كما تسير الأنهر في مجاريها منذ آلاف السنين لا تخطئ ولا تحيد، كذلك اعتاد الشيخ عليّ أن يسلك الطريق المؤدية إلى المسجد الكبير، ليفتح الأبواب على مصاريعها لاستقبال المصلين مع بزوج فجر كل يوم جديد..وهو يشعر بنشوة لا حد لها عندما يكون أول من يدخل المسجد، فكأنه يسبق الجميع إلى الجنة التي وعد المتقون، وكذلك عندما يدلف حافياً فوق رخام المسجد يشعر بلذة خفية لا تعدلها لذة أخرى من لذائذ هذه الدنيا..ولا يكاد يفرغ من وضوئه حتى يأتي المؤذن الشيخ عز الدين مسرعاً لينادي الفجر الجديد بتموجات صوته الرخيم داعياً المؤمنين إلى الصلاة وإلى الفلاح...
ولا تكاد تمضي هنيهات أخر حتى تأتي جماعات المصلين، لتأخذ أماكنها مسرعة ما استطاعت في الصف الأول. وعندما بدأت أنوار الشمس المشرقة تداعب رأس المأذنة العالية، كان المسجد يضيق على رحبه بالمصلين، فاضطر أكثرهم للصلاة في أفنية المسجد، فارتفعت التهليلات والتكبيرات، فقد كان اليوم عيداً... عيد الأضحى...
لم يستطع الشيخ علي أن يستغرق في تسبيحاته كما كان يفعل منذ عرف أن يصلي، وقد بذل جهداً للسيطرة على أفكاره ولكنها أبت أن تخضع له... فانصرف ذهنه مراراً إلى ركن صغير خارج المسجد... إلى بيته... حيث الأولاد ينتظرون أوبته جالباً معه اللحم والرز والخضار لتهيئة طعام العيد الذي لم يكن كيسه يقوى على عقد مثل هذه الصفقة، فهو قد أنفق كل راتبه منذ أن استلمه فأدى بعض ما عليه من دين. كما اشترى بما بقي منه دواء لابنته الصغيرة... ولم يبق عنده شيء للعيد... الذي ينتظره أولاده كسائر الأطفال بمزيد من البهجة والسرور، إذ يرتدون الثياب الجميلة، ويأخذون نقوداً كثيرة ليشتروا لعباً جميلة.. فاخرة..
لقد كان أولاده يشاركون أطفال الجيران فرحهم عندما لم يكن غير ولدين صغيرين... والدنيا غير هذه الدنيا... ولكن الدار الآن قد امتلأت بالأولاد بينما ظل الراتب لا يتجاوز نفسه إلا في عسر شديد دونه مرارة حياة الشيخ الذي اعتاد أن يعيش كفافاً..
ابتسم الشيخ وقال لنفسه ساخراً بمرارة:
ليتكم تحصلون على الطعام.. واللحم.. فقط، وأما اللغب فلا سبيل إليها أيها الصغار.
وتصور منصرفه من مصلاه إلى البيت وهو يدخله خالي الوفاض.. دون ثوب جديد.. أو هدية.. أو سكّرة صغيرة.. وتصور مسبقاً خيبة الأمل الكبيرة التي سترتسم على الوجوه الصغيرة وهوي تتحلق حوله فهم قد وثقوا تماماً بأنه سيجلب كل الذي يريدون. أليس هو خادم بيت الله؟ ومن أشد عطفاً على خدمه منه في مثل هذا اليوم؟ بعد أن انتهت الصلاة خفت جماعات المصلين وغادرت المسجد، وكانت الشمس عندئذ قد ملأت بأنوارها الذهبية حنيات المسجد المنقوشة بالفسيفساء، كما لونت مياه النافورة بألوان رائعة بهيجة، بينما تناثر في أرجاء المسجد بعض الفقراء الذين يبدو أنهم لا يملكون بيوتاً وإلا لذهبوا إليها. وشعر الشيخ بأن تفسيره خاطئ، فربما كانوا مثله يملكون بيتاً وأولاداً، ولكنهم يخجلون من البقاء في منازلهم في هذا اليوم.
أراد الشيخ أن يغادر المسجد إلى البيت، ولم يكد يبلغ الباب حتى كرّ راجعاً.. لقد تخاذل.. وشعر بأسى وحزن لا حدّ له يجتاح أعماقه... لم يجسر على الذهاب إلى البيت... فأسرع راجعاً إلى الخلف، فجلس على حجر رخامي، وأسند رأسه إلى الجدار، وغامت الدنيا أمام عينيه، فقد قرر أن يمضي عيده هنا.. ولأول مرة خارج البيت بعيداً عن أسرته..
لقد شعر بمرارة الهزيمة، فرفع عينين ضارعتين إلى السماء، فقد كان الألم المرتسم على محياه وقسماته يسأل السماء.. لمه؟ وشعر بالدموع سخينة تبلل لحيته.. ولكنه توقف عن البكاء.. لقد جاءته البشرى، ما عليه لو اكتفى باللحم وحده، دون بقية الأشياء الأخرى.
كان قد حط سرب من الحمام حوله.. من حمام المسجد.. وهو يهدل.. لقد اعتاد الشيخ أن يطعم هذه الطيور الوادعة التي اختارت جوار المسجد، فهي تتوالد وتتكاثر دون أن ينالها أحد بأذى.
وقفت حمامة منهن، تحدج الشيخ بعينين سوداوين صغيرتين، وتأمل الشيخُ رجليها الحمراوين وأصابعها الصغيرة.. وفكر.. إنها تصلح طعاماً لنا في هذا العيد.. وسرعات ما رأت الحمامة أنها قد وقعت في دي الشيخ. لقد شعر الشيخ بضربات قلبها وهي تضرب بأجتحتها يد الشيخ تحاول الإفلات، ولكنها استكانت بعد لحظة، فقد اعتاد الشيخ أن يمسك بهن يتأملهن ثم يطبع قبلة رؤوسهن الصغيرة، ثم يتركهن، فيطرن محلقات فوق المسجد، ثم يهبطن على رخام المسجد قرب المصلين دون خوف منهم.. ويأخذن بالاقترات من الشيخ تنتظرن منه ما يقدمه لهن من طعام، ولكنهن شعرن اليوم بأن الشيخ يحتاج إلى مواساة فهو يعتد البقاء في المسجد إلى مثل هذا الوقت، فتراجعت الحمامات بعيداً عنه بينما تقدم منهن يبدو أنه فائق الشجاعة، فوقف منتصب الصدر، مرتفع العنق، وقد سدد نظراته إلى الشيخ معاتباً: أن قد أطلت سجن الحمامة خلاف عادتك.. هيا أسرع.. قبّل رأسها واتركها.. كي نحييك بطيران رائع لم تر مثله من قبل. ولكن الشيخ لم يعر عتاب الطير بالاً، بل قام من مجلسه واستدار خلف حوض المياه حيث كانت حمامات في الجانب الآخر، فألقى بنفسه على كومتهن فظفر بحمامة أخرى ثم عاد إلى مجلسه. فوقفت الحمامات بعيداً عنه إذ لم يستطعن أن يجدن تعليلاً واضحاً لتصرفات الشيخ في هذا اليوم، فأعلنّ ارتيابهن منه بابتعادهن عنه، فتساءل الشيخ في نفسه:
- للخيانة رائحة مخزية.. تدركها حتى هذه الطيور الصغيرة.
كان عليه ان يظفر بثلاث حمامات أخر على الأقل ليكمل غذاؤه نوعاً ما، فقرر الانتظار مدة أخرى، وحاول إغراء الحمامات بالاقتراب منه.. ولكن عبثاً..
أخذ يتأمل العيون الصغيرة العابثة، وشعر بخزي حقيقي.. لقد ارتكب خيانة، بحق هذا البيت الذي يخدمه، وبحق صديقاته الصغيرات.
لم يستطع الشيخ أن يعمل فكره في وسيلة تمكنه من القبض على حمامات أخر، بل جلس متبلداً.. فاقد الحس والحركة، فقد كان ألم الخيانة يعتصر قلبه. خبّأ الحمامتين تحت ردائه، وتناول حذاءه بتثاقل وبطء قاصداً باب المسجد الخارجي..
كان صوت المقرئ يأتيه من داخل المسجد، عذباً هادئاً، ليتسلل إلى أعماقه ليعذبه هذه المرة دون أن يغمر قلبه بهدوئه ووداعته المعتادة. لقد شعر بأن الآيات أخذت تلذعه عندما كان المقرئ يتلو: «أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إن بكل شيء بصير». فارتبك الشيخ، وشعر بأن الكلام موجه إليه، فالله بصير بخيانته هذه وبإمساكه هذه الآية الدالة على قدرة الله، ولم يدر كيف أخرج الحمامتين من تحت ردائه ووقف ينظر إليهن برقة وحنان كأنه يستغفر ذنبه، ثم طبع على رأسهن قبلة، ثم أطلق الواحد إثر الأخرى، فانطلقن إلى السماء، وقد شعرن بنعمة الحرية والحياة.
ولم تلبث أن لحقت بهن حمامات أخر فشكّلن سرباً.. أخذ يظهر تفننه في اللعب تحت السماء الزرقاء كأنما كن يتوقعن هذا من الشيخ الطيب القلب..
أكمل الشيخ خطواته المتثاقلة إلى باب المسجد بينما كانت تأتيه كلمات المقرئ: «أمّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور. أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجّوا في عتوّ ونفور».
لقد شعر الشيخ بفداحة الجرم، لقد نسي الله الذي تكفل برزقه فرفع طرفه إلى السماء معتذراً..
كانت الحمامات لا تزال في تشكيلاتها البديعة فوق سماء المسجد.. عندما كان الشيخ يقطع طريقه نحو البيت.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد