رؤية نقدية في قصة \ سرير العانس \ لعبد الحكيم عبد الله


 

بسم الله الرحمن الرحيم

شفافية اللغة..إبداع يتجدد ما بين الواقع والخيال:

هذه \"سعاد\" بطلة منتشية تلملم بواسطة \"عبد الحكيم عبد الله\" أشلاء روحها المتهافتة بفعل الشعور الذي طغى على كيانها بسبب وحدتها الخاصة التي لم يؤنسها فيها رفيق أو حبيب، فكان ما كان منها أن أدت دورها على أتم وجه وأحسنه، بل إنها لم تكتف بذلك فأشعلت فتيلاً جديداً لشخصية جديدة، وأتمتها على خير ما يرام، فدفعها واقعها الأليم وألقت بها وحدتها الخانقة، وحدا بها شوقها العارم إلى نصفها الثاني الذي كان يمثل لها الستر الذي تحتاج إليه والحنان الذي تتوق إليه وأشياء أخرى كثيرة لا يقوم بها إلاه!!

 

إذن كان ينبغي منا أن نتوقع إبداع \"سعاد\" في هذا الرسم لكل مشهد تتخيره بعناية فائقةº وواضح جداً أن تخيرها للمشاهد كان تبعاً لاحتياجها الخاص ولنسق حياتها أيضاً..

 

فأول مشهد اختارته كان مشهد عودة زوجها \"سعاد الزوج\" من عمله بعد أن عادت هي وتهيأت للقياه، وبالتفصيل الممتع غير الممل وضحت لنا \"سعاد الزوجة\" العلاقة الحميمة التي تتمناها حقيقة، والتي تربطها بهذا الزوج المفتعل، فاختارت له الشخصية التي تمنتها وقد عرفتنا إليه تعريفاً جميلاًº فهي تدرك تماماً - مثلما ندرك - أننا لا نعرف هذه الشخصية فكان جميلاً منها أن عرفته إلينا قائلة: (كل يوم يصل من عمله في حافلة الموظفين غير المكيفة، هكذا كانت تتمناه. رجلاً حقيقياً، فيه رائحة الرجال الذين يأتون من الخارج وعلى أكتافهم غبار التعب وفي سحناتهم وعثاء العمل المضني، كانت تريد رجلاً)

 

وبعد أن نجحت في رصد حيثيات المشهد الأول صارت مهمة \"سعاد\" أصعب بكثير، فها هي ذي تفكر وبعمق لتخرج مشهداً آخر تكون هي فيه الكاتبة والبطلة والمشاهدة، فهي حكم ومحكوم عليه! وقد شعرنا بصعوبة هذا الأمر الذي علقت فيه نفسها، حيث نراها قد (سارعت إلى غسل يديها على عجل ونظفت أسنانها جيداً بالفرشاة. منذ المساء وهي متلهفة للدور الجديد الذي حضّـرته لهذه الليلة).

 

وقد ندرك عمق انخراطها الحقيقي في شخصية \"الزوج\" وهي تكتب الرسالة بالنيابة عنه، فقد تخيلت كلماته وحركاته وسكناته ونبرات تفكيره الخشنة وخطه المجعد، كما جعلت لها عطراً خاصاً بها ولكنه محبب لديه كما الأزواج الحقيقيين فعلا..

وفي المشهد ما قبل الأخير كانت \"سعاد الزوجة\" مفعمة بالإحساس ملأى بالشعور فـ(اختارت ثوب النوم الوردي، رشت عطرها فوق صدر الثوب ووضعت منه على عنقها وخديها، جلست على حافة السرير تنتظر وكانت متلهفة بشدة، شعرت بارتعاش فمها وخدر دافئ يسري في أطرافها، دخل، نهضت، سقطت الوسادة من حجرها، وطئتها وهي تخطو إليه، عانقته مباشرة لتتفادى اضطرابها وتلعثمها، أحست صدره ألين من مخدتها المعطرة، رفعت يدها تتحسس وجهه برقة متناهية وعينين حالمتين، مست لحيته.. إنه رجل، إنه زوجها.. زوج حقيقي بلحية كلحى الرجال الذين تشاهدهم في الشارع وهم راجعون إلى بيوتهم ليقبلوا زوجاتهم قبلها على خدها، قبلة خافتة مشحونة بأحاديث كثيرة).

 

أما المشهد الأخير فتعيدنا \"سعاد\" قهراً وبالرغم منا وبالرغم من استمتاعنا بها \"زوجاً وزوجة\" إلى الواقع الأليم الذي تعايشه وتحاول عبثاً الهروب منه، فجعلتنا نبرح ساحات الخيال عندما كان المشهد ركيكاً نوعاً ما أو كان بارداً كبرودة المسافات ما بين الواقع والخيال فقد (دخلت الغرفة، كان مستلقيا في السرير، مستنداً إلى الوسائد يقرأ كتاباً، التفت إليها، ابتسم، ابتسمت، وفجأة أحست بالضجر، فكرت في مشاهد أجمل وصور جديدة).

 

وكأنها - في هذا المشهد - المخرج في حالة مزاج مكدرة لا يعجبه شيء حتى لو كان في مكانه الصحيح، وربما كان ذلك لأن المشهد هذه المرة لم يكن كفيلاً بإقناعها، أو أنه لم يخترق عمقها، أو لم يشك حالة من حالات إحساسها!!

 

والمبرر الحقيقي الذي أحس به وأنا أقرأ (سعاد زوجاً وزوجة) في هذه القصة لضجرها من المشهد الأخير هو أنها بدأت تدرك حقيقة أنها تتخيل، وأن خيالاتها كانت كفيلة بأن تنفس عنها شيئاً من ألم الواقع وتنسيها لحظة من مرارة وحدتها ولكنها ليست كفيلة بأن تملأ عليها شعورها هذا طيلة وقتها، فكان لا بد لها أن تدرك أنها تهرب بـ\"سعاد الزوج\" من وحدتها الحالكة التي لن تنقطع بوجود الزوج لأنه في النهاية \"سعاد\"!!

 

اللــغة:

ينبغي لنا في هذه القصة أن نغوص في عمق اللغة التي غلفت الحدث البسيط الهادئ والذي مثلته لنا \"سعاد\" منقسمة ببراعة إلى شخصيتين متناقضتين تكمل إحداهما الأخرى..

 

من بداية القصة جاءت لنا هذه العبارة تسوق وراءها كثيراً من التعبيرات الحرى والتي تصف بصدق حقيقة سعاد، فلنستمع إلى الراوي وهو يقول:

(عادت سعاد وفي وجهها جمر الظهيرة وفي ثوبها دخان الشارع الملتهب)!

 

وعلى الرغم من أن الظهيرة ذات حرارة متوهجة ونار محرقة يجوز لنا أن نصفها بالجمر، ولكني أظن ظناً يحاكي اليقين أن \"الجمر\" هنا ما هو إلا ذاك الذي يعتمل في صدر \"سعاد\" من تفكير عميق في حياتها الخاصة وأمنياتها السعيدة في الخلاص من وحدتها القاسية فكان الجمر في صدرها والالتهاب في قلبها لا في الظهيرة على حرقتها ولا في الشارع على ما فيه من أبخرة وأدخنة!!

 

(نزعت حذاءها الأسود، سلخت جواربها السوداء وتأملت للحظة خيوط العرق على ساقيها)

 

ولهذا التأمل غايته الخفية التي لا تتبين لنا إلا بمزيد من التخيل وذلك عندما أصبح /القارئ في مكان \"سعاد\"/ البطلة، فبعد أن نزعت الحذاء وسلخت الجوارب، وفي النزع والسلخ ما فيه من إفراغ لأنات النفس المكلومة وشحنات الغضب العارم وإن كان الغضب لا يجتاح نفس \"سعاد\" في هذه اللحظة بل هو الشوق العارم والتوق الكبير إلى أن تجتاز هذه المرحلة الأليمة من حياتها وتتخلص من وحدتهاº بل إن في النزع والسلخ من حيث موسيقاهما وجرسهما اللغوي العنيف ما يؤكد أنها تتمنى أن يكونا لشيء آخر ولأمور ثانية كأن يكونا لحياتها الكئيبة ووحدتها المريرة.

 

وبعد أن ننتهي من النزع والسلخ نركز أنظارنا في لحظة تأمل ليست بالقصيرة - كالتي عاشتها سعاد - لخيوط العرق على الساقين فلن نشعر إلا بسعاد وكأنها تقول في نفسها: \"متى سيتغير الحال وتتبدل الأشياء ولا أعود لوحدتي ولا أكون كما أنا الآن\" فحتى خيوط العرق قد جعلت منها \"سعاد\" أمراً يزيد عناءها ويرهقها من جديد وكأن المتزوجة لا تعرق ساقاها من بعد عناء يوم طويل وتعب مكد!! ولكن - كما هي العادة - فإن الإنسان يلقي على الأشياء من حوله نظرة لا يفسرها إلا محتوى نفسه ومجتوى أعماقه وهكذا كانت سعاد وهي تنظر بتأمل إلى خيوط العرق على ساقيها!

 

الحدث:

لا يهمني هنا أن أسرد الحدث من بدايته إلى نهايته بقدر ما يهمني تفصيل الحديث عن أهم سمة تميز بها الحدث في هذه القصة ألا وهي الدمج.. فقد دمج السارد في قصته ما بين الواقع والخيال، وكم هو رائع هذا الدمج حتى رأيناهما جزءًا واحداً متكاملاً متناسقاً فنسينا الخيال في لحظات كثيرة كانت الأحداث الأساسية أو الحقيقية تذكرنا فيه من جديد، وذلك من خلال بعض التعبيرات الرائعة التي يهمني أن يقرأها القارئ معي ليكتشف ويتنبه بالفعل إلى عملية الدمج غير المختلة والمتاوسقة تماماً:

1- (بدت غير مقتنعة بالمشهد هذه المرة. فكرت: \"الأزواج يصلون من أعمالهم بعد وصول زوجاتهم، غالباً).. فالمشهد هذه المرة لم يقنعها، لأنها لا تريد تصويراً للرجل فقط، بل تريد أن تشعر بأن المشهد قد ملأ عليها حياتها فعلاً وأصاب واقعها بصدق حتى تتعايش معه بصدق أيضاً، وسبب عدم اقتناعها أنها عادت من عملها ورأت زوجها قد عاد قبلها والعادة غير ذلك فالأزواج يصلون من أعمالهم بعد وصول زوجاتهم غالباً، وهي تريد قصة تتطابق أحداثها مع واقعها كذلك فكانت \"سعاد\" دقيقة جداً باختيار الأحداث المواتية لحياتها..

 

2- بعد أن تخيلت المشهد الأول ورأت زوجها قد عاد منهكاً من عمله (قدمت له الطعام بينما كانت تنزلق ساهمة تحت الغطاء في سريرها المبخر، ناولته أول لقمة بيدها المحناة وهي تدفع وجهها أكثر في ليونة المخدة، وحين بدآ حديثهما المؤنس أثناء الطعام رشفت رطوبة دموعها في سطح الوسادة).

 

وأظن أن \"الدموع\" في هذا المشهد هي التي أعادتنا من الإبحار في خيال المشهد الجميل والدافئ إلى الواقع الأليم فإننا نعتقد أن هذه الدموع ما نزلت رطبة حرى إلا لأنها نجمت عن الألم الذي أحسته \"سعاد\" فقد رصدت مشهدها بكل عبقرية وعايشته بكل إحساس وتفاعلت معه بكل مشاعرها ثم في لحظة أن ناولته اللقمة أدركت أنها تمثل وتتخيل فامتزجت دموع الفرح والنشوة لهذا المشهد الناجح بدموع الحزن والجوى على الواقع الذي عادت إليه من جديد..

 

3- من أكثر المشاهد التي تبين حالة الاندماج أن سعاد لم تكتف بأن أصبحت زوجاً وزوجة، بل إنها انفصلت إلى سعاد ثالثة.. ففي مشهد بديع يخلط الحقيقة بالخيال قال الراوي:

(انتبهت لخيالها في المرآة، سعادُ المرآة تنظر إليها متأملة، ابتسمت بخجل وتحركت نحو خزانة الملابس).

 

جاء هذا المشهد بعد أن كتبت الرسالة لنفسها موضحة فيها التأخر عن موعد العشاء لهذه الليلة، وبعد أن أنهت رسالتها انتبهت فوجدت سعاد المرآة تنظر إليها وكأن \"سعاد المرآة\" غير سعاد الزوجة كما تحس بنفسها داخل تأثيرات هذا المشهد الجديد ولكنها \"ابتسمت بخجل\" مما يؤيد إدراكها للحقيقة حتى في ساعات الخيال الضئيلة فابتسامتها الخجلى لا تعني إلا ذاك!!

 

النهــاية:

والأروع من هذا وذاك النهاية التي اقتنصها / السارد لقصته البديعة فـ \"سعاد\" لا تزال مصرة على الدمج ما بين الواقع والخيال، والراوي كذلك لا يزال مستمتعاً بمشاهد سعاد وعبقريتها في ترتيب الأحداث وتصوير الأشواق وحبكة المشاهد الصغيرة والمثيرة، وإن لم تتكشف القصة عن مشاهد جديدة، ولكنها كشفت عن حقيقة سعاد وأنها لا تزال تبحر في خيالها وتقتنص المشاهد الخاصة بسعاد الزوج من حياتها العامة أو من تباريحها الخاصة، وما زال جمر الظهيرة والشارع الملتهب رفيقين لسعاد.. إذ إنهما يشبهان كثيراً ما هي فيه!!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply