طاحونة بلا بذار


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

عَهدُنا بالطواحين أنها قوية تخرج لنا الدقيق من بين الرحى الدائر المتحرك، ولكن إذا كانت الطاحونة بلا بذار فإنها تطحن نفسها، وتُهشِّم وجه الرَّحَى، ولن تعطي دقيقًا، إنما حصى منها وغبارًا.

 

إن الداعية الذي كان يومًا ما مفوهًا إذا تكلم، يُشار إليه بالبنان إذا خطط، أو اقترح، أو نفذ، الداعية الذي كان يومًا ما ينثر الدرر، ويأتي بأطيب الكلام وأحسن العِبَر، ويأتي في كل يوم بلون جديد: جديد في الأسلوب، وجديد في الأداء، وجديد في الفحوى والجوهر، وجديد في النشاط، فإنه يبقى في أعين الناس معايشًا للواقع، متماشيًا معه، متدرجًا مع نضوج أذهان وأفهام المجتمع من حوله.

 

أما من يستبعد الجديد والتغيير، يبقى كطاحونة بلا بذار، يطحن بنفس الأسلوب، ونفس الفحوى، ونفس العبارات والاقتراحات والنشاطات، فتتغير صورته في ذهن من حوله وتتبدل، فقد نضجت عقولهم وأفهامهم، وتوسعت مداركهم، فما صلح لهم بالأمس، أصبح اليوم صالحًا لغيرهم، فإنهم ارتقوا في مكانهم وأفهامهم، ولكنهم ما زالوا يتلقون ما دون حاجة الوقت، وحاجة الواقع، فلن يزدادوا بهذا الجمود والتكرار إلا شعورًا بأن الدعاة يستهينون بنضوجهم، أو ربما يستخفون بعقولهم، فالطفل الذي كان يحبو قد صار يمشي، فلم تَعُد \"اللهاية\" تشغله عن أن يسأل عن كل غريب حوله وكل جديد يلقاه.

 

فلنجدِّد العمل، ولنجدِّد كذلك الهمة والنشاط ونوع الخطاب والفحوَى والمخطط، ولنعدِّل الرسومات القديمة بلا تردد ولا استحياء، فما كان بالأمس صالحًا، قد يمسي اليوم غير ذلك.

 

كما أن من الطحين بلا بذار أيضًا أن تقول ما لا يفهمون،

 

وتكتب ما لا يقرءون، وتَعِظ ما لا يسمعون، أو تسعى إلى ما يستغربون، حينها ينبغي أن تفتش في جنبات نفسك، وتحدِّق في آثار قدمك، علَّ ذرة غبار من تقصير عالقة في ثوبك، أو رُبَّ حِملُ ذنب يُثقل ظهر رَحلك، وعساه فتور اعترى همتك، فالقارئ والمستمع صورة عاكسة لهمّتك، وسرّك وعلانيتك، وقيام ليلك أو رقودك، وجوع الهجير أو فطرك، وقوة اليقين أو ضعفك، فلا تبرح من دائرة اتهام ذاتك، ولا تكن عونًا للشيطان على إخوانك الدعاة، فالكبر فيك قاتل لروح الدعوة في سواك، وتنكرك للمحسن مُعَوِّق لحركة النور والأضواء، وحسدك للناجحين مُغرِق في كثرة الآفات والزلات، إن أول ما يشتد عليك في طول الطريق هم مَن حولك، قد لا يفهمونك، أو قد يخذلونك، أو يحسدونك، فاصطبر على هذه الشدة، واستعذب مُرَّها، وانتظر شمس البذارº لتقطف حلو الثمار، فالجأ إلى الركن الشديد ربك، وارفع إليه شكواك وضيق كربك، وتب عن كل تقصير، وهُبّ في الأرض وانثر البذور، فلا يعطلنك ظلم ظالم، ولا اغترار مغرور، ولا مسيء أدب عن إكمال المسير.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply