البقاء لله وحده


 بسم الله الرحمن الرحيم

لو كان أحد سيخلد في هذه الدنيا لكان الأولى بالخلود سيد البشر - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه لحق بالرفيق الأعلى، وانتقل من دار الفناء إلى دار الخلود والبقاء. والمتأمل لآيات القرآن الكريم يجدها في هذه القضية قضية الموت موجبة كلية. اسمع إلى قوله - جل شأنه -: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور). وقوله - تبارك اسمه -: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون). وقوله - سبحانه وتعالى -: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون). وقوله - جل وعز -: (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام). فسبحان صاحب العزة القائمة، والمملكة الدائمة. وسبحان ذي الملك والملكوت. والعزة والجبروت. والبقاء للحي الذي لا يموت.

 تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

وكم من عروس زينوها لزوجها *** وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر

وكم من صغار يرتجى طول عمرهم *** وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر

وكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر

فالحمد لله المستحق لغايات التحميد، المتوحد في كبريائه من غير تكيف ولا تحديد. العلي القوي الولي الحميد. الغني المغني المبدئ المعيد، المعطي الذي لا يفنى عطاؤه ولا يبيد، المانع فلا معطي لما منع، ولا راد لما يريد، خلق الخلائق وسلكهم أحسن الطريق، إلى الأمر الرشيد، وصورهم فأحسن صورهم وبشرهم في الجنة بالنعيم والتخليد. وبصرهم بعين الاعتبار، وحذرهم من عذاب النار والوعيد، وألزمهم شكره، وضمن لهم كنز فضله المزيد، وحكم عليهم بالموت فما لأحد عنه محيص ولا محيد. فكم أبكى خليلاً بفراق خليله، وكم أيتم وليداً وشغله ببكائه وعويله، فلم يغنه ذلك شيئاً عن أمر من يبدئ ويعيد، ومن هو فعال لما يريد. فسبحان من أذل بالموت من الجبابرة كل جبار عنيد، وكسر به من الأكاسرة كل بطل صنديد. أخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور. وقطع حبل أمدهم المديد. أخذ به الآباء والجدود، والأطفال من المهود. فأسكنهم اللحود. وعفر وجوههم في الصعيد. وسوى في الموت بين الصغير والكبير. والغني والفقير، والمأمور والأمير، والولد والوليد. أفنى به الذكور والإناث. فهم في سجن الأجداث إلى يوم الوعيد. أفلا يعتبر الغافل بمصرعهم. وقد أفناهم الموت بأجمعهم، وفرق شملهم بالتبديد؟ فكيف يغتر الإنسان وهو يعلم أن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ولم يكن عند محيد. أما كانت نفوسهم بذلك عالمة، وهي من الموت غير سالمة (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد). أين أهل المدن والحصون؟ أين أرباب المعاني والفنون؟ أين المحصنون بكل حصن منيع. وقصر مشيد؟ أين الأمم؟ أين أرباب القصور العالية؟ حق عليهم الوعيد. فلو عاينتهم في قبورهم، لعجبت من أمرهم. قد غير البلى أحوالهم، ومزق أوصالهم، ولم يعرف منهم الأحرار من العبيد. أما أصبح منهم ذو الشدة والبأس بعد القرب والإيناس، في ظلمة اللحود وحيد؟ ما وعظهم الموت بمن أخذ من شقي وسعيد، وقريب وبعيد؟ أما أنذرهم قول الملك الحميد (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد). عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: \"أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاشر عشرة، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله من أكيس الناس؟ قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم لما بعده استعداداً. أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرم الآخرة\". وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. فقلت يا رسول الله: أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت؟ فقال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه. والكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه\". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه. قال: فإن كان لابد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي\". فاجتهد أيها العبد في العمل الصالح. وأشفق من كأس لابد أنك ذائقه. وازهد في عيش لابد أنك مفارقه. فما أنت بعد الموت إلا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ما الميت في قبره إلا كالغريق المتعب ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديق له، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها\". إن القبر يناديك بلسان حاله ويقول: \"ويحك يا ابن آدم ما غرك بي ألم تعلم أني بيت الفتنة، وبيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود، وبيت التراب؟. فإذا زرت القبور يا أخي فلا تقل إلا خيراً، فإن الميت يتأذى بما يتأذى منه الحي. فما من رجل يمر على قبر أخيه المؤمن كان يعرفه فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام. يا بن آدم:

تناجيك أموات وهن سكوت ***وسكانها تحت التراب خفوت

أيا جامع الدنيا لغير بلاغة*** لمن تجمع الدنيا وأنت تموت

وإنكمو إذ ما علينا تسلموا***نرد عليكم واللسان صموت

نقلا من كتاب أصحاب النفوس المطمئنة للشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله -

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply