بسم الله الرحمن الرحيم
أثرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقوال كثيرة نهى فيها عن التكلّف في الكلام، وعن المبالغة فيه، وحذّر من التشادق التنطعº فإن ذلك كله يبعد الكلام عن الصدق، ويصمه بوصمة الكذب والغلو، فيفقد تأثيره، وينحجب عن قلب المتلقي ويوقع صاحبه تحت شبهة النفاق والتزلق والتزيد وتزوير الحقائق.
قال - عليه الصلاة والسلام -: (هلك المتنطعون) أو (هلك المكثرون) وقال في حديث آخر: (أن أبغضكم أليّ، وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون) والتشدق: لوي الشّدق بالكلام تفاصحاً والتفيهق: التوسع والتنطع والتبختر.
وإن البلاغة في المنظور العربي الإسلامي- لتنفر من التكلف في القولº لأن التكلف يجافي الصدق كما ذكرنا-، وهو في الوقت نفسه نتاج الكدَّ والاستكراه. وهو لا يدل على طبع سليم، أو سليقة أدبية صافية.
ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنا وأتقياء أمتي برآء من التكلف)، وأن التفاصح والتفيهق في الكلام زيادة على ما فيهما من معنى التكلف والسماجة- يحملان معنى الغرور والتطاول على الناس، إذ نجد المتشدّق أو المتفيهق يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه ويضرب به تكبراً أو ارتفاعاً وإظهار للفضيلة على غيره. وقد أشار حديث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الدلالة عندما قالوا له: \"يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون\".
وقد أكثر النبي - عليه الصلاة والسلام - في مواطن التعليم والإرشاد وفي موطن وضع التصور الإسلامي لفن القول به من التنفير من أي تقعر في الكلام أو تصنع في التعبير فقال: \" إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها\".
والتفت - عليه السلام - إلى القوم الذين جاؤوه وكلموه في شأن الجنين الذي مات فقالوا له: \" كيف ندي من لا شرب ولا أكل ولا صاح فاستهل، أليس دمه قد يُطلّ\" التفت إليهم ناعياً عليهم تكلّفهم، ذاماً سجعهم المصطنع المقيت، وقال: \" أسجاعة كسجاعة الجاهلية\" وفي رواية \" أسجعاً كسجع الكهان\".
إن تكلف الكلام والتصنع فيه وإن اصطياد الألفاظ الوحشية، والكلمات الغريبة المهجورة غير المألوفة مما ينفر منه الذوق الأدبي السليم وفطرة الإنسان الأدبية السوية، وهي أبعد ما تكون عن جماليات الأسلوب، وبلاغة القول، وتحسين الكلام.
وعلى أن هنالك فرقاً بعيداً بين تحسين الكلام والاهتمام به باختيار الألفاظ وانتقاء الكلمات وبين هذا الصنيع المقيت الذي نفَّرت منه الأحاديث الشريفة التي أوردنا بعضها. وقد أشار إلى ذلك الإمام الغزالي عليه رحمة الله- في كتابه العظيم (إحياء علوم الدين) فبيّن أن الأول مطلوب، لأن تحسين الألفاظ ودقة انتقاء الكلمات، وتخيّر الرشيق الأنيق منها هو من أصول البلاغة، وهو ركن ركين فيها، ولكن الثاني وهو التكلّف التصنّع- بفيض مكروه، لأنه يورث الكلام فجاجة وهجنة، ولأنه بعيد عن الصدق والعفوية.
قد وجّه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله: (إن من البيان لسحراً) توجيهنº فقال قول إنه مدح، وقيل إنه ذم، فأما المدح فلا يخفى وجهه، وهو أن البيان يؤثر في النفس فيحملها على تقبل الحق، والأنس به، والاستجابة له والمبادرة إلى العمل به. وأما وجه الذم -عند من حمله على هذا الوجه- فهو عندما يلجأ صاحبه إلى التصنّع والتكلف ليستميل الناس، ويعطف على القلوب، فيزيف لها الحق باطلاً والباطل حقاً فكأنه يسحرها عن الحق، ويُلَبّسه عليها، ويجمّل لها صورة الباطل، ويحسّنه في عينها.
وانظر إلى قول العلامة الخطابي في هذا الحديث في معالم السنن، قال: \" اختلف الناس في تأويله، فقال بعضهم: وجهُه أنه ذمّ التصنّع في الكلام، والتكلف لتحسينه وتزويقه ليروق السامعين، ويستميل به قلوبهم، فيحيل الشيء عن ظاهره، ويزيله عن موضوع، إرادة التلبيس... \".
إن الكلام في مثل هذا التوجيه- شراك لخداع العقول، وتزييف الحقائق، وهو يتذرع بطلاء التكلف، وبهرجة الألفاظ، لتحقيق هذا الخداع، سحر النفوس عن الحق. ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث نهى فيه عن اصطناع حسن الكلام وبلاغة القول لمثل هذه الغاية الدنيئة، وهي اصطياد النفوس وسبيها من غير صدق أو حق. قال - عليه السلام -: \" من تعلّم صرف الكلام ليسبي به عقول الرجال لم يقبل الله له يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً\".
وهكذا يبدو الصدق ومجانبة التكلف والمبالغة والغلو من ملامح فن القول في التصور الإسلامي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد