تلمع بين يديه في وهج الشمس قلادة ذهبية يتفحصها بعناية وأصابعه تتلمسها بحنان ورقة..إنه يتذكرها جيداً، لطالما زينت صدر حبيبة القلب ورفيقة الدرب، تلك التي رافقته في أصعب مراحل حياته وظروفها، كانت له أماً فعوضته بحنانها ورجاحتها عن فقد أمه في طفولته الأولى، وكانت له زوجة فأوفت وأخلصت، وكانت له سنداً صدقت حين كذب الناس، وواست حين اشتد به بأس الناس، ونصرت حين خذل الناس، ومن الناس؟
إنهم أهله وقومه..
أعمامه وذريتهم..
أترابه وأقرانه..
كلهم تخلى إلا واحدة..
لقد عرف هذه القلادة فلطالما زينت هذا الصدر، أو زينها هذا الصدر بما فيه من رقة، إنها ليست مجرد قلادة من ذهب، فالذهب مال، والمال تحت قدميه موضوع لا قيمة له في ذاته ولا وزن، والقلائد تباع وتشترى كل يوم مرات ومرات في الأسواق، لكن هذه القلادة ولو كانت من تراب، هي وحدها لها مكانة في القلب عظيمة..
الذكريات تمر على الفؤاد فتترك أثرها على صفحة الوجه الصبوح الكريم، ودمعة ساخنة تعرف طريقها إلى اللحية الكثة..
إنه يلمس أثراً طالما لامس ذلك الصدر الحنون المشفق، كان يصعد الجبل هناك في أعلاه فيعتزل الناس يناجي، وتصعد إليه غير عابئة بمشقة أو وحشة تحمل له الزاد والطعام، وترنو إليه، ثم تهبط وحدها غير هيابة ولا كالّة..
عاد إليها يوماً وبه حمى شديدة من عظيم ما رأى وفجاءته، وهو يفرق فزعاً وخوفاً، فاحتضنته كما تحتضن الأم رضيعها وحنت عليه وطمأنته، بل بشرته بالخير، ولما هدأ صحبته إلى من يفسر له الأمر، ولما أكد لها ما رأى وتكرر، صدقته حين كُذب، وساندته حين عُذب..
يقلب القلادة مرة أخرى بين كفيه وفي القلب لوعة وفي النفس شوق، وفي الروح حنين..
ها هي تؤثر بقلادتها هذه ابنتهما فتهديها لها يوم زفافها..
ابنته التي يشتاق إليها وقد حال قومه بينه وبينها.. ابنته الحبيبة التي طالما مسحت عن لحيته بكفها الرقيقة العذبة التراب الذي يلقيه عليه قومه في طريقه ذهاباً وعودة، وهي تواسيه: والله يا أبت لن يخذلك الله أبداً..
تواسيه وكأنها قطعة من أمها، وكأن المواساة والرقة والحنان نسخ من الأم إلى الفتاة(1).
ما أشد لهفه عليها، وقد حيل بينها وبينه.. حيل بين الابنة الحبيبة الرقيقة وبين أبيها المحب، فأرقته غربتها عنه أو غربته عنها..
ما حالها اليوم؟
وما كان حالها بالأمس وزوجها ورفيق حياتها يتجهز للخروج لقتال أبيها؟
خل بين أبي وبين دعوته:
لعلها تعلقت بثوبه وهي تبكي راجية ألا يخرج معهم، ويبقى معها..
من لها بعد أبيها وزوجها؟
ألم تقل له: خل بين أبي وبين دعوته، فهو لم يكرهك على اتباعه، فإن شئت اتبعته، وإن شئت تركته وشأنه، فلا تتابع ولا تقاتل، ولكن اتركه ما تركك، فلم يسمع لها؟
إنه زوجها وهي تحبه وقد أفضى كل منهما إلى صاحبه وأخذ منه ميثاقاً غليظاً(2)، لكن الرجل يصر على الخروج لمواجهة أبيها الذي تحبه وتعلم صدقه وأمانته، وتعلم أنه على الحق، وزوجها على الباطل، نعم على باطل، لكنه زوجها..
تذكره للمرة الأخيرة قبل الخروج: كذبتموه وأنتم قومه وعشيرته وأهله وأولى الناس به، ولقد صدقه هذا الحي من العرب وهو عنهم غريب، فخذلتموه ونصروه، وأخرجتموه من بين ظهرانيكم، وآووه، وصددتم عنه الناس، وعذبتم من صدق به، ثم ماذا تريدون أيضاً؟
ألا يكفيكم كل هذا العنت؟
ويح قريش قد أكلت صدور رجالها الحرب.
ابق يا رجل ولا يركب رأسك العناد، إن العناد لا يأتي بخير..
لكنه أبى إلا أن يخرج..
وحين خرج، انتصر أبوها وما يحمل من حق، وأبشر قلبها وأضاء بهذا النصر المبين.. لكنها بشرى تخالطها غصة، ينغصها هم وحزن.. ما بال القوم واجمون؟
وما أخبار زوجي؟
الفداء العظيم:
لم تجد غير هذه القلادة التي تزينت بصدر أمها زمناً، ثم تزينت بصدرها هي الأخرى زمناً آخر ترسلها لأبيها فداء لزوجها..
القلادة بين يديه.. والذكريات تموج في وجدانه.. والشوق الملهوف إلى صاحبتي القلادة يترك في القلب ندوباً..
ما ضر هؤلاء لو خلوا بينه وبين الناس، فلو أظهره الله كان عزه عزهم ومجده مجدهم، وإن انتصر الناس عليه، كفوهم شر المواجهة؟ ما بالهم لا يفقهون؟
ما بالهم يقفون منه هذا الموقف الصارم العنيد..
إنه لن يكرههم على اتباع دعوته، فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، والحساب ليس اليوم ولا هو عنده ولا عليه.. ماذا يفيده أن يأتيه الرجل مبايعاً والسيف على عنقه وهو لبيعته كاره؟
وماذا يغنيه أن يصلي الرجل إلى قبلته وفي قلبه صنم؟
العقائد إحساس بالقلب يصنع اليقين، وفكر بالعقل يصنع التصديق، وعمل بالجوارح يصنع المتابعة، فما قيمة جسد بلا قلب ولا عقل؟ الجسد المفرد جيفة ميتة، والإيمان لا يقبل الجيفة..
القلادة مازالت بين يديه تداعب أصابعه بروزات النقوش عليها، لو أنه قبل هذه القلادة فداء فمن تكون أحق بها من صاحبتها؟
أو ليست صاحبتها مؤمنة به؟
أو ليست في شوق ولهفة للهجرة إلى حضنه وصدره؟
ما جريرتها وقد حيل بينها وبينه؟
وهل تدفع مؤمنة فدية زوجها الكافر قلادتها التي لا تملك غيرها؟
أصحابه ينظرون إليه تتعلق عيونهم بقسمات وجهه الحبيب، يوضح لهم الموقف: هذه قلادة خديجة بعثت بها ابنتها زينب فداء لزوجها أبي العاص، فهل تقبلون أن تطلقوه، وتردون عليها قلادتها؟
أم يسركم أن تطلقوه وتأخذون قلادتها فتوزع على الناس؟
إيثار الأصحاب:
ينظر الرجال بعضهم إلى بعض: إنه لم يأمرنا، ولو أمر لأطعنا دون جدال، لكن الأمر لنا لننظر ما هو أقرب لنفوسنا، والمرأة المحبوسة في مكة تحب الله ورسوله، وهي راغبة في زوجها لعل الله أن يشرح صدره للإيمان، فتضحي من أجله بأثمن ما تملك، لو كان المال الذي تفتديه به ماله، أو كانت قلادة أهداها هو لها ما ترددنا في أن يكون المال من حقنا، لكنها تفتديه بهدية أمها لها.. فمن منا تطيب نفسه بذلك، من منا تطيب نفسه بقلادة خديجة وزينب؟.. والله لنردن عليها قلادتها..
بلى يا رسول الله نطلق لها زوجها ونرد عليها قلادتها(3).
__________
الهوامش
(1) ورد في الطبري أن إحدى بناته {كانت تمسح عنه التراب ولم يحدد هل كانت زينب أم غيرها من أخواتها.
(2) كانت أحداث هذه القصة قبل نزول آيات تحريم المسلمة على المشرك.
(3) المصادر التاريخية للقصة فقه السيرة للبوطي - الرحيق المختوم للمباركفوري، في أسرى غزوة بدر، وباب الإيذاء قبل الهجرة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد