بسم الله الرحمن الرحيم
القضاء من الوظائف الكبيرة، والمهن الخطيرة، والمسؤوليات الجسيمة، ولهذا اشترط فيمن يتولاه شروطاً لابد من توفرها كلها أوجلها، وحد في ذلك حدوداً يحرم تعديها، وهي:
1. الإسلام.
2. الذكورية.
3. العلم.
4. العدالة.
5. سلامة الحواس.
6. الفطنة.
لم يتول هذا المنصب في صدر الإسلام إلا العدول الأخيار، والعلماء الكبار، أمثال أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي موسى، وغيرهم من الصحابة، وأمثال شريح، وإياس، وأبي يوسف من التابعين وتابعيهم بإحسان، ولا يزال هذا هو ديدن السلف والخلف من الحكام، حتى غشانا هذا العصر، حيث استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فأصبحت القوانين الوضعية بديلاً عن أحكام الشريعة المرضية، وأضحى العلمانيون والنسوان بديلاً عن العلماء والذكران، والدراسات القانونية بديلاً عن الدراسات الإسلامية، والدساتير الفرنسية والهندية والإنجليزية بديلاً عن الشريعة الربانية.
لهذا كان كثير من السلف الصالح يتدافعون القضاء كتدافعهم للإمامة في الصلاة وللأمانات المالية، مع توفر شروط ذلك فيهم، حيث لم يتعين عليهم لتوفر العلماء وكثرة الفقهاء في ذلك الوقت.
ومن هؤلاء من ضرب وحبس وضيِّق عليه بسبب امتناعه عن ذلك، أمثال الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - وغيره.
لقد وجد الإمام أحمد بن حنبل على الإمام الشافعي وجداً شديداً فقط لإشارته على هارون الرشيد – وقد استشاره في ذلك، والمستشار مؤتمن – بصلاح أحمد لتولي قضاء اليمن.
من أولئك القضاة الهداة الذين لم يجد الزمن بأمثالهم إلا نادراً أبو عبد الله محمد بن سعيد بن بشير الأندلسي - رحمه الله -، الذي تولى القضاء في عهد الأمير الحكم خلفاً للقاضي العادل المصعب بن عمران - رحمه الله -.
قال القاضي عياض: (قال ابن القوطية لما توفي المصعب بن عمران القاضي استشار الأمير الحكم فيمن يستقضيه، فأجمع له وزراؤه وأعلام الناس على محمد بن بشير كاتب المصعب، وكان قد شهر عفافه، واستقلاله بمعهد المصعب، فولاه القضاء، فأثر على المصعب وبعد في الفضل والعدل صيته، وخلدت آثاره بعد، فلم يزل قاضياً إلى أن توفي فولي ابنه سعيد مكانه.
إلى أن قال: قال ابن حارث: من مستفيض الأخبار التي لا يتواطأ على مثلها لسعة الاجتماع عليها، أنه كان – أي ابن بشير – من عيون القضاة الهداة، ومن أولي السداد والمذاهب الجميلة، وأصالة الرأي والسيرة العادلة، والذكر الجميل الخالد، وكان شديد الشكيمة، ماضي العزيمة، صلباً في الحق، مؤيداً، لا هوادة عنده لأحد، ولا مداهنة لديه لأحد من أصحاب السلطان، لا يُؤثر غير الحق في أحكامه، جيد الفطنة، حسن الانبساط، صادق الحس، قوي الإدراك).
لما استدعى الأمير الحكم ابن بشير ليوليه القضاء بعد وفاة المصعب، عدل في طريقه إلى صديق له عابد يستشيره في ذلك، وكان ابن بشير في أول الأمير يظن أنه وجه إليه في الكتابة التي قد تخلى عنها، فجرت بينهما هذه المحاورة:
فقال له صديقه: ما أرى بعث فيك إلا للقضاء، فقد مات قاضي قرطبة.
فقال له ابن بشير: فإذا قبلتها فما ترى؟ فانصح لي وأشر عليَّ.
قال له العابد: أسألك عن ثلاثة أشياء فاصدقني فيها، كيف حبكم لأكل الطيب، ولباس اللين، وركوب الفاره؟
فقال ابن بشير: والله ما أبالي ما رددت به جوعي، وسترت به عورتي، وحملت به رجلي.
فقال: هذه واحدة، فكيف حبك للوجوه الحسان، وشبه هذا من الشهوات؟
قال: هذه حالة والله ما استشرفت نفسي إليها قط، ولا خطرت ببالي.
قال: هذه ثانية، فكيف حبك للمدح والثناء، وكراهتك للعزل، وحب الولاية؟
قال: والله ما أبالي في الحق من مدحني أو ذمني، وما أسر للولاية، ولا أستوحش للعزل.
فقال له: اقبل القضاء ولا بأس عليك.
ذكر أن ابن بشير ولي القضاء بقرطبة مرتين، وكان بعض إخوانه يعتب عليه في صلابته في الحكومة، ويقول: أخشى عليك العزلº فكان يقول: ليته رأى الشقراء تقطع الطريق إلى ماردةº فما قضى إلى يسيراً حتى حدثت حادثة أظهر ابن بشير فيها صلابته، فكانت سبباً لعزله، فانصرف لبلده كما تمنىº فما لبث إلا يسيراً حتى كتب له ليعود إلى منصبه، فعدل كذلك وهو في طريقه إلى قرطبة إلى صديق له زاهد فاجتمع به، وقال له: قد أرسل إلي الأمير، أظنه يردني على القضاء ثانية، فما ترى؟
فقال له صديقه: إن كنت تعلم أنك تنفِّذ الحق على القريب والبعيد، ولا تأخذك في الله لومة لائم، فلست أرى لك أن تحرم الناس خيرك، وإن كنت تخاف أن لا تعدل فترك الولاية أفضل لك.
قال ابن بشير: أما الحق فلست أبالي على من أمررته إذا ظهر لي.
فقال له: لستُ أرى أن تمنع الناس خيرك.
فورد قرطبة وولي القضاء ثانية.
وكان سبب عزله كما قال القاضي عياض: أن يده قصرت عن بعض الخاصة ومنع من الحكم عليهم، فحلف بطلاق زوجته ثلاثاً، وعتق مماليكه، وبصدقة ما يملك على المساكين، إن حكم بين اثنين، فعزل، فلما أراد رده اعتذر إليه بتلك الأيمان، فعزم الأمير عليه، فأعتق، وطلق، وتصدق، وأخرج إليه الأمير جارية من جواريه، ومالاً عوضاً عن ماله، ومماليك عوضاً عن مماليكه، ومع ذلك فقد اشترط على الأمير ثلاثة شروط مضمومة، وقال له: إن التزمتها تقدمت، وإلا فلا أقبل البتةº والشروط هي:
1. نفاذ الحكم على كل أحد ما بينك وبين حارس السوق.
2. وإن ظهر لي من نفسي عجز استعفيتك فاعفني.
3. وأن يكون رزقي من الفيء.
فضمنها له، فقبل.
قلت: من الطوام العظام والبلايا الجسام التي ابتلي بها بعض الحكام، وجاراهم فيها بعض القضاة: المحاباة، والمحسوبية، والشفاعة في الصداقات والقربات، سيما في الحدود الواضحات، وذلك على الرغم من تحذير الرسول الكريم لأمته من هذا المسلك المشين، والخلق اللئيم، الذي يورد من سلكه الجحيم، ويوصل من استهان به إلى سواء الحميم، وذلك عندما شق على قريش في أول الأمر إقامة الحد على تلك المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، ورفع أمرها إلى الرسول الكريم، فطلب من حبِّه وابن حبِّه أسامة بن زيد أن يشفع فيها، فماذا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وبم رد على هذه الشفاعة السيئة، والمحاماة على الإثم والعدوان؟
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: \"إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حبٌّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكلمه أسامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟\"، ثم قام فاختطب، ثم قال: \"إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد! وأيُمُ الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها\".
لبعض الحكام أساليب غريبة، وطرق مريبة، في حجب بعض القضايا التي يهمهم أمر أصحابها، ومن الحيلولة بينهم وبين المثول أمام القضاء، فأضحت الأحكام تقام فقط وتنفذ على الضعفاء والفقراء، ويعفى من ذلك الخاصة، وأخس من ذلك وأخطر أن يطلب من بعض القضاة أن يعيدوا النظر وأن يغيروا الحكم إذا كان المحكوم عليه ممن يهمهم أمره ويعنيهم شأنه، وأخطر من ذلك وأشد استجابة بعض القضاة لهذا الطلب حرصاً على منصبه وخوفاً من عزله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
نماذج من أعيان أقضيته وأحكامه:
لقد شهد العلماء لابن بشير بالعدل، والنزاهة، والصدق، والصرامة، والتجرد، وعدم الخوف من الملامة في الحق، ودون المؤرخون عدداً من قضاياه الفريدة، ومواقفه النبيلة، من ذلك:
1. حكمه على الوزير ابن فطيس في حق ثبت عنده، دون أن يعرِّفه بالشهود عليه..
قال ابن وضاح: حكم ابن بشير على ابن فطيس الوزيـر في حق ثبت عنده، دون أن يعرَّفه بالشهـود عليه، فشكا ابن فطيس ذلك إلى الأمير، وتظلم منه، وأومأ إلى ابن بشير بذلك، وذكر شكوى ابن فطيس من إمضائه الحكم عليه دون إعذار، وهو حق له بإجماع أهل العلم، فكتب إليه ابن بشير: ليس ابن فطيس ممن يُعرَّف بمن شهد عليه، لأنه إذا لم يجد سبيلاً إلى تجريحهم لم يتحرَّج عن أذاهم، فيَدَعُون الشهادة هم ومن ائتسى بهم، ويضيع أمر الناس.
2. حكمه لمدَّعٍ, على الأمير الحكم:
قال أحمد بن خالد: كان أولى ما أنفذه ابن بشير من نافذ أحكامه التسجيل على الأمير الحكم في \"أرُجي القنطرة\" بباب قرطبة، إذ ثبت عنده حق مدعيها، ولم يكن عند الأمير مدفع، فسجل فيها وأشهد على نفسه، فما مضت مديدة حتى ابتاعها ابتياعاً صحيحاً، فسُرَّ بذلك الحاكم، وجعل يقول: رحم الله ابن بشير، فقد أحسن فيما فعل بنا على كره منا، إذ كان في أيدينا شيء مشتبه فصحَّح ملكنا له.
3. رد ابن بشير لشهادة الأمير الحكم لصالح عمه سعيد الخير:
قال ابن وضاح: كان سعيد الخير عم الأمير الحكم، وكّل وكيلاً يخاصم له عند محمد بن بشير في مطلب، وكان في يد سعيد وثيقة فيها شهادات جماعة عدول أتى الموتُ عليهم ما عدا شاهد واحد من أهل القبول، مع شهادة الأمير الحكم ابن أخيه، فاضطر عمه إليها في خصومته لما قبل القاضي شهادة الأخير، وضرب الآجال لوكيله في شاهد ثان، فدخل سعيد على الأمير وعرفه حاجته إلى شهادته، وكان الحكم معظماً لعمه، فقال له: يا عم، اعفني من هذه الكلفة، فقد تعلم أنا لسنا من أهل الشهادة عند حكامنا، إذ تلبسنا من فتن هذه الدنيا بما لا نرضى به عن أنفسنا، ولا نلومهم على مثل ذلك فينا، ونخشى إن توقفنا مع القاضي موقف خزي نفديه بملكنا، وعلينا خلف ما ينقصك وأضعافهº فهم سعيد في ذلك وعزم عليه إلى أن وجه شهادته مع فقيهين يؤديانها إلى القاضي، فأدياها إليه، فقال لهما: قد سمعتُ منكما فقوما راشدينº وجاءت دولة وكيل سعيد، فتقدم مدلاً واثقاً، فقال: أيها القاضي، لقد نُقلت إليك شهادة الأمير فما تقول؟ فأخذ كتاب الشهادة وأعاد النظر فيها، ثم قال: هذه شهادة لا تعمل عندي فجئني بغيرها، فمضى الوكيل إلى سعيد فأعلمه، فركب من فوره إلى الحكم وقال: ذهب سلطاننا، وأهينت عزتنا، يتجرى قاضيك الحروري على رد شهادتك! هذا ما لا يجب أن تتحمله عليهº وأكثر من هذا، وأغرى بابن بشير، والأمير مطرق، فلما فرغ من كلامه قال له: يا عم، هذا ما قد ظننته، وقد آن لك أن تقصر عنه، فالحق أولى بك، والقاضي قد أخلص يقينه لله، وفعل ما يجب عليه ويلزمه، ولو لم يفعل ما فعله لأجال الله بصيرتنا فيه، فأحسن الله جزاءه عنا، وعن نفسه، ولستُ والله للقاضي بعد فيما احتاط لنفسه.
فذكر أن بعض أقران ابن بشير أعتبه فيما آتاه في ذلك، فقال له: يا عاجز، ألم تعلم أنه لابد من الإعذار في الشهادات، فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها؟! ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه.
قلت: هذه القضايا والأحكام، والمواقف العظام، تدل على فضل ونبل الأمير الحكم، قبل دلالتها على فضل، ونبل، وشجاعة القاضي ابن بشير.
فما أمس حاجة المسلمين اليوم لحكام مثل الحكم، ولقضاة مثل ابن بشير، وهكذا ينبغي لحكامنا التأسي بأئمة الحق والعدل من حكام المسلمين الأخيار، وينبغي لقضاتنا أن يسيروا على نهج ابن بشير ومن سبقه من القضاة العدول الشجعان الذين لم يكن يأخذهم في الحكم بالعدل والثبات عليه لومة لائم، وليحرصوا على مرضاة ربهم، ونجاة أنفسهم من النار.
وليتذكروا قول الصادق المصدوق: \"القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار\".
قال أبو هاشم: لولا حديث بريدة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"القضاة ثلاثة\"، الحديث السابق، لقلنا إن القاضي إذا اجتهد فهو في الجنة.13
هذا كله في القضاة الذين يحكمون بشرع الله، أما من يحكم بالقوانين الوضعية فحكمه حكم من لم يحكم بما أنزل الله، وهو معلوم معروف، وهو الكفر والعياذ بالله.
عليك أخي القاضي أن تتقي الله في نفسك أولاً، وفي إخوانك المسلمين، وفي هذا الدين الذي شرفك الله بالانتساب إليه، وعليك أن لا تحكم إلا بالحق، وهو شرع الله المصفى، وعليك أن لا يصرفك عن الحق صارف فتهلك وتهلك من حابيت معك، واحذر الكفر المبين بالتحاكم إلى القانون اللعين، المحادِّ لشرعة رب العالمين، ولما جاء به صادق الوعد المبين، والسلام علينا وعلى سائر عباد الله الصالحين...
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد