ليذلوا أنفسهم لغير الله طرفة عين، سواء عن طريق إذلال النفس بالرغبة أو بالرهبة.. ونرى موقفاً آخر يدور عليه موضوعنا هذا، وهو تأثر عتبة بن ربيعة بما تلا عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أوائل سورة فصلت، وكيف يخسر المرء حياته الحقيقة إذا عاند الحق أو تركه بعدما تبين له!.

 

روى ابن إسحاق بسنده عن كعب القرظي قال: حُدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا -وهو في نادى قريش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده-: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة -رضي الله عنه- ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد، قُم إليه، فكلَّمه، فقام إليه عُتبة، حتى جلسَ إلى رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ -أي المنزلة- في العشيرة، والمكان في النَّسبِ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمُورًا تنظر فيهاº لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول - صلى الله عليه وسلم --: (قل يا أبا الوليد أسمع).

 

قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرَنا مالًا، وإن كنتَ تريدُ به شَرَفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريدُ به مُلكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئيًا-أي شيطاناً- تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطبَّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابعُ على الرجل حتى يُداوى منه -أو كما قال له- حتى إذا فرغ عُتبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمعُ منه، قال: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟ ) قال: نعم، قال: (فاسمع مني)، قال: أفعل، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم* حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ* كِتَابٌ فُصِّلَت آيَاتُهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا لِّقَومٍ, يَعلَمُونَ* بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعرَضَ أَكثَرُهُم فَهُم لَا يَسمَعُونَ* وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ, مِّمَّا تَدعُونَا إِلَيهِ) فصلت: 1: 5.

ثم مضى رسول الله فيها، يقرؤها عليه.

فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره مُعتمداً عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك).

 

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط! والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكُهُ مُلككم، وعزٌّهُ عزٌّكم، وكنتم أسعدَ الناس به، قالوا: سَحَرَكَ والله- يا أبا الوليدِ بلسانه! قال: هذا رأيي فيه، فاصنعُوا ما بدا لكم. 2

 

فوائد هذا الحديث:

1. أن أعداء الإسلام إذا يئسوا من صد الدعوة بالقوة استخدموا أسلوباً آخر للصدِّ عن سبيل الله هو أسلوب الإغراء بالمناصب والجاه والمال والنساء، فإذا ما استجاب الداعية لهم أغرقوه بالدنيا ومنعطفاتها حتى يتنازل عن كثير من مبادئ دينهº وهذا ما أدركه الأعداء اليوم حيث يحاولون مد الجسور مع الإسلاميين في بعض البلدان ويغرونهم بمناصب وثروات وعلاقات مستقبلية حميمة..

إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرضخ لهذا الطلب الدنيءº لأن هدفه عظيم وكبير، ليس الهدف أن يكسب متاعاً من الدنيا أو جاهاً أو منصباً، إن الهدف أن يفيق عتبة بن ربيعة وكفار قريش وكل العالم من هذه الغفلة القاتلة، ومن هذه الوثنية المضللة، وأن تعنوا وجوههم لله وحده لا شريك له الذي خلقهم ورزقهم.

 

2. أن المفسدين في الأرض يحسبون أنهم مصلحون، ويحسبون أن أهل الإسلام والحق على ضلال مبين، وأنهم بدعوتهم تلك يريدون فساد العالمº لأنهم يفرقون بين الرجل وعشيرته لأجل دينه، ويفرقون بين الرجل وابنه، لأن أحدهما كافر والآخر مؤمن، فهم يرون أن هذا من الفساد في الأرضº ولهذا قال عتبة -هنا- لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به مَن مَضَى من آبائهم. وقد قال فرعون لموسى- عليه السلام - كما ذكر اللهُ عنه في القرآنِ: (وَقَالَ فِرعَونُ ذَرُونِي أَقتُل مُوسَى وَليَدعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُم أَو أَن يُظهِرَ فِي الأَرضِ الفَسَادَ) (غافر: 26). وهذا ما يدندن به الغرب وأذنابه اليوم من ضرورة الحوار بين الكفر والإسلام، وإذابة الفوارق بين المسلم والكافر بحجة الدعوة إلى السلام العالمي، ومحاربة الأفكار المتشددة التي تدعو إلى عداء الآخر، أو الانتقام منه، ويصدقهم اللئام من أمة الإسلام، أما يرى هؤلاء ما يفعله الصليبيون في بلاد المسلمين من الظلم والجور والدمار، ثم ننسى كل هذا ونقول لابد من السلام! أين السلام وهم يذبحوننا ذبح القطيع؟!

لقد أصبح من يدعو إلى دين الإسلام الحق هو المتهم وهو المنبوذ وهو المفسد في الأرض، ويُرمى بأنواع التهم والألقاب، وهذا ليس بالأمر الغريب! فهذه سيرة الكافرين منذ القدم، (أَتَوَاصَوا بِهِ بَل هُم قَومٌ طَاغُونَ) (الذاريات: 53).

 

3. خُطُورة أصدقاء السٌّوء، فإنهم يضلون صاحبهم عن صراطِ اللهِ المستقيم، لقد تأثر عتبة بن ربيعة بما تلا عليه الرسولُ- صلى الله عليه وسلم -، وعاد إلى أصحابه بغير الوجه الذي ذهب به، وقال لهم ما قال، واعتزل قومه في دارِهِ يُفكِّرُ فيما سمع من الأمر العظيم، والإنذار الواضح، لقد سمع كلاماً ليس ككلام البشر، لقد اندهش وذهل وكاد أن يُصعق، جلس يفكر ملياً وانقطع عن قومه! فلما رأوه انقطع عنهم خافوا أن يسلم فذهبوا إليه في داره ووبخوه، وتراجع عن كل ما كان يريد، والله أعلم بما كان يفكر -لكن من خلال السياق يظهر أنه كان يتذكر تلك الكلمات التي سمعها والتي لم يسمع مثلها أبداً-، وهذه الرواية توضح ذلك، فقد ذكر ابن كثير في تفسيره أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لما تلا على عتبة ما تلا من الآيات من أوائل سورة فصلت، وبلغ قوله-تعالى-: (فَإِن أَعرَضُوا فَقُل أَنذَرتُكُم صَاعِقَةً مِثلَ صَاعِقَةِ عَادٍ, وَثَمُودَ) (فصلت: 13)، أمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم. فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صبا إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة قد أصابته، فانطلقوا بنا إليه. فانطلقوا إليه فقال أبو جهل: يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يُغنيك عن طعام محمد. فغضب عتبة، وأقسم ألا يكلم محمداً أبداً، وقال: والله، لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله: (فَإِن أَعرَضُوا فَقُل أَنذَرتُكُم صَاعِقَةً مِثلَ صَاعِقَةِ عَادٍ, وَثَمُودَ). فأمسكت بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخشيت أن ينـزل بكم العذاب. 3

فانظر إلى حمق أبي جهل وجُرأته، كيف هزأ بصاحبه حتى ترك ما كان يُفكِّرُ به، وهذا يدلٌّ على خُطُورةِ الصاحب، وأنه من الإنسان بمكانٍ, خطيرٍ,، فإنه يؤثر على سلوكِهِ وأخلاقِهِ ويصدٌّهُ عن السَّبيلِ...

 

فماذا فات هذا الطاغية من الخير عندما أقسم ألا يكلم محمداً- صلى الله عليه وسلم - بعدما تبين له الحق؟! لقد قتل صاغراً يوم بدر مع من قتل، قتل هو وأبو جهل في معركة واحدة، ولاقوا مصيراً سيئاً واحداً، فما أغنى عنه صاحبه من الله شيئاً.. وهذه الصور تتكرر في تاريخ الأمم، فكم من إنسان صده أصحابه عن الاستقامة على الحق، فكانوا جميعاً من الخاسرين كما قال-تعالى-: (وَيَومَ يَعَضٌّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ يَقُولُ يَا لَيتَنِي اتَّخَذتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيلَتَى لَيتَنِي لَم أَتَّخِذ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَد أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكرِ بَعدَ إِذ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً) (الفرقان: 27-29).

نسأل الله -تعالى- حسن الخاتمة، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

----------------------------------------

1 - الأنعام: 33.

2- سيرة ابن هشام (1/293).

3- تفسير ابن كثير (4/96). ط: دار الفيحاء، عام 1992م.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply