بسم الله الرحمن الرحيم
وإن غياب هذه الثقافة سيجعل الواعظ والخطيب معزولا عن الواقع، يحلق وحيدا في أجواء خالية، ويدور في حلقة مغلقة، بعيدا عن إدراك حاجة المجتمع، وتحديد مستلزمات الإصلاح، وتحقيق رسالة الوعظ، والقيام بواجب التوعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن جماهير الأمة المسلمة اليوم تتطلع إلى خطاب إسلامي أصيل وعصري، يقبس من مشكاة الوحي، ويتابع خطوات الحياة، ويسلط أشعة الشريعة الغراء على قضايا العصر ومستجدات الأحداث ومتغيرات الواقع التي يقف المسلم إزاءها في حيرة بين القبول والرد. ويعالج كل هذه القضايا بروح من وسطية الإسلام وشموليته، وتميز منهجه في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتفرد قواعده الأصولية وأحكامه الفقهية في القدرة على وصف واستنباط الحلول لمشكلات الحياة البشرية كلها.
ولا شك أن هذا الخطاب لا يتأتى إلا لمن تعاهد نفسه بالتثقيف المستمر، واعتنى بالقراءة والمتابعة والاطلاع.
ضرورة القراءة:
إذا كانت القراءة علامة على وعي الإنسان، وشاهدا على ارتقاء المجتمعات وتقدم الأمم، فإنها - لا شك - ضرورة لازمة لنخبة خاصة من الناس، وواجب أدبي وشرعي عليهم، أولئك هم صانعوا الوعي وموجهو الرأي في المجتمع.
وثمة طائفة من هؤلاء تحتل موقعا رئيسا على الحدود بين واقع توعية الجماهير ومستقبل هذه التوعية، ألا وإنهم الخطباء والوعاظ، سواء منهم من كان يعمل تحت المظلة الرسمية للدولة ومن كان عمله تطوعيا مستقلا.
ذلك أن طبيعة الواجب وقداسة المهمة التي يضطلع بها من تصدى للوعظ وانبرى للخطابة تفرض عليه أن يكون بصير القلب منفتح اللب. فصاحب القلب المبصر والعقل المستبصر أقدر على تشخيص العلة ومعرفة دوائها واتخاذ أفضل الوسائل لعلاجها.
ثقافة الواعظ والخطيب:
وإزاء ما تعانيه الأمة من جهل بالإسلام، وبُعد عن تمثل روحه وفهم رسالته وتخلف عن الالتزام بمنهجه الشرعي والأخلاقي في الحياة، إضافة إلى حجم التحديات القائمة في وجهه، وشراسة الحرب المعلنة عليهº إزاء ذلك كله، فإن ثقل الواجب الملقى على عاتق الدعاة إليه، ومنهم العاملون في الخطابة والوعظ في المساجد، يزداد ويكبر ليوازي حجم تلك التحديات الجسيمة والحرب اللئيمةº وهو ما يستدعي ألا تنحصر ثقافة الداعية المسلم في حدود التحصيل الأكاديمي للعلم الشرعي فحسب، وإنما تتجاوزه إلى حفظ القرآن الكريم، وما أمكن من الحديث النبوي الشريف، وإتقان اللغة العربية، والإلمام بثقافة العصر والاطلاع على ما أمكنه من علوم زمانه، ليكون ذلك كله مكملا لثقافته الشرعية، ومعينا على استكمال متطلبات القيام بواجب الوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإسلام العظيم.
وكما أن التحصيل الشرعي كان بالقراءة، فإن إتمام دور هذا التحصيل، وإكمال دائرته حتى يشرق نوره على كل ما حوله لن يكون إلا بنشاط واجتهاد ووسائل تشكل القراءة واحدة من أعظم قواعدها وأمكن أسسها.
فلن يملك الواعظ والخطيب أن يكون معالجا للواقع المريض إلا بمعرفة أمراضه وكشف أسبابها ووصف أدويتها، ولن يكون مصلحا في الناس ولا مؤثرا في نفوسهم ولا مغيرا في سلوكهم إلا بالعلم والحكمة والوعيº تلك التي تجتمع في إطار ثقافة خاصة لا يكتمل تحصيلها بغير القراءة الواعية المستمرة.
وهذه الثقافة ستكون سلاحه الذي يواجه به جهل الناس بقيم الإسلام وأحكامه، وانشغالهم المفرط بشئون دنياهم عن أمور دينهم، وغفلتهم عن اتخاذ الإسلام أساسا لإصلاح الواقع وبناء المستقبل. وستكون هذه الثقافة عونـا له على حسن النظر في سطور كتاب الواقع الذي تتلاحق فيه أنفاس الحياة، وتتعاقب فيه المستجدات والمتغيرات، وتدور فيه عجلة الأحداث بسرعة لا تمهِل حملة الدعوة وصناع الرأي وفرسان التوعية والتذكير.
وإن غياب هذه الثقافة سيجعل الواعظ والخطيب معزولا عن الواقع، يحلق وحيدا في أجواء خالية، ويدور في حلقة مغلقة، بعيدا عن إدراك حاجة المجتمع، وتحديد مستلزمات الإصلاح، وتحقيق رسالة الوعظ، والقيام بواجب التوعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
جفوة القراءة والفقر الثقافي:
ومما يثير الأسف أن فئة من الخطباء والوعاظ يكتفون بما حصَّلوا من علم شرعي، ولا يحاولون استكمال بعض النقص الظاهر في كفايتهم العلمية وأدائهم العملي، ويقفون من العلم عند حدهم ولا يتجاوزونه إلى الاستزادة من العلوم الأخرى والثقافة العامة، بل ربما قصروا في مذاكرة ما حصلوا من العلم الشرعي نفسه، فانعكس ذلك على خِطَابهم ووعظهم ضعفا ظاهرا عند بعضهم في اللغة إلى حد يزري بصاحبه، ونقصا ملحوظا لدى آخرين في إتقان أساليب التوصيل والعرض والإقناع، واضطرابا لدى بعض منهم في تناول قضايا عصرية معينةº وهو ما يشي بضحالة فكرية وفقر ثقافي، وتقصير في واجب الإعداد العلمي لخطبته والتحضير المنهجي لدرسه وموعظته.
ونتج عن ذلك أن انعكس فقر خطابهم الوعظي وضعفه على مستمعيـهم ومصلِّي مساجدهم، فمن جمهورهم من استسلم للأمر الواقع على مضض، ورضي بأن يكون مع الأغلبية الصامتة، ومنهم من رفع عقيرته بالاحتجاج، وعبَّر عن امتعاضه بالشكوى المسموعة، ومنهم من شد الرحال إلى مساجد أخرى يبحث عن خطاب أكثر تأثيرا وإقناعا.
ولذلك فإن على الواعظ والخطيب أن يصحب الكتاب، وألا يجفو القراءة، وعليه أن يستزيد من العلم، ويزاول الاطلاع على المصادر الثقافية العصرية ولا سيما المجلات والدوريات التي تعتبر من أهم روافد الوعي بالحاضر ونوافذ الاطلاع على واقع الحياة.
شهادة إنصاف:
ومما يقتضيه الإنصاف أن نشهد بأن نفراً قليلا من الخطباء والوعاظ، سَمَت بهم همتهم، ووطنوا أنفسهم على القراءة والبحث والاستزادة من العلمº ليؤدوا واجبهم على أكمل وجه، فسدوا ثغرتهم وأحسنوا أداءهم، وارتقى خطابهم إلى درجة التأثير وإحداث التغيير في نفوس الكثيرين من الناس، فتزايد جمهورهم وكثر محبوهم. وقد استحق هؤلاء المتميزون من الخطباء والوعاظ أن تُسجَّل خطبهم ومواعظهم على الأشرطة يتداولها الناس، وأن تـنـشر دروسهم ومواعظهم في كتب مستقلة.
وليس كل هؤلاء من ذوي التخصصات الشرعية، وليسوا جميعا من حملة الشهادات العليا، فثمة مهندسون ومعلمون في المدارس وحملة شهادات شرعية دون درجة الماجستير والدكتوراه تهتز لخِطابهم النفوس، وتخشع لموعظتهم القلوب، وتتفتح العقول لدروسهم، ويشتاق الناس لمجالسهم ومحاضراتهم.
وفرة مصادر المعرفة:
إن تحصيل الثقافة المناسبة لدور الواعظ والخطيب لا يقتصر على المعلومات الشرعية المجردة، بل يمتد إلى مساحة تتسع للإلمام بقدر من علوم اللغة والتربية والنفس والاجتماع والتاريخ والتراجم والسير والملل وما تيسر من العلوم الأخرى. ومما لا ريب فيه أن ذلك متعذر من غير مداومة القراءة ومواصلة الاطلاع، والبقاء على تواصل دائم مع مصادر المعرفة التي باتت في أيامنا سهلة قريبة من الجميع.
فأكثر المساجد اليوم فيها مكتبات توفر قاعدة مرجعية للخطيب والواعظ، والمكتبات العامة توفر من المراجع الموسوعية والكتب والمجلات والصحف ما يقضي حاجة القارئ والباحث. ولا ننسى الإشارة إلى أهمية الإفادة من منجزات الثورة المعلوماتية المعاصرة، وما تفتحه من أبواب الاطلاع على أنواع العلوم وألوان الثقافة المنشورة فـي مئات وآلاف المواقع على شبكـة المعلومات العالمية (الإنترنت)، وما توفره الأقراص المدمجة التي تختزن المعلومات، وتستوعب الموسوعات العلميـة الكثيرة وتضعها فـي لحظات قليلة بين يدي القارئ.
ويبقى المتصدي لواجب الخطابة والوعظ في حاجة ماسة إلى التزود من مصادر العلم والمعرفةº ليغذي خطبته وموعظته، ويثريها بالشواهد والنصوص والاقتباسات المناسبة، ويستطيع مواكبة المتغيرات والمستجدات، وليكون حاضرا بخطاب أصيل متميز قادر على الاستجابة لمطالب الواقع.
القراءة تجدٌّد وتجديد:
وهذا نداء خاص أتوجه به في نهاية هذا المقال إلى السادة الخطباء والوعاظ، وهمسة في آذان هذه الصفوة القيادية التي تسنمت موقعا رياديًّا مرموقًاº إذ ارتقت منابر المساجد، وتبوأت بإرشادها ومواعظها مقاما قياديا متقدما في حياة المجتمع. أقول:
اقرءوا يا سادتيº فإن الأمة تنتظر قطوف قراءتكم، اقرءوا بالعين والعقـل والقلب، فالقراءة طاقة معرفية تحرك العقل وتمد مساحة الوعي الفكري بزاد متجدد. وهي نمو يمضي بالإنسان نحو النضج العقلي والروحي والأخلاقي والاجتماعي. إن القراءة حركة إلى الأمامº ندرك بها مسيرة الحياة، ونطلع بها على متغيرات العصر.
اقرءوا لأن القراءة تنوير للذهن، وإضاءة لأجواء النفس، تعين على كشف خفاياها ومعرفة مزاياها وإدراك عيوبهاº ولأن القراءة فتح لمغاليق البصيرة، وسبر لأغوار الطريق، واستكشاف لآفاق المجهول.
اقرءوا لأن القراءة قوة للعقل وزاد للروح وإرواء للقلبº ولأنها عبادة لله - تعالى -وقربة نؤجر عليها إذا صدقت النية وصح القصد، إذ هي استجابة لأول أمر إلـهي نزل في القرآن الكريم: \"اقرأ باسم ربك الذي خلق\".
اقرءوا، فالقراءة استزادة من العلم \"وقل ربِّ زدني علما\"، وهي تمرين فكري يسمو بإنسانيتـنا إلى مستـوى الفهـم عـن الله - تعالى -.
اقرءوا، فالقراءة تصفية لعدسة التأمل \"ويتفكرون في خلق السماوات والأرض\"، وتجلية لعين الكشف \"قل سيروا في الأرض فانظروا\"، وتقوية لملَكة الاستنباط وتوسيـع لدائـرة الرؤية، وتنمية لملكات التصوير والتحليل والمقارنة.
اقرءوا يا سادتي لتتجددوا، ولتجددوا غيركم، ولتتغيروا وتغيروا في الناس، \"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم\".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد