الشبهة السادسة [*]:
تثار هذه الشبهة منذ زمن بعيد بالصيغة التالية: الأديب العالمي هو الذي يتخلص من النظرة الأحادية، إلى العالم من حوله، فتكون له رؤاه المتعددة القائمة على مرونته لا في التجامل مع الأفكار والمبادئ الأخرى، والأدب الإسلامي يقوم على (النظرة الأحادية) التي لا تتحقق معها الرؤية العامة والعالمية..
أما هذه الأيام، فإن هذه الشبهة تثار بعينها، ولكن بأسلوب آخر فيقال: النظام العالمي الجديد ينادي بثقافة عالمية موحدة لا فواصل بين العقول والأفكار فيها، فالناس جميعاً ينتمون الآن إلى ثقافة واحدة تقوم على فكرة (الإنسانية [**]) التي لا تعرف الحدود، والأدب الإسلامي بنظرته الأحادية يدعو إلى التميز، وإقامة الفواصل بينه وبين الآداب العالمية المخالفة له في الوجهة الثقافية.
هكذا تثار هذه الشبهة، فما موقفنا منها؟!
أولاً: نؤكد أنه لا تعارض بين (أحادية النظرة ) وتعدد الثقافة ومصادر الفكر في حياة الإنسان السوي، ولذلك فإن من الخطأ الكبير ما يقال عن حيلولة النظرة الأحادية دون تعدد مصادر ثقافة صاحبها، فالثقافة بمعناها العام ليست حكراً على أحد من البشر، والإطلاع على العلوم والأفكار المختلفة شيء، والمرونة القائمة على الذوبان في تلك الأفكار شيء آخر، والأدب الإسلامي قائم على تصور إسلامي واضح لا غبار عليه، ولا يجيز لنفسه أن يتركه بدعوى تعدد الرؤية الثقافية، ولكنه مع ذلك يؤمن بأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
ثانياً: أحادية النظرة بهذا المعنى - الذي ألمحنا إليه - هي الطريق السليم إلى التميز عن الآخرينº التميز في الفكر، وأصول الثقافة، وقبل ذلك كله (في الاعتقاد)، أي في (الدين).
وإذا كان هذا التميز مطلباً فطرياً في الإنسان، وهدفاً تسعى إليه الأمم والشعوب في ظل أفكارها ومبادئها الخاصة بها، فإنه مطلب شرعي أساس في دين الإسلام.
يقول الله - تعالى -: (فِطرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا لا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ) [الروم 30]، وهذه الآية صريحة كل الصراحة في رسم إطار التميز للإنسان المسلم وهو تميز فريد ذلك لأن الله قال: (إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسلامُ ومَا اختَلَفَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إلاَّ مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ العِلمُ بَغياً بَينَهُم ومَن يَكفُر بِآيَاتِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ) [آل عمران 19].
إذن فالدين الإسلامي هو الدين الذي دعا إلية الأنبياء جميعاً، وهو قائم على رؤية متميزة كل التميز عن الرؤى العقدية والفكرية والثقافية التي تقوم عليها المذاهب البشرية الوضعية، بل والديانات السماوية المحرفة وهذا التميز يقوم في أساسه على (رؤية واحدة) لا يجوز للمسلم الحق أن يتزحزح عنها قيد أنملة، و لا يصح له أن يستقي أصول ثقافته وفكره وأدبه من سواها، ولهذا قال الله - تعالى - لنبيه - عليه الصلاة والسلام - بعد هذه الآية: (فَإن حَاجٌّوكَ فَقُل أَسلَمتُ وجهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ وقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ والأُمِّيِّينَ أَأَسلَمتُم فَإن أَسلَمُوا فَقَدِ اهتَدَوا وإن تَوَلَّوا فَإنَّمَا عَلَيكَ البَلاغُ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ) [آل عمران 20]،.
وهذه الآية صريحة كما نرى في تأكيد (الرؤية الواحدة) مهما اختلفت الرؤى، ومهما أصر أصحاب التعددية الفكرية على مواقفهم، ذلك لأن هذه الرؤية الواحدة هي التي تبني (القاعدة الأم) لفكر الإنسان وثقافته وأدبه (فَإن حَاجٌّوكَ فَقُل أَسلَمتُ وجهِيَ لِلَّهِ ومَنِ اتَّبَعَنِ) [آل عمران 20]، أي: أن أولئك الذين يعترضون على هذه القاعدة الصلبة والرؤية الواحدة قد يحاجون الرسول - عليه الصلاة والسلام - فيها، فإذا حاجوه فإن عليه - بأمر من الله - أن يعلن لهم الثبات عليها دون تردد أبداً، فإذا ما تولى أولئك فأمرهم إلى الله وهو بصير بعباده.
وهذه المعاني التي يغفل عنها كثير من نقاد الأدب المسلمين المعاصرين هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في أدبنا.
ويبرز هنا سؤال هو: هل تتعارض هذه القاعدة، وهذا التصور مع تنويع مصادر ثقافة الأديب الإسلامي؟ ؟ الجواب الذي لا احتمال لغيره: كلا..
ثم كلا..
فالأديب المسلم مطالب بالإطلاع على الثقافات المختلفة وأساليب الأدب المتعددة، مع أن له نظرته الموحدة القائمة على تصوره الإسلامي الثابت.
ومن هنا ندرك أن شبهة التميز المثارة هي خاصية يتميز بها الأديب الإسلامي عن سواه، ويسلم بها فكره وأدبه من الاضطراب، والذوبان، والسير الأعمى وراء كل ناعق ثقافي أو أدبي يدعو إلى التعددية الثقافية الشوهاء.
وإذا كان التميز مطلباً إسلامياً بناء على نصوص القرآن والسنة المطهرة فإنه قاعدة لا بد من الاتكاء عليها في مواجهة انحراف الثقافات والآداب الأخرى، وهو أيضاً قاعدة يمكن أن ينطلق منها الأديب الإسلامي إلى العالمية.
فالعالمية في الأدب لا تعني انفلات الأديب من قيمه وملاحقة المذاهب والأفكار الأخرى المنتشرة في العالم ملاحقة التابع المقلد، ولكنها تعني الانطلاق من رؤية خاصة وقاعدة أدبية مستقلة إلى آفاق إنسانية رحبة..
إن الشاعر الإسلامي محمد إقبال - رحمه الله - هو الذي أوصاه أبوه أن يقرأ القرآن، وهو الذي تناول في شعره قضايا عالمية كبرى تحققت له بها العالمية التي نتحدث عنها.
فهل كان التميز عقبة في طريقه؟ ؟ [1].
وكذلك (شاعر الإنسانية المؤمنة) عمر بهاء الدين الأميري - رحمه الله - لم ينطق إلى دوره الشعري العالمي من تقليد أعمى لشاعر غربي أو شرقي، وإنما انطق إليه من ديوانه الأول (مع الله)، إنه التميز الذي يحققه الأديب الإسلامي على وعي وبصيرة، وهذا التميز هو الذي يحمي الأديب الإسلامي من الانخداع بدعاوى النظام العالمي الزائفة، فيقف أمام هذه الدعاوى شامخاً، ويفندها ويبين للأجيال زيفها وتضليلها، وهو بذلك يسلم من تلك الرؤية الزائفة التي يرى بها - بعض الأدباء المنحرفين - أحداث العالم المعاصر..
يتناول الأديب الإسلامي القضايا الكبرى تناولاً واعياً فإذا تحدث عن النظام العالمي الجديد تحدث عنه حديث الواعي الذي يدرك أنه استعمار صليبي وهيمنة غربية جديدة.
بينما نجد من أدباء ونقاد العرب - ممن يتنادون إلى التعددية الثقافية والفكرية الزائفة - من يرى النظام العالمي الجديد وسيلة من وسائل التقدم لأمتنا..
فها هو لطفي الخولي يقول في كلمة ألقاها في مهرجان أصيلة الأخير: (النظام العالمي الجديد سيفرز ثقافة جديدة تحاول إنقاذ العالم من أهم أربعة أخطار وهي القنبلة النووية، ومشكلة تلوث البيئة، وتفجر الصراعات العرقية، ومشكلة الفقر ) [2]. ويبدو أن هذا الكاتب (المثقف) [***]؟ !..
لم ير ما يجري في البوسنة والهرسك ولم ير الهياكل العظمية التي تعرضها وسائل الإعلام في الصومال الجريح، ولم يفهم معنى التآمر العالمي على الجهاد الأفغاني، ولذلك كانت صورة النظام العالمي في ذهنه صورة حسنة..
وبمثل هذا الوعي الناقص قال أحد أبناء الجزيرة العربية التي انبثق منها نور الإسلام المتميز: (إن النظام العالمي الجديد يستوعب تفكيراً جديداً، رائده هو كيف (نتأقلم ) [3].
وكأنه يريد أن نصنع ما تصنع الحرباء ذات التعددية في اللون حيث أنها تغير لونها على حسب الموقع الذي تكون فيه.
إن الأديب الإسلامي يظل بمنجاة من هذا التخبط لأن التصور عنده إسلامي قائم على تميز في الفكر والثقافة والأدب، وليس معنى هذا التميز أن يكون الأديب الإسلامي غائباً عما يجري في هذا العالم - كما قد يخطر ببال البعض - كلا فإن رؤية هذا الأديب أعم وأشمل، وهنالك قدر مشترك من القضايا والمواقف بين أدباء العالم على اختلاف أفكارهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، مع وجود الفوارق التي تميز بعضهم عن بعضهم..
فالحديث عن المظلومين والمشردين، وتصوير آهات اليتامى والثكالى..
والحديث عن العدل وقيمته، والحرية وأثرها إلى غير ذلك من القضايا، كل ذلك من الأمور المشتركة بين أدباء العالم، أما التميز والنظرة الموحدة إلى الأمور فمن أهم خصائص الأدب الإسلامي الذي تضرب جذوره في تربة الإسلام الخصبة النقية..
وختاماً أنادي كل أديب وناقد يتخذ موقفاً سلبياً من الأدب الإسلامي أن يتخلص من هوى نفسه، وأن يدرس حقيقة هذا الأدب دراسة موضوعية منصفة، فإذا فعل الأديب ذلك فإنني أبشره بزوال غشاوة الشبه المثارة حول هذا الأدب عن عينيه، وعندها سيرى أن الأدب الإسلامي هو سفينة النجاة للأجيال المسلمة في هذا الخضم المائج من المذاهب الأدبية الزائفة المنتشرة في عالم اليوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشرت خمس شبهات في الأعداد السابقة المحرر الأدبي - البيان -.
(**) لقد طرح الشيوعيون من قبل فكرة (الأممية) ونتيجتهم ما شاهدناه لا كما زعموا (المحرر الأدبي - البيان -.
(1) راجع كتاب \" إقبال الشاعر الثائر \" لنجيب الكيلاني ص 15 وما بعدها.
(2) انظر جريدة عكاظ، ملحق دنيا عدد 52الثلاثاء 20 صفر 1413 هـ.
(***) الذين يلبسون لكل بلاد لبوسها، وليس من باب التقليد الأعمى \" المحرر الأدبي - البيان-.
(3) انظر جريدة عكاظ، الثلاثاء 20 صفر 1413هـ.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد