بسم الله الرحمن الرحيم
من أشد الصحابة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغضاً للاختلاف، وكرهاً للتفرق والتشرذم، وتحذيراً من كل الأسباب والوسائل التي قد تؤدي إلى ذلك، الخليفة الملهم المحدَّث الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، لإدراكه لخطورته ومغبة نتائجه، وفساد منقلبه، ولحدة فراسته لأنه كان ينظر بنور الله.
أخرج الإمام الطبري في تاريخه بسنده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -: (أن عمر - رضي الله عنه - قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معاً، حتى لا يقال: مَن صَحَابة فلان؟ مَن جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس، وأيم الله إن هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم، ولكأني لمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقساماً، أفيضوا مجالسكم، وتجالسوا معاً، فإنه أدوم لإلفتكم، وأهيب لكم في الناس).
ها نحن نرى أن عمر فطن لسبب رئيس من أسباب تفرق الأمة، فحذر منه في الحال، ومنع من تعاطيه لما يخشى من نتائجه في المآل، ألا وهو التشرذم والانغلاق والتحزب المؤدي إلى تعدد الولاءات، وتفرق الأمة إلى طوائف وجماعات، وإعجاب كل فرقة بما تهواه من العقائد والمقالات، وسوء الظن بالمخالف، ولو في الوسائل والاجتهادات.
ينتج عن ذلك كله ما حذر منه رسول هذه الأمة، وهو الشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل رأي برأيه، الذي هو من الطوام العظام، والفتن الجسام، حيث لا يجدي معه أمر ولا نهي، ولا نصح ولا رشد.
لقد خشي عمر - رضي الله عنه - أن تكون تلك المجالس والمنتديات نواة لتجمعات وتكتلات صغيرة، وبذرة للتفرق والتشتت المذموم، فمعظم النار من مستصغر الشرر، لذلك نهى عنها وحذر منها، من باب سد الذرائعº لأن التفرق في المجالس، والانغلاق عن المجتمع، ينتج عنه تفرق في الرؤى، فينتسب أهل كل مجلس إلى البارزين منهم، ويتعصبون لهم، ويعجبون بآرائهم، وأقوالهم، وتأخذهم حمية الألفة والاجتماع.
لذات السبب عندما أراد الأنصار أن يتحزبوا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سقيفة بني ساعدة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: منا أمير ومنكم أميرº رد عليه أبو بكر وعمر في الحال، فقالا: منا الأمراء ومنكم الوزراءº حسماً لمادة التحزب والتشرذمº لأن هذه الأمة سر قوتها في اجتماع كلمتها، وتوحد صفها، فالإسلام لا يقوم إلا بالجماعة، ونبذ الفرقة، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار\"، أو كما قال.
المتقون سادة والفقهاء قادة، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -، والقادة ينبغي عليهم أن يترفعوا عن الصغائر، ويدركوا المخاطر، ويسعوا لرأب الصدع، ولَمِّ الشمل، وتوحيد الكلمة، قبل فوات الأوان، وحلول الندامة والخسران، فما لا يدرك كله لا يترك جله، ويكون ذلك بالآتي:
1. تحسين الظن بالآخرين، ونعني بذلك كل المسلمين، سيما أهل السنة، فكثير من أسباب الفرقة مردها إلى سـوء الظن، وانعـدام الثقة، فإذا حَسَّنَ أحدنا ظنه بأخيه المسلم، وحكم عليه بما ظهر منه، وسار فيهم بسيرة ابن عمر - رضي الله عنه -: \"من خدعنا في الله انخدعنا له\"، زالت كثير من تلك الأسباب، وصفت القلوب، واطمأنت النفوس.
2. إجابة الدعوات والإكثار من الزيارات في جميع المناسبات تذيب كثيراً من تلك الأوهام.
3. اللقاءات الدورية والندوات المشتركة والاجتماعات تقرب من وجهات النظر.
4. منع الأتباع من نقل الأخبار عن الغير، اللهم إلا من أهل البدع الكفرية، الداعين لبدعتهم، فكثير من الجفاء وتوغير الصدور مرده إلى تلك النقول، ولا تقل أخي الكريم أخبرني الثقة!! فالثقة لا يبلغ، كما قال ابن عمر - رضي الله عنه -، وإن كان لابد من ذلك فالتثبت واجب.
5. ما صح من المنقول إلينا علينا أن نحمله على أحسن وجه، عملاً بنصيحة عمر - رضي الله عنه -: \"ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير مدخلاً، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك\".
6. عدم الخوض في الجدل والمنازعات والخصومات، فعلينا بيان الحق وتجلية السنة، فمن قبل ذلك يُشكر ومن لم يقبله يترك.
7. لا نقصر حقوق المسلم على أفراد جماعتنا، فهي حقوق عامة لكل المسلمين، عصاة كانوا أم طائعين.
8. أن يشتغل كل منا بعيوبه وسلبيات جماعته، فما أكثر عيوبنا وما أخطر سلبياتنا.
9. الصبر والمداراة لإخوة العقيدة ورفقاء الدرب.
10. اعمل بالحكمة: \"رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب\".
11. أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون صديقك يوماً ما\"، كما أثر عن علي - رضي الله عنه -.
12. توالي أخاك المسلم بقدر ما فيه من خير وإيمان.
13. تبرأ من الأعمال والأقوال السيئة ولا تتبرأ من فاعلها، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - عندما قتل خالد - رضي الله عنه - متأولاً بني جذيمة: \"اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد\"، ولم يتبرأ من خالد.
14. لا نحاسب على ما مضى، فالإسلام والتوبة تجبان ما قبلهما.
15. احذر مسلك أهل الأهواء الذين يبغضون ويقتلون أهل الإسلام، ويتركون ويوالون أئمة الكفر وعباد الأوثان.
أو أن يكون بغضك وعداوتك لمن فارقك وانفصل عنك أشد من بغضك وعداوتك لمن هو أسوأ معتقداً وعملاً منه، ولله در ابن عمر عندما قال عن الخوارج بسبب تكفيرهم لبعض: \"ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفر بعضهم بعضاً\".
فالدخول في جماعة تكون على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من باب التعاون على البر والتقوى، والخروج منها لغيرها لا يقدح بمفرده في عدالة المرء.
16. نعمل على أن لا تفترق صفوفنا وإن لم تتوحد آراؤنا.
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم الفتن والآثام، وأن ينصرهم على أنفسهم وأعدائهم والشيطان، وصلى الله وسلم وبارك على محمد خير الأنام.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد