بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
يقول الله - عز وجل -: \"ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ\"
وإن من أعظم الفساد فساد ذات البين الناجم عن اتباع الشهوات أوالشبهات.
إن الأهواء والشهوات تدفع إلى ظلم الغير في سبيل تحصيل الشهوة فيقع الخلاف وينشأ الافتراق \"فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيس للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع \"الذات\"في كفة، والحق في كفة وترجيح الذات على الحق ابتداء!.. ومن ثم جاء هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات \"الضبط\"التي لا بد منها في المعركة.. \" \"يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُم فِئَةً فَاثبُتُوا وَاذكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُم تُفلَحُونَ * وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ\".
وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل..
وأما الشبهات والتأولات الفاسدة، فتبعد الناس عن الحق إلى أقوال وآراء متباينة، ومن أظهر ذلك الافتراق الذي وقع في الأمة بانحراف ثنتين وسبعين فرقة عن الجادة.
كما أن اتباع الشهوات والشبهات سبب لعدد من الآفات الكفيلة بتمزيق الصف وتفريق الأمة، ولعل من أهمها ما يلي:
أولاً: البغي:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو صاحب تجربة واسعة مع المخالفين، قال - رحمه الله - (الفتاوى 14/482-483): \"وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات و القرآن محنة أحمد و غيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: \"ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا\".
ثانياً: الغرور بالنفس:
فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي، والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأ، ويستخف بأقوال الآخرين، ولو كانت صواباً، فالصواب ما قاله، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلاً واتهم نفسه، وعلم أنها أمارة بالسوء، لدفع كثيراً من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله - تعالى - له: \"فَبِمَا رَحمَةٍ, مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُم وَلَو كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلبِ لَانفَضٌّوا مِن حَولِكَ\" (آل عمران: من الآية159)، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين، فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحاً.
ثالثاً: سوء الظن بالآخرين:
فهو ينظر لجميع الناس بالمنظار الأسود، فأفهامهم سقيمة، ومقاصدهم سيئة، وأعمالهم خاطئة، ومواقفهم مريبة، كلما سمع من إنسان خيراً كذبه، أو أوَّله، وكلما ذُكر أحد بفضل طعنه وجرحه، اشتغل بالحكم على النيات والمقاصد، فضلاً عن الأعمال والظواهر، والمصادرة للآخر قبل معرفة رأيه، أو سماع حجته. ثم هو لا يتوقف عند هذا الحد، بل لسانه طليق في أعراض إخوانه، بسبهم، واتهامهم، وتجريحهم، وتتبع عثراتهم، فإن تورع عن الكلام في أعراض غيره من الفضلاء، سلك طريق الجرح بالإشارة، أو الحركة، بما يكون أخبث وأكثر إقذاعاً، مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر. \"وأنت ترى هؤلاء الجراح القصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحاً) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان! \"
رابعاً: حب الظهور بالجدل والمماراة:
ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعاً، وقد يكون قلة الفقه أوالفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.
وقد روى الإمام أحمد وغيره عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: \"ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون\".
قال الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة - رحمهما الله -: \"الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة. لو كانت فضلاً لسبق إليها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر، وقال الله تعالى: \"فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن\" [آل عمران: 20]، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججاً، وقال له: قل كذا وكذا\".
وقال ابن قتيبة - رحمه الله - يصف الحال في أيام السلف عليه الرحمة والرضوان: \"كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع وفيما قد انقرض.. وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصاً على غريبة، ورداً على متقدم...
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى، فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى..\".
فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس: \" قلت للحكم بن عتبة: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات\".
وقد روي عن أبي قلابة وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.
قال معن بن عيسى: \"انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبوالحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: ياعبدالله! اسمع مني شيئاً أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأيي.
قال: فإن غلبتني؟
قال: إن غلبتك اتبعني.
قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟
قال: نتبعه!
فقال مالك - رحمه الله -: يا عبد الله بعث الله - عز وجل - محمداً - صلى الله عليه وسلم - بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين\".
وقال عمر بن عبدالعزيز: \"من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل\".
وجاء رجل إلى الحسن فقال: \"يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه\"!
وإذا كان الجدل والمراء والخصومة في الدين مذمومة على كل حال فإنها تتأكد في حق المقلدة والجهال.
ويتأكد ترك المراء والجدل في كل مالا طائل من ورائه كملح العلوم والنوادر، وما لا يثمر عملاً غير السفسطة والتلاسن.
أسأل الله أن يجنبنا وإياكم فتن الشهوات والشبهات، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يؤلف بين قلوبنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد