لغة تتدفق من فضاء غائم؟ ! هذه الأسئلة المرفرفة هبطت علي وأنا أستمع لصوت الشاعر محمود مفلح، ذلك الصوت الناصع المتدفق بالشعر، المشبع بأحزان الوطن وهو يحمل أحاسيس مرهفة في ارتحاله الدائم بين المدن العربية حيث ينبض بشجو طائر أسير، أصدر أكثر من سبعة دواوين شعرية إضافة إلى ثلاث مجموعات قصصية، وله حضور متميز في المنابر الأدبية الإسلامية، فهو طاقة شعرية متوقدة، ولعل طول اغترابه وشفافية نفسه فجر في شعره مواجد اللوعة والحزن، إذ يرصد تضاريس همه الفلسطيني الإسلامي بحنين رهيف صاف.
في ديوانه: (شموخاً أيتها المآذن) الصادر عن دار الفرقان بعمان بوح رقيق يستحضر معاناة مشحونة برؤى الواقع المنبثق من إيمان عميق بالله، يقول في قصيدته (موطني): عَطَشٌ قاَتِلٌ يعُربد في الجَفِ وغيرُ الإيمانِ لا يُرويني ألفُ داءٍ, سطاَ عليّ ولكن قطرة من دوائه تشفينِي إنه القلعة الحصينة في عص تحدت به الغزاة حصوني فخيول اليرموك منه أطلّت وسيوف الكماة في حطين أيّ وطنٍ, هذا الذي يغيض علينا يروي غصوننا الظمأى متلفعاً بالتحدّي؟ إن ثمة نبرة عالية في القصيدة، ثمة رؤية عيانية تحاور صفاء التاريخ الإسلامي، وتفتح نوافذها لرموزه، فاليرموك وحطين معركتان إسلاميتان مترعتان بالثراء الحماسي الوجداني في قلب كل مسلم، وهما تفجران حقل الدلالات المكانية في نفس شاعرنا الملتزم بالنهج القرآني.
إن فلسطين تراكم نوعي إيماني مدهش، لمعارك بطولية منذ فجر الإسلام، والشاعر يطل علينا من خلال هذه النافذة المشعة.
وتدخر قصيدته (معذرة.. ) دخيرتها الإيحائية المضيئة لمزيد من الغوص في أعماق الزمن الرمز.
وهي تستقرئ حزناً دافئاً وتعج بالسخرية المرة اللاذعة عبر ومضات ذكية وظفها الشاعر لتغذية حواره التاريخي المكتظ بكبرياء الحكمة الإسلامية العظيمة.
والقصيدة في بنائها العضوي تتوحد في مقاطعها مسلطة عدستها على لب التجربة العامة من خلال تفاصيلها الواقعية الموجعة: ما جف شعري لك جفت القيم ليس في عصرنا نار ولا علم لا في السياسة تلقى من معاوية وليس في حربنا الشعواء معتصم ومورد المجد قفر لا أنيس به ومورد الذل بالعشاق يزدحم أليست هذه المرارة الحادة، تنخر في الذات الجماعية عند محمود مفلح شاعر القيم والمجد الأصلي؟ ! إنه يدرك بوعي الشاعر المسلم، أن هذا المجد الموتور يصرخ، والبلاد قفرٌ يغلفها الاستلاب والضياع! فهل نسكب العبرة للعبرة؟ ! هكذا تبدو القصيدة تتشظى عبر وخز قاس للمرحلة بكل شموليتها: يا سيدي إن جرحي لا ضماد له فكل شيء أراه اليوم ينهدم تدوسنا قدم الرومان في صلف ونحن من تحتها نلهو ونختصم وتسقط الدار إثر الدار منبئة أن الديار بأهليها ستلتهم صرنا كبعض نمال الأرض من ضعة والنمل يلسع أحيانا وينتقم كم حرة صرخت من تحت غاصبها فجاءها المنقذان العي والصمم هذا هو حاضرنا المفجع المرعب، والشاعر لم يكن شاهداً على هذا الحاضر المؤلم فقط إنما نراه يترقى في المعاناة، ليغدو المحرض الفاعل في القصيدة.
إن البؤر المتوهجة المنيرة في شعر محمود مفلح تنطلق من مأساة الجماعة الإسلامية أينما حلت، وليست نمطاً ذاتياً مغرقاً في النرجسية.
إن الفضاء الشعري هنا يتألق ولا ينصهر، ينشد حكمته، ويكثف غيومه على أرض تتهيأ للخصب: قد كان في أمتي أُسدٌ وعرفهم ضاق الغباء بهم والحقد والورمُ فبعضهم قتلوا جهرا وبعضهم في القيد وهو بحبل الله معتصم وبعضهم في بلاد الله قد ضربوا ومن أعز بلاد الله قد حُرموا هذه الأنات الثرية بالصدق، المترعة بالألم، المتوحدة مع هموم الدعوة الإسلامية، تمتشق قصائد شاعرنا عبر أصالة في الرؤى، ورهافة في الشعور ووعي راسخ، ونظرة ثاقبة لتاريخنا الإسلامي الحافل بالأمجاد والبطولات رغم الدسائس والمؤامرات لإجهاض الفجر القادم بإذن الله.
إن في هذا الشعر الإسلامي رغم ما يصوره من تجهم المرحلة، وسواد الواقع روح الشباب المسلم الرافض لكل أشكال الاستعباد والتساقط المخيم على جل بلاد المسلمين.
ولا بد أن نعانق هنا هذا النموذج الحي المجاهد عبر معاناة حادة، حيث يبزغ من بين هذا الركام يتحدى القيد معتصما بحبل الله: (وبعضهم في القيد وهو بحبل الله معتصم »، هكذا يمسك هذا الشعر الشامخ بعافيته ولا يتردى في دياجير الجهل والضلال.
هذه الملامح النقية الصافية في شعر محمود مفلح ما كنا لنجدها عند شاعر خارج عن الاتجاه الإسلامي، كما نقرأ لبعض المنحرفين المستهترين بالقيم الرفيعة والمثل السامية مهما طبلت ورقصت لشعرهم الصحافة الرخيصة، فليس هناك وجه مقارنة: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون).
وتتمدد قصيدة (صرخة) على مساحة واسعة من الأَلَق المبشر بمجاهدة واعية لكل ما يعطل الفعل الإسلامي المتوثب لفجر جديد، والصور في القصيدة حشد منمق ينفذ إلى نخاع الأسى، وتأجج النَفَس الشعري يغترف مداده من نفس مؤمنة بصيرة، ووعد رباني يفيض بنعيم أزلي واقع لا محالة: ولماذا أقضّ مضجع شعب هو في حلبة الرقاد سبوقُ دعه في نومه العميق حرام أن يُنادى هذا السباتُ العميق مالنا واليهود نحن بخير عندنا التبر وافر والعقيق أي حق هذا الذي يفسد الحلم علينا، غدا تُردّ الحقوقُ ويسترسل الشاعر في هذه اللهجة الساخرة اللاذعة، ساخطاً على المثبطين المرجفين في الساحة العربية الذين تركوا الجهاد في فلسطين، وليس همهم سوى العيش الرغيد، وتحقيق مصالحهم الدنيوية الزهيدة من راحة وجاه ومالº هؤلاء هم المنافقون القاعدون الأذلاء الذين كشفهم الله قبل أربعة عشر قرناً فقال - تعالى -:
(وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله أستأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون).
أين هؤلاء الساقطون المتشبثون بفتات الدنيا الذين مردوا على النفاق من أولئك المؤمنين المجاهدين بأموالهم وأنفسهم: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون).
هذا التقابل بين القاعدين المرتابين وبين المجاهدين الأباة الذي يتمثله الشاعر من خلال رؤية واعية شاملة للقرآن الكريم يقوم على نهجه القويم ويبقى السؤال قائما بكل شموخ المؤمن المتمسك بدينه فكراً وسلوكاً: هل نحن بحاجة حقاً إلى أولئك الخوالف المترفين ليكونوا في صفوفنا المجاهدة؟ ! إنهم عناصر الفساد والفتنة في المجتمع المسلم، وهم كذلك عناصر الهدم والتخريب وطعن المؤمنين من ظهورهم، فما أحوجنا إلى نبذهم وعزلهم وقطع صلاتنا بهم إن لم يتوبوا، ويعودوا إلى السرب الإسلامي! وما أعظم وأصدق تصوير الله لما يستعر في نفوسهم الشريرة: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا يبغونكم الفتنة).
إنه قدرنا نحن المؤمنين أن نجاهد ونموت على عقيدة صحيحة لنحيا حياة خالدة ونرنو إلى جنان لا تعلم نفس ما أخفي فيها من قرة أعين.
فهذا هو الوعد الحق بيننا وبين الله، فدعونا نصغي لشاعرنا يحث الخطا إلى الموت العظيم: قدري أن أعانق الموت شدوداً وعيناي شب فها الحريق غير أني على العقيدة باقٍ, وسلاحي بكل علج يليق والحق يقال إن شاعرنا محمود مفلح صاحب رسالة سامية، وهو ينطلق في شعره من هذا المعتقد، وإن كان النقاد المحدثون يتبجحون بالوحدة الفنية والموضوعية التي تميز بعض شعرائهم المبجلين على حد زعمهم، فلنقرأ هذا النمط الفريد من الوحدة العميقة فكراً وروحاً عند شاعرنا، حيث يحس القارئ بتآلف روحي مع قصائده مثل (شموخاً أيتها المآذن، الراية والجنود، أيها الشعب المترجم) فيعيش معها ليصافح تلك الصور الندية والحركات الحية النابضة بالإيمان.
وفي قصيدة (الله أكبر) تلاحم رائع مع موضوعية وإيقاع متميز للعبارة الشعرية الحديثة، حيث تأوي إلى حسٍ, شاعري رهيف بوقع الكلمة، هذا الحس الشاعري، والجرس الإيقاعي يميز كثيراً من قصائدنا الإسلامية.
أما القصيدة التي بين أيدينا فهي قراءة واعية متأنية للواقع وهي تستنير بهدي الإسلام وتبصر بنوره: لاح يا شعبي العظيم الشهاب وتهاوت الأصنام والأنصاب فالميادين غضبة والتهاب صاغها السيف والأسى والعذاب وتلاقت يفدي الشاب الشباب إنهم فتية دُعوا فاستجابوا إنه فجرك الذي قد تحرر وحداء الطريق الله أكبر إذن هذه هي الطريق لفلسطين، طريق » الله أكبر « ولا طريق غيرها هكذا تجوس القصيدة عبر مشاهدها الستة، مفجرة مشاعل الحرية، ملوحة برايات الجهاد ومعطرة بأناشيد الفجر، عبر ومضاتها وأنفاسها المؤثرة، وعاطفتها الإيمانية المشحونة بالصدق والصفاء.
وبعد...
هل فتحت لهذا الطائر الإسلامي المترع بأحلام البسطاء الفقراء بعض نوافذ الروح؟! هل اقتربت من حنينه الفلسطيني لمآذن الأقصى؟ ! هل آخيت هذا الضياء بضياء شبيه؟ ! أتمنى أن أكون جديراً بهذا الألَق.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد