الرسالة الأخيرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

(يستطيع الزمان أن يباعد بين الأب وابنه···· ويستطيع الموت أن يفرق بين المحب وحبيبه··· ويستطيع الفراق أن يبعد الأخ عن···)

توقف سامي عن الكتابة وتنهد تنهيدة طويلة ليغالب دمعتين أطلتا من عينية لتخفيا سطور كلماته، ولم يشعر بأمه التي كانت ترمقه في حنان قلق كأنها قد تعودت على هذه الدموع بعد أن دخل في حياة ابنها شخص اسمه أحمد، فلقد تغير حاله تماماً، فلم يعد ذلك الفتى الضحوك المرح الذي لم يكن يهمه شيء مثل اهتمامه باستمتاعه بشبابه وانغماسه في مرحه، لقد انقلب اليوم إلى شيء آخرٍ, تماماً، جعل منه إنساناً طويل الصمت عميق التفكير كثير الكتابة غزير الدموع، وكثيراً ما كانت تسأل نفسها··· كيف استطاع صاحبه أن يؤثر فيه؟ بل وأن يغير مجرى حياته هكذا؟!

ولاحظت الأم ولدها وهو يهم بمعاودة الكتابة فانسلت من مكانها بصمت وبدأت روح سامي تخط كلماتها من جديد···

··· أخيه·· لا بل عن نفسه

كتبها سامي وهو يتذكر صديق عمره الذي حان موعد رحيله عن البلد التي قدم إليها لفترة قصيرة بقصد الدراسة، يا له من رائع حقا، كم أحبه سامي وتمنى لو أنه كان أخاه لأبيه وأمه، فشاب مثله في منتهى الذكاء والخلق، وفي غاية التفهم والرقة يجبر الجميع على احترامه وتقديره، غير أن سامي قد وجد في أحمد ضالته فهو من كان يبحث عنه منذ سنين طويلة ليكون له أخاً وهو المحروم من الإخوة بعد أن توفي أبوه وليس له غيره·

وتذكر سامي كيف كان أول لقاء بينها··· كان ذلك في أول يوم دراسي حين كان جميع طلاب الدفعة المستجدة في انتظار العميد ليلقي عليهم كلمة الاستقبال··· فضّل سامي أن يخرج إلى الحديقة ليتصفح مجلة أصدرها الاتحاد الطلابي بمناسبة بدء العام الجديد، وحين لم يجد مقعداً فارغاً توجه إلى واحد لم يشغل إلا بشخص واحد··· حينها وجد أحمد وهو يكتب شيئاً ما فسلم عليه··

- وعليكم السلام ورحمة والله·

- معذرة··· كل المقاعد مشغولة بأكثر من شخص عدا هذا·

- ابتسم أحمد هو يقول·· تفضل·

وأخذ سامي يقرأ المجلة بعينة فقط، أما قلبه فكان يعيش إحساساً غريباً بشأن هذا الجالس بجانبه، ارتياح عظيم وشوق لمعرفته، وظل يكابد سؤالاً يدوي في وجدانه ··· ترى كيف يستطيع أن يمتحن معادن الناس ليختار أيهم يكون صاحبه؟!

وقطعت حبل أفكاره نسمة رقيقة هبت فأدار وجهه ناحيتها ليستمتع بنفس عميق منها، ولفتت نظره وردة صغيرة تتمايل مع تلك النسمة وأحمد شارد بروحه فيها···

تمتم - سبحان الله، ثم عقب سائلاً أحمد: هل أنت طالب معنا في السنة الأولى·

- التفت إليه أحمد مبتسماً وهز رأسه بالإيجاب وهو يقول أحمد الساقي·

- سامي الصغير·

تصافحا ثم نهضا بعد أن لاحظا العميد وجمعاً من الطلاب يتجهون نحو القاعة·

وهكذا بدأت الصداقة بينهما ثم توطدت أكثر وأكثر··· غير أن ما كان يحير سامي هو ذلك الحزن الذي كان يحاول أحمد جاهداً أن يخفيه، وكثيراً ما كان يسأل نفسه عن الأسباب التي يمكن أن تجعل أحمد هكذا··· وعرف موهبته في الكتابة حين كان يستعير منه بعض دفاتره ويقرأ - بعد أن يستأذن منه - مسودات كتاباته التي عادة ما يكتبها أحمد في آخر صفحات دفاتره، ومن تلك الكتابات كان يتأكد لسامي أن هناك الكثير مما يشغل صديقه أحمد حتى بات من الواجب عليه أن يساعده، لكنه حين سأله استطاع أحمد بلباقته أن يتهرب من أسئلته

- أحمد ماذا يشغلك؟

- كثيراً ما أنشغل بالمذاكرة ···· ويبتسم وهو يقول يا أنا·

وذات مساء وبينما كان سامي منهمكاً في مذاكرته تذكر دفتر صديقه الذي استعاره منه بعد الدوام، فإبداع أحمد في تلخيص المحاضرات يجعل من سامي طالباً كثير الاعتماد عليها··· وكعادته فتح آخر الصفحات ليقرأ آخر ما كتبه أحمد··· كانت قصيدة ولعلها طازجة فهي مذيلة بتاريخ اليوم

ـ آه ··· عرفت سر المسحة الباكية التي كانت تغطي وجهك اليوم يا صديقي فأثر القصيدة يستمر في تعذيبك لأيام·

كانت القصيدة تتحدث عن عصفور رحل عن أهله واغترب عن أوطانه فأصبح وحيداً في غربته وكان أكثر ما يبكيه تلك الكلمات التي كانت ترسلها له زوجته مع نسائم الفجر وأوراق الأزهار···

(لماذا لا تحنّ إلينا··؟

لتغريد صغرى بناتك··

لحبة حقل··· لنسمة عطر

لبسمة فجر ترفرف في عشنا

مناغاة أطفالك الطيبين··

تنادي تنادي

أبي أين أنت؟؟)

توقف سامي عن القراءة قليلاً ريثما هدأ نشيج صدره··

ـ لماذا يا صديقي تحمل نفسك حتى هم العصافير؟ ألا تكفيك همومك وحدك؟

وعاود القراءة··· كانت قصيدة تحمل كل معاني الحزن عن ذلك العصفور، وعندما وصل إلى نهايتها وضع الدفتر من يده وقام خارجاً يقصد بيت صديقه الذي يسكن في غرفة صغيرة وحدها في مكان ليس له جار فيه··· رأى سامي الضوء الخافت الذي يصدر من نافذة أحمد فأدرك أنه لم ينم بعد وعندما اقترب سمعه يترنم على حجر بجانب غرفته بأنشودة عرفها سامي من لحنها··

وين أيامنا ويـــن

وين قضــيناها

راحت في غمضة عين

يا (محلى) ذكراها

وآثر سامي أن يرجع من حيث أتى دون أن يشعر به أحمد··· وعندما لقيه في صباح اليوم التالي شكره على دفتره ثم قال له

- أحمد·· إني أجد خلف كتاباتك شيئاً غامضاً أتمنى أن أعرف سره!

- حتى أنا أتمنى ذلك·

-···!!!

- لا تندهش يا سامي فشيء ما يجعلني أحياناً أحس بهموم كبيرة تقبض صدري ولا أجد من أبوح له بها غير دفاتري·

- أليس لك أصدقاء؟

- بلى·· قلمي ودفاتري والعصفور الذي عرفته في القصيدة إنه يسكن على شجرة بجانب بيتي·

- وماذا عني؟

- أنت لست صديقي···

- أخوك؟

- كلا·· وابتسم ابتسامه عريضة و هو يقول: أنت أنا·

توقف سامي عند هذه النقطة من شريط ذكرياته وهو يتأمل كلمة صديقه·· إنه بالفعل هو أو نسخة طبق الأصل منه، وقد كان زملاؤهما يستغربون من التآلف العجيب بين أرواحهم حتى صار أحدها لا يفكر إلا بقلب الآخر وكأن كل واحد منهما يعلم ما بقلب صاحبه·· وانتبه سامي إلى أن عليه أن يتم كتابة رسالة الوداع الأخيرة لصديقه، فغداً سيكون حفل التخرج وسيسافر حتماً صديقه بعد الحفل، وحين همّ بالكتابة لمس في نفسه تشتت أفكاره في الذكريات، الأمر الذي أجبره على إعادة قراءة الرسالة من أولها، وحين وصل إلى آخر كلمة تساقطت الدموع من عينيه بغزارة، ولم يستطع أن يتجاوزها حتى بكلمة واحدة، فطوى رسالته وغلفها بمظروف أنيق كتب عليه(··· إلىّ)

 

>>>

في الصباح الباكر كان سامي يدق باب الغرفة فلم يرد عليه أحد·· فدس المظروف في خلل بباب الغرفة الخالية إلا من أشباح الفراق وأطياف الذكريات، وبقايا أوراق سطرت عليها بدموع أحمد بعض قصائد وكثير من الأحزان·

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply