ولستُ أدري لماذا لم يَعُد يُتحدَّث عن دور الأدب ووظيفته، وصار الحديثُ كلٌّه يتَّجه إلى بيان طبيعته ولا سيما اللٌّغوية منها؟!
هل انقطعت صِلَةُ الأدب بالحياة والمجتمع، ولم يَعُد كما يُرَادُ له أكثرَ من بناءٍ, لُغويٍّ, متميِّزٍ,؟
وما على المتلقِّي في هذه الحالة أيّاً كان سوى البحث عن هذا البناء والاشتغال به، وإلاَّ عُدَّ متلقِّياً متخلِّفاً، يتعاملُ مع الأدب بمعطياتٍ, قديمةٍ, باليةٍ,.
إنَّ واقعَ الحال يَشهَدُ أنَّ الأمر ينبغي أن يكونَ على النَّقيض من ذلكº فالالتزامُ اليومَ مَطلَبٌ حضاريُّº لأنه يَعني تواصلَ الإنسان مع العصر، وعَيشَهُ فيه.
وهذا عصرُ الأفكار، و(الأَيدِيُولُوجِيَّات)، والمذاهب الفلسفية والسياسية والاجتماعية، ولا يمكن أن يعيش الإنسانُ مشاهِداً ذلك كلَّه من غير أن يكون له موقِفٌ.
يقول الناقد الفرنسي (ماكس أوبريث): \"ظهر مصطلحُ (أدب الالتزام)، أو (أدب المواقف) نتيجةً لتأثير (الأَيدِيُولُوجِيَّات) الحديثة في الأدب، التي تَظهَرُ بالرٌّغم من تعدٌّدِها وتبايُنِها في شيءٍ, واحد، وهو أنها تُبرِز المتغيِّراتِ الاجتماعيةَ السياسية لعصرنا. ومن أجل ذلكº فإنَّ هذه (الأَيدِيُولُوجِيَّاتِ) تُجبِرُ كلَّ امرئٍ, منَّا أن يُعِيد فحصَ موقِفِهِ نقديّاً من العالم، ومسؤوليَّتِهِ نحو الآخَرِين\"[1].
وإذا كان هذا من شأن أيِّ إنسانٍ, متحضِّرٍ, يَحترِمُ عقلَهº فما بالُكَ إن كان هذا الإنسانُ مفكِّراً أو أديباً؟!
إنَّ وقوفَه على الحياد، أو موقفَ عدمِ المبالاة، أوِ انسحابَه إلى عوالِمَ ذاتيَّةٍ, أو خياليَّةٍ, لَعارٌ ما بعده عارٌ، وهو في حقِّ المسلم أكثرُ عاراًº فقد جعله الله مستخلَفاً في الأرض، وشاهداً على النَّاس.
إنَّ على الأديب - وهو رائدٌ لا يكذِب أهلَه - أن يَنظُرَ فيما حوله، وأن يحدِّدَ موقِفَهُ بجلاءٍ, ووضوحٍ,º ليعرفَ أين يضع قَدَمَهُ، وفي أيِّ جهةٍ, يسيرُ.
إنَّ الالتزامَ بهذا المفهومِ هو حيويةٌ وإيجابيةٌ، إنه يَعني في هذا الواقع المتحرِّك بسرعةٍ, أنَّنا طرَفٌ فيه أو جزءٌ منه، نُساعدُ في صُنعه، وفي تحمٌّل مسؤوليَّة ما يجري على سطحه، بدلاً من أن ننظر إليه مشدوهين حيارَى، أو نجريَ وراء الآخَرِين مثلَ قطيع الأغنام.
وإنَّ الالتزامَ يجعلُ الأدبَ نشاطاً جادّاً فعَّالاً، ذا تأثيرٍ, في مسار الحياة، وفي حركتها - وذلك يُكسِبُه المصداقيَّة والقيمة، ولو أخذنا برأي أصحاب (الفن للفن)، وبرأي بعض المدارس الحَدَاثِيَّة المعاصرة، التي تنحو منحى (الفنِّ للفنِّ) على صُوَرٍ, مختلفةٍ,º لسَقَطَت منزلةُ الأدبº لأنه سيتحوَّلُ عندئذٍ, إلى حُلىً لفظيَّةٍ,، وزخارفَ كلاميَّةٍ,، لا غرضَ لها أبعد من ذلك.
إنَّ الالتزام يجعل الأدب غَيرِيّاً، مرتبطاً بالآخر، منشغلاً به، ينبِضُ بهمومه وإحساساته، ويعيش أفراحَهُ وأتراحَهُ، بدلاً من انغلاقه على ذاته، واجتِرَارِهِ مشاعرَ فرديةً، أو هُيَامِه في أودية الخيال المسرِِف المُجَنّح.
إنَّ الالتزام يتماشى مع سُنَّة الله في الكونº ومن ذلك الكلمةº فهي أمانةٌ ومسؤوليةٌº بل هي أعظمُ مِنَّةٍ, امتَنَّ الله بها على الإنسانº {الرَّحمَنُ * عَلَّمَ القُرآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} [الرحمن: 1-4].
ولابدَّ للأدب الذي مادَّتُه الكلمةُ أن يكونَ ككلِّ ما خلق اللهُ ذا هدفٍ,º إنَّه ابنُ الحياة، وعليه خدمتُهاº وذلك بمعالجة مشكلاتها، أو محاولةِ تجميلِها، أو تقديمِ تفسيرٍ, لها، أو الكشفِ عن أسرارِها، أو إيضاحِ الغَرَضِ منها، أو بيانِ الحقِّ والباطلِ فيها، وهو بذلك كلِّه يُعينُ الإنسان على العَيش فيها، ويكون له هادياً في طريقها اللاحب البعيد.
كان (وردز ورث) يقول: \"كلٌّ شاعرٍ, عظيمٍ, معلِّمٌ. وأُحبٌّ أن يَعُدَّني النَّاسُ معلِّماً، أو لا شيءَ\"[2].
الالتزامُ وليدُ الحرِّية:
والالتزامُ وليدُ الحرِّية، وهو لا ينمو إلا في أحضانها، ولا يترعرعُ ويَفرَعُ إلا في تُربتها الخصيبة.
إن الالتزام لا يكون قَسراً أو إكراهاً، وإلا فهو \"إلزامٌ\" لا \"التزامٌ\"، وشتَّانَ ما بينهما.
الالتزامُ ابنُ الاختيار، والإلزامُ ابنُ الإجبار. الأوَّلُ ثمرةٌ من ثمرات الوعي والإدراك واليقظة والمسؤولية، والثاني من ثمرات التَّغييب والإملاء والتَّسيير، وشتَّانَ ما بينهما.
إنَّ كلَّ أديب \"مُلتزِم\" هو أديبٌ حرُّ شريفٌ، وإنَّ كلَّ أديب \"مُلزَم\" هو أديبٌ \"مُسَيَّس\" مستعبَد، مَبِيعٌ أو مُشترًى، وشتَّان ما بينهما.
قد تختلف مع أديبٍ, يلتزم فِكراً غيرَ فِكرِكَ، أو يدعو إلى رؤيةٍ, غيرِ رؤيتِكَ، ولكنَّكَ لا تَملِك إلا أن تَحتَرِمهº لأنه مُخلِصٌ لِمَبدَئِهِ الذي يدعو إليه. تُجِلٌّ فيه هذا الإخلاصَ لأنه يَعتَقِدُ أنَّه الحقٌّ، ولكنَّه ما إن يتذبذب ويتملَّق، ما إن يُحابي ويُداجي، حتى يَسقُط من عينِكَ، وإن كان يرمي بسهمِكَ، ويَنطِقُ باعتقادِكَº لأنَّ حرارة الصِّدق خَبَت فيما يقول، والصِّدقُ عمودُ كلِّ كلامٍ, مؤثِّرٍ, مُقنِعٍ,.
إنَّ الأديبَ الملتزِمَ كالطائر السَّابح المُنطلِق، لا قَيد يُمسِكُه، ولا غل يلتفٌّ حول يديه، أو جناحيه، أو عُنُقِهº إنَّه يمضي في هذا الفضاء الرَّحب الفسيح، شادياً للحرية والبهاء والجمال..
ولكنَّ الأديبَ المُلزَم هو كالطائر الحبيس، لا يشفعُ له في سَجنه جمالُ قَفَصِه، أو أعمدةُ الذَّهب التي صُنع منها هذا القفصُ، أو نفاسةُ الأَسوِرَة التي وُضِعت في مِعصَمِهº إذ حَسبُه عاراً أنَّه سجينٌ، لا يحلِّقُ إلا في هذا القفص الذي أُريدَ له أن يحلِّقَ فيه.
الالتزام إذاً ليس قَيداً كما يدَّعي أعداؤهº بل هو الحريةُ عينُها، ولكنَّها الحريةُ الواعية المسئولة، الحريةُ التي تَحمِلُ رسالةً تُريدُ إبلاغَها، وليست الحريةَ الزَّائفةَ المنطلقةَ على غير هدى.
يقول (توفيق الحكيم): \"الالتزامُ المُثمِر للفنَّان - في رأيي هو الالتزام الذي ينبع من طبيعته، وهنا لا يتعارض الالتزام مع الحريةº بل هنا ينبع الالتزام نفسه من الحرية. لذلك لم أَقُل لأديبٍ, أو فنَّانٍ,: التَزِمº بل قُلتُ وأقولُ: كُن حُرّاً.. \"[3].
ويقول (الحكيمُ) في موطن الدِّفاع عن الحريَّة التي هي حارسةُ الالتزام وهي مصدرُهُ الحقيقي: \"إنَّ الأديب يجبُ أن يكون حرّاًº لأنَّه إذا باع رأيَهُ، أو قيَّد وِجدانَهُ، ذهبت عنه في الحال صفةُ الأديبº فالحريَّة هي يَنبوع الفن، وبغير الحريَّة لا يكون أدبٌ ولا فنُّ..
يجبُ أن يكون الالتزامُ جزءاً من كِيَان الأديب، ويجب أن يلتِزمَ وهو لا يشعرُ أنَّه ملتزِمٌ، مَثَلُهُ مَثَلُ حَمامِ زاجلٍ, ينقُلُ رسالةً وهو حُرُّ طائرٌ، لا يَشعُرُ بقَيدٍ, في ساقه، ولا بِغُلٍّ, في جناحه.. \"[4].
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] ضمن كتاب: في النقد والأدب، ترجمة عبد الحميد شيحة، القاهرة (ص112).
[2] انظر: فن الشعر، لإحسان عباس (ص 17).
[3] أدب الحياةº لتوفيق الحكيم.
[4] أدب الحياةº لتوفق الحكيم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد