على أديمك أيها البحر ..!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

(1)

على الرغم مما في قصص بعض المحبين من عفوية وبراءة قد يظن بعضهم أنها تخرم المروءة، لكنها في الحقيقة عزف على الإيقاع بأجمل الألحان، والحب لا يقف عند المشاعر الصادقة والصافية نحو المرأة التي اعتاد العربي أن يراها ملهمة له، ورمزا للخصب والحياة... بل إن القلب الذي يسكنه الحب يوزع على كل من حوله من هذا النبع الغمر الصافي... فتجده ودوداً مع كل من حوله: أبنائه وبناته وإخوانه وجيرانه وأصدقائه.. لأن الحب لغة القلوب الشفافة التي لا تحتمل أن تجرح مشاعر الآخرين بل تحرص كل الحرص على إدخال البهجة والسعادة إلى قلوبهم... والوداعة والرقة عناوين لحروفهم النابضة بالحب الراقي، والنازفة أحيانا بتجارب تستحق التعاطف والإعجاب، والتدوين والرواية...

وهاهو ذا الأصمعي الذي لا يُبارى في العلم والوقار والأدب يروي:

يقول الأصمعي: بينما كنت أسير في الباديةº إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت:

أيا معشر العشـــــاق بالله خبّروا *** إذا حلّ عشقٌ بالفتى كيف يصنعُ

فكتبتُ تحت البيت التالي:

يداري هواهُ ثم يكتمُ سرَّهُ *** ويخشعُ في كلِّ الأمور ويخضعُ

يقول: ثم عدت في اليوم التالي، فوجدت مكتوباً تحته هذا البيت:

وكيف يداري والهوى قاتلُ الفتى *** وفي كل يومٍ, قلبُهُ يتقطعُ

فكتبتُ تحته البيتَ التالي:

إذا لم يجد صبراً لكتمان سرّه *** فليس له شيءٌ سوى الموتِ ينفعُ

يقول الأصمعي: فعدت في اليوم الثالث، فوجدت شاباً ملقًى تحت ذلك الحجر ميتاً ومكتوبٌ تحته هذان البيتان:

سمعـــنا أطعـــنا ثم متـــنا فبلّغوا *** سلامي إلى مَن كان بالوصل يمنعُ

هنـيــئـاً لأربـابِ النعـيـمِ نعــيـمُهــم *** وللعاشـــقِ المسكــينِ مــا يـتجرّعُ

 

لا شك أنها تجربة إنسانية موجعة قامت على نوع من الغزل العذري العفيف الذي يلهب الصدور بالشوق، ولا يزيد العاشق الولهان فيه عن أن يبلغ رسالة للحبيبة أنه يحبها وهؤلاء لم تكن تزد أمنياتهم عن نظرة من الحول إلى الحول...

وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي *** أواخره لا نلتقي وأوائله

 

وقد تكون المفاجأة التي تعقد اللسان أن هذا العاشق كان حبه من طرف واحد، وأن مشاعره محض وهم، وحلم من أحلام النهار البيضاء!!

 

(2)

علمتني الأيام أن من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس

واستبان لي في هذه الحياة أن التقوى حرز يحفظ المؤمن، يهوّن عليه ما قد يلاقيه من عثرات وصدمات، وهي صمام الأمان الذي يجعل المؤمن لا يغيب عن باله أن أعماله قيد الشرع وهواه، لا قيد هواه وأهواء الناسº لذلك تكون مصدر راحة للنفس وسلام معها حين تتلبد سماء النفس بالغيوم وتعصف بها الأنواء.. والتقوى بعدُ مدعاة لأن يتحصل القبول لصاحبها في الأرض والسماء، فيحبه الله، ويحبه الناس، ويسير في الحياة أليفا مؤلفا مهيبا معززا مكرماً...

 

إلهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

 

أنت وليّي، فاجعلني من عبادك الصلحاء الأتقياء الأخفياء

 

فليتك تحلو والحياة مريرةٌ *** وليتك ترضى والأنامُ غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ *** وبيني وبين العالمين خرابُ

إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هينٌ *** وكلٌّ الذي فوق التراب ترابُ

اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً..

 

(3)

استبان لي أن خريف الحياة بهدوئه ووقاره أجمل من الربيع بجماله وضجيج فتنته وروائه...

وكل ما دبّجه الشعراء عن الخريف كذب وهراء ومحض اختلاق... مؤامرة رخيصة حاكوها مع الأزهار والأوراق ضد أمهم الحنون... كل هذا الكلام ليس رأيي، ولكنه رأي صاحبي الفيلسوف...

كان أستاذنا رئيس قسم اللغة العربية أيام الدراسة الجامعية يقول لنا بشيء من الاعتداد والصرامة: صحيح أنتم شباب متقد، ونحن كهول شيوخ، أنتم تملكون الحماس والحيوية، لكننا نملك الحكمة والخبرة والإرادة والتجرية.... كل شيء في حياتنا سيّجناه بالعقل وطرزناه بالحكمة، حتى غدت حياتنا سعيدة سعادة مجنحة وأصبحت بالألوان.... ويدعي صاحبي فيقول:

حتى على صعيد الحيوية فمن قال إن سن الخمسين تنطفئ فيه الجذوة ويضعف فيه العُرام... ؟!

لقد أخبرني صديق في لحظة صفاء ووداد أنه يعيش خمسينه أجمل مما كان يعيش عشرينه أو ثلاثينه أو أربعينه... يقول لي... يا أخي الحمد لله أنا سعيد سعيد...

وأخشى على نفسي من نفسي على هذه السعادة... !! كنت أخشى زحف الخريف فإذا الخريف أجمل أيام العمر!!

فقلت له: حسبٌك حسبٌك من نفسكº فإن لها عليك من نفسك على نفسك رقيباً.. وما ضرّ امرأً من حاسدٍ, مثلُ نفسه!!

 

(4)

ومما استبان لي في هذه الحياة على وجه اليقين أن لا حيلة في الرزق، ولا اختيار في الحب، ولا مغالبة في القسمة والنصيب في الزواج.

تعيش دهرك تنتظر الحياة الرغيدة والرزق الوفير، وتجتهد في السعي والكد والحصول على الشهادات التي تمنحك تصريح ولوج الحياة وطرق أبواب الرزق وأسبابه، لكنك تُفاجأ أنها تستعصي عليك وتعلمك كل يوم درساً... ففي يوم تجتهد فيه وتبلغ المنى غايتها وتقول: آه لقد بلغت، وانفتحت لي أبواب السماء، واستجاب الله الدعاء!! ثم لا تلبث أن تعود مكسور الخاطر، عليل النفس على ضياع الرزق الذي حسبت أنك قد قبضت عليه فإذا هو كالماء يخرّ من بين يديك فكنت كالقابض على الماء... وفي المقابل تجتاحك أحياناً مشاعر قلقة نحو رزقك، حتى تكاد تصرح بلسانك: وكيف لي أن أحل هذه المعضلة؟ وأنى للرزق أن يأتي؟ فإذا به يأتيك يحبو على غير موعد، وأنت غير مجروح الفؤاد...

أما الحب فحين يطرق بابك فمن المتعذر عليك ألاّ تستجيب، وتغلق النوافذº فالمنافذ التي يمكن أن يتسلل منها كثيرة، إن استطعت أن تغلق واحدة انفتحت عليك أبواب، وإن سكّنت جرحاً تفتقت جروح...

 

بكلٍّ, تداوينا فلم يُشفِ ما بنا *** على أنّ قربَ الدار خيرٌ من البعدِ

 

ولا داء للحب إلا بالوصال الشريف الذي أراده الله لنا... إنّه الزواج سنة الله في خلقه... (وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزوَاجاً لِتَسكُنُوا إِلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكُم مَوَدَّةً وَرَحمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ, لِقَومٍ, يَتَفَكَّرُونَ).

 

وما أصدق ما قال العقاد: \"إنك لا تحبّ حين تختار، ولا تختار حين تحبّ وإننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحبّ، وحين نموت\"!

 

أما الزواج فهو أيضاً قضاء من الله كُتب للمرء في اللوح المحفوظ بمن يقترن، ولا حيلة في الاجتهاد به سوى التضرع إلى الله - عز وجل - أن يرزقك زوجة صالحة، إن نظرت إليها سرتك، وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها... وأما المرأة التي لا تنفكّ ترسم لوحة فارس الأحلام في أوصاف قد تكون متناقضة.. وسيما غنياً خلوقاً متعلماً يحمل أعلى الشهادات، فإن عليها أن تقتصد في طموحاتها، وأن تتواضع في توقعاتها، وتقبل بما قسم الله لها ضمن تسوية ممكنة، لا يغيب عنها العلم والدين والخلق، وأما المال والرزق فإنه يأتي ولو بعد حين، لكنه قد يتأخر، والزواج بعدُ مفتاح من مفاتيح الرزق... (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)..... وقد تكون السعادة مع الفقر وضيق ذات اليد التي تجعلنا نفرح بكل شيء نحصله أو يدخل في حياتنا، وقد تكون الحياة باردة غثة مع الغنىº إذ لا يشعر هؤلاء الأغنياء بالدهشة والتغيير الذي يدخل حياتهم قدر ما يشعر به الفقراء... ولا ننسى أولا وأخيرا قول رسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم -: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس).

 

(5)

واستبان لي في هذه الحياة أن حروفك هي أنت، وأن أفكارك هي مرآة ذاتكº فإذا أردت أن تتعرف إلى مفتاح شخصية إنسان فعليك بحروفه.. واستبان لي أن الحروف تنزف وتنز كالجروح، وأن عمر الإنسان هو بعدد الجراح التي تنزّ بها نفسه وقلبه...

ولكن حتى يكون النزف ماتعاً لا بد من معالجة النزف بالمسكنات.. كالتخفيف من حالة النزف بالبعد عن لحظات التوتر والأماكن التي تلهب الذكريات، ومن المسكنات الإلتجاء إلى الله أن يهوّن عليك أمرك ويجملك بالصبر.. وعلى المرء أن يبحث عن الصحبة الصالحة التي تسليه وتذكره بتقوى الله.... وتأخذه إلى أجواء روحية تجعله مع الله وإلى الله وبالله...

 

(6)

إضاءة

مسك الختام: أقرِ عني السلام لمن امتلأت قلوبهم بالحب والسلام... والسلام بعض التلاق... كما يقول الشريف الرضي...

أيها الرائح المغذّ تحمّل *** حاجة المتيّم المشتـــــاقِ

أقرِ عني السلام أهل المصلّى *** فبلاغُ السلامِ بعضُ التلاقي

وابكِ عنّي فطالما كنتُ من قبلُ أعيرُ الدموعَ للعشــاقِ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply