الدكتور شبطة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
كان عمران يقرأ في كتاب صغير، بعد صلاة المغرب عن حياة البطل المسلم القعقاع بن عمرو التميمي حين دق جرس البيت، فقام ليفتح الباب فإذا هو أمام صديقه رائف الذي سلم عليه على عجل وطلب منه أن يرتدي ثيابه في الحال، ليذهب معه في زيارة قصيرة، وحين سأله عمران عن الأمر، أجابه أن هناك رجلاً توفي الليلة، ويجب زيارة أهله لتعزيتهم (وجبر خاطرهم).

قال عمران: ومن هذا الرجل؟

قال رائف: إنه الأستاذ (عز العرب) ألا تعرفه؟

قال عمران - وهو شارد يحاول التذكر: لم أذكر أني تعرفت على رجل بهذا الاسم!

قال رائف: إنه محاضر بارز في علم الاجتماع، ويحمل شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون بباريس في الدراسات الفلسفية والاجتماعية.. ثم إنه مناضل وطني عريق، شارك في عدد من الوزارات السابقة، وآخر وزارة استلم حقيبتها كانت وزارة التربية والتعليم، وكان ذلك منذ عشرين عاماً تقريباً.

قال عمران: والآن ما أخباره؟

قال رائف باسماً - وقد فوجئ بهذا السؤال الطريف-: آخر ما علمناه من أخباره أنه غُسِّل وكُفِّن وصلي عليه، ثم دفن.. هذا آخر أخباره فوق الأرض، أما أخباره تحت الأرض فلا نعلم عنها شيئاً!!

قال عمران - وهو شبه شارد-: أقصد ما أخباره قبل أن يموت؟

قال رائف: أخباره باختصار هي أنه رجل في السبعين من عمره مصاب بمرض مزمن في القلب، مضى عليه عشر سنوات خارج بلده.. يُدرِّس في إحدى الجامعات.. في دولة من دول المغرب العربي.. وقد نصحه الأطباء بترك التدريس، لما فيه من إرهاق لصحته، وتأثير على قلبه المريض.. فتركه منذ عام، وعاد إلى بلده متفرغاً للكتابة والتأليف.

قال عمران: وما سبب وفاته؟

قال رائف باسماً: يبدو أن مروري عليك لاصطحابك معي كان ورطة أوقعت نفسي فيها بمحض اختياري! وأخشى أن تضيع فترة التعزية وأنت تحقق معي هنا في باب بيتك!

قال عمران - معتذراً-: آ.. صحيح.. لا تؤاخذني.. فقد رأيتك مستعجلاً فلم أطلب منك الدخول إلى البيت.. فما رأيك في أن نشرب فنجاناً من القهوة.. !؟

قال رائف: كأنك لا تود الذهاب معي.. !

قال عمران - مستفهماً-: أذهب معك قبل أن أعرف شيئاً عن الرجل وسبب وفاته!؟

قال رائف: وما يهمك من هذا كله!؟

قال عمران: إذا كان هذا لا يهمني فما الذي يدفعني إلى الذهاب؟ أليس من واجبي أن أعرف ما إذا كان الرجل شقياً أو تقياً.. مؤمناً أم كافراً.. صالحاً أم مجرماً؟!

قال رائف: أتعتبر هذه الأمور مهمة؟

قال عمران: طبعاً.. وإلا فما الذي يدفعني إلى حضور عزائه، إذا تبين لي أنه غير جدير أن أضيع وقتي من أجله!؟

قال رائف: ألا يكفيك أن أدعوك أن ترافقني في هذا العمل الإنساني؟

قال عمران: وما علاقتك أنت بالرجل؟

قال رائف: إنه أحد أقرباء زوجتي.

قال عمران: وما ذنبي أنا!؟

قال رائف: ليست القضية قضية ذنب، بل قضية عمل معروف!

قال عمران: ولكنك لم تخبرني بسبب وفاته!

قال رائف: ذكرت لك أنه مصاب بمرض القلب، وقد داهمته نوبة حادة، على إثر خبر سيئ سمعه من الإذاعة.

قال عمران: وما هذا الخبر؟

قال رائف: أظنك سمعت بفضيحة (إيران غيت) التي تبين فيها أن أمريكا تزود ثوار (الكونترا) بالسلاح لمقاومة الحكومة الشيوعية في نيكاراجوا.

قال عمران: أجل سمعت بذلك!

قال رائف: إن الفقيد قد تأثر جداً لسماع هذا الخبر، فقد كان شديد الميل لحكومة (الساندينستا) لأنها حكومة ثورية وطنية مخلصة.. فلما اكتشف أن أمريكا تعمل على إسقاطها بأساليب ملتوية رخيصة.. داهمته النوبة.. فقضت عليه.

قال عمران باسماً: الآن أقنعتني بضرورة الذهاب معك للتعزية.. ولكن أرجو أن تزيدني قناعة لترفع من همتي للذهاب.. فقل لي - يرحمك الله - كيف كانت علاقة هذا الرجل بربه؟

قال رائف - بجدية وفتور-: أما من هذه الناحية فقد كان مقصراً.. بل تستطيع أن تقول إنه كان \"علمانياً\" أي ملحداً أو شبه ملحد.. وبالتالي يجب ألا نتوقع منه محافظة على أمور دينه ولا سيما العبادات، من صلاة وصوم ونحو ذلك.. إلا أن الرجل - للإنصاف- كان يتمسك بنوع من الأخلاقيات الخاصة التي وضعها لنفسه والتزم بها.

قال عمران باسماً: والنعم يا سيدي.. والنعم.. !

قال رائف: أتسخر؟!

قال عمران: وكيف أسخر؟ وهل هناك عمل أروع من الاختراع!؟ ولا سيما اختراع الأخلاق.. ! ألا ترى معي أنه لو اخترع كل فرد في الأمة مجموعة أخلاق خاصة به.. والتزم بها فستكون حياة الأمة طريفة جداً ومسلية إلى أقصى حد.. ؟!

قال رائف: ولكن الرجل ميت يا عمران.. وللموت حرمة.

قال عمران: صدقت.. إن للموت حرمة.. ولكن هل يجب أن تنسحب حرمة الموت على الميت نفسه؟

قال رائف: أتشك في هذا؟

قال عمران: طبعاً.. وإلا فما رأيك في أن نطرق برؤوسنا أسىً وحزناً على وفاة أبي جهل مثلاً.. أو هولاكو.. أو ستالين.. !؟

قال رائف: أولئك ماتوا من زمن بعيد.

قال عمران: وما رأيك في حرمة (بابراك كارمال) جزار المسلمين في أفغانستان لو مات الآن.. ؟!

قال رائف، وهو ينظر في ساعته: لقد أخرتنا كثيراً في افتراضاتك يا عمران.. فأرجو أن ترتدي ثيابك بسرعة لنذهب قبل فوات الوقت.. فالتعزية لأهل الميت كما تعلم لا للميت نفسه.. فقد أفضى ذاك إلى ما قدم من عمل.. ولا بد للأحياء من ممارسة أنماط من المجاملات الاجتماعية فيما بينهم.. وإلا انحلت عرى المجتمع وتفككت الروابط التي تربط بين الناس، وبإمكانك بعد تعزية أهل الميت ألا تذكر فقيدهم بخير أو غيره.. فلست ملزماً بشيء من ذلك.

قال عمران: حسن.. انتظرني قليلاً حتى أبدل ملابسي.. يبدو أنك أقنعتني بالخطوة الأولى، أعني زيارة أهل الفقيد.

دخل عمران إلى غرفته، وبدل ملابسه وخرج..

بينما كانا في الطريق، سأل عمران صديقه: هل تعرف شبطة؟

قال رائف: شبطة؟! وما شبطة هذه؟ أهي امرأة.. هرة.. مدينة.. فرس.. ؟

قال عمران: إنها امرأة.

قال رائف: وما شأنها؟

قال عمران: إنها ماتت.

رائف: منذ متى؟

عمران: من عشرات السنين.

رائف: وما الذي ذكرك بها؟

عمران: ذكرني بها، أن موتها صار مثلاً يردده الناس في منطقة واسعة من بلادنا.

رائف: ما قصتها؟

عمران: حين خرج بها أهل قريتها ليدفنوها في المقبرة، بدأ كل منهم يذكر شيئاً من مآثرها، ويترحم عليها.. والنساء يندبنها ويصحن: يرحمك الله يا شبطة.. مع السلامة يا شبطة.. في جنان الخلد يا شبطة.. مصيبتنا فيك عظيمة يا شبطة.. وهكذا.

رائف: وماذا بعد؟

عمران: كان بين الحاضرين رجل غريب ليس من أهل المنطقة، فسأل بعض الحاضرين عن أخلاق شبطة، فأجابه الرجل، بأنها كانت ثرثارة، تغتاب الناس، وتكثر من النميمة، ولا يكاد أحد ينجو من لسانها البذيء.. فقال الرجل الغريب على الفور: (ويل لك يا شبطة).. فذهبت هذه الجملة مثلاً، يذكر في كل مناسبة مشابهة.

رائف: اتق الله يا عمران.. إن للرجل مقاماً مشهوداً في الحياة الاجتماعية والسياسية.. فهل توازن بينه وبين امرأة عامية بسيطة، لا شأن لها ولا قيمة في حياة الناس.. ؟!

عمران: أنا لا أوازن، إنما أذكر لك المثل فقط، وعليك أن تضع قريب زوجتك ضمن الصِّنف الذي تريد..

وصل الرجلان بيت الفقيد، وسلما على أهله مرددين بعض ألفاظ التعزية الدارجة في مثل هذه المناسبات.. وجلسا.

كان عدد من الوجهاء و\"الرسميين\" يجلسون بصمت، مصغين إلى كلمات يقولها هذا أو ذاك من الحاضرين، الذين كان لهم سابق صلة أو معرفة بالفقيد، من سياسي مخضرم اشترك مع الفقيد في وزارة أو عمل سياسي، إلى زميل محاضر في الجامعة إلى مندوب رسمي من قبل السلطة.

كان الجميع يثنون على الفقيد، مشيدين بصفاته النبيلة وأخلاقه السامية.. وقد أطلق عليه بعضهم لقب \"الشهيد\"، وأكد هذا اللقب بالقول: إن الفقيد هو شهيد \"الإنسانية\".. إنه يرفض الظلم.. يأبى العبث \"الإمبريالي\" بشؤون الدول النامية والمتحررة.. ولذا، أصيب بصدمة عنيفة، حين سمع نبأ التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية لدولة \"نيكاراجوا\" الفتية الناهضة المتحررة.. وقد أثرت هذه الصدمة، في مزاجه المرهف النبيل، وضغطت بقسوة وعنف على قلبه الكبير، المفعم بالرحمة والحنان وحب الإنسانية.. فقضى نحبه شهيداً.. ولا شك أن منزلته في جنان الخلد عالية جداً.. فهو \"مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً\".

وقد أعجب هذا \"الابتكار\" بعض الحاضرين، فبدأ عدد منهم يعزفون على الوتر ذاته، وتر الشهادة، ويبالغون في رفع منزلة \"الشهيد العظيم\" شهيد الإنسانية، حتى لم يبق ثمة شك، في أن \"المرحوم\" من سكان \"الفردوس الأعلى\"، وكل من يماري في هذه الحقيقة، هو مخلوق أحمق، أو تافه، أو جاهل، لا يعرف أي معنىً من معاني الإنسانية، ولا يفهم شيئاً من \"الدين\".. !

كان عمران يصغي حيناً، ويشرد حيناً.. كانت معاني الشهادة ومفهوماتها الأساسية مستقرة في ذهنه، لا يزعزعها شيء، ولولا أنه استقاها مباشرة من مصادرها الموثوق بها، لأصابها بعض الخلل والتشويه.. أو التشويش.. ومع ذلك، كان يشرد أحياناً، وراء بعض المعاني التي يرددها \"الكبار\" و\"الوجهاء\" من الذين يتصدون للحديث عن مآثر الفقيد، ومنزلته في الجنة. كان يشرد حيناً ليقيس صحة الكلام المقول، إلى المعلومات اليقينية التي في ذهنه، ثم يشرد حيناً، ليفسر قول هذا الوجيه، أو ذاك \"الكبير\".. ليكتشف أن هذا \"السياسي المخضرم\" لا يعرف أي معنى من معاني الشهادة.. وأن ذلك الوجيه ثرثار تافه، وأن ذلك الصديق الودود \"للمرحوم\"، يحمل خصائص مشابهة لخصائص الفقيد.. وأن هذا الجار العزيز \"للمغفور له\"، متملق، متسلق.. وأن هذا الطالب الذي تتلمذ على يدي الفقيد، محب للظهور.. و.. و..

لقد كانت صورة \"المرحومة\" شبطة، تلح على ذهنه إلحاحاً شديداً.. فكان يخفي حيناً ابتسامة عابرة، ويكتم حيناً زفرة حرى، إنه لا يعرف الفقيد ولا أهله، فما الذي جاء به إلى هذا المكان، لتنتفض عروقه في كل لحظة، ومع كل جملة تقال في وصف منزلة الفقيد \"الشهيد\".. ؟! \"سامحك الله يا رائف.. أمن أجل أن تبيض وجهك أمام أقارب زوجتك فعلت بي كل هذا.. ؟! \"

بعد أن انتهى \"الوجهاء\" و\"الكبار\" و\"الأصدقاء الأعزاء\" و\"المقربون من الفقيد\" من أحاديثهم، عن صفاته ومنزلته العظيمة في \"الدنيا.. والآخرة\"، جاءت الطامة، التي لم تدر في خلد عمران، فقد طلب منه صديقه رائف -على مسمع من الحاضرين- أن يقول كلمة، يتحدث فيها عن مآثر الفقيد.. فأحس بحرج شديد، إذ تسمرت فيه عيون الحاضرين، من أهل الميت والزوار، ترجوه، وتلح عليه، لتلبية طلب صديقه.. وليس الموقف مما يفلح فيه الاعتذار، فبلع ريقه، وتنحنح قليلاً، وقال كلمات كانت تخرج من فمه بصعوبة بالغة:

\"بسم الله الرحمن الرحيم.. إن في الموت لعبرة.. وعلينا جميعاً أن نعتبر بموت الدكتور.. \" ثم بلع ريقه بصعوبة، وأحس بالحرج الشديد، حين وجد نفسه قد نسي اسم \"الفقيد\" لغرابته.. إلا أنه لم يشأ أن يستسلم للحظات الحرج، فتابع مكرراً كلامه: \"وعلينا جميعاً أن نعتبر بموت الدكتور.. \" وهنا ألح على مزاجه المرهق اسم \"شبطة\" في لحظة من الحرج والذهول، فقال متابعاً: \"بموت الدكتور.. بموت الدكتور.. الدكتور شبطة.. فاعتبروا يا أولي الألباب\" وصمت، وهو يبلع ريقه والعرق يتصبب منه.. ثم أخرج من جيبه منديلاً، وبدأ يمسح العرق عن وجهه ورقبته، في حين بدأت ألسنة الحاضرين تتهامس، وهم ينظرون إليه: \" شبطة.. ومن شبطة؟! وهل شبطة رجل أم امرأة.. ؟ وما منزلة شبطة في عالم الأحياء.. أو عالم الأموات.. !؟ ثم تنحنح أحد الحاضرين من \"الوجهاء\"، وقال بصوت مرتفع: \"جزاك الله خيراً، أيها الأخ الكريم، على كلمتك الطيبة بحق الفقيد.. لكن نرجو أن تبين لنا ما الذي تعنيه بشبطة.. ! \".

قال عمران، وقد صوب بصره باتجاه صديقه رائف، بنظرة ذات مغزى، حاول أن يجمع فيها معاني الألم العنيف والسخرية المريرة في آنٍ, واحد:

\"أرجو أن توجه سؤالك إلى صديقي رائف.. فهو يعرف شبطة جيداً\".

اتجهت الأبصار نحو رائف، الذي أحس بالحرج كذلك، إلا أنه قرر الخروج من هذا المأزق بطريقة لبقة، فقال بعد لحظة صمت: \"حسب علمي أن شبطة هو عظيم من عظماء المسلمين، كان بطلاً من أبطال الحروب التي خاضها المسلمون ضد التتار.. كما أنه كان عالماًُ فذاً في السياسة والاجتماع..وهو أحد الأساتذة الكبار الذين تتلمذ على أيديهم العلامة المعروف \"ابن خلدون\" - رحمه الله -..ونظراً إلى أن الفقيد، فقيدنا العزيز، كان عالماً في الاجتماع، أحب صديقي عمران أن يشبه الفقيد، بعظمته وسعة علمه، بالعلامة الكبير شبطة.. أستاذ ابن خلدون.. رحم الله الأستاذ وتلميذه.. ورحم الله فقيدنا الغالي عز العرب.. \".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply