دعائم الدعوة الإسلامية وواقع الجماعات


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 في خضم ما يمر به العالم الإسلامي من أحداث متعاقبة، عادة ما ترتفع الأصوات في حقل الدعوة الإسلامية بضرورة التماس النجاة في التمسك بجادة الدين، ليتحقق الأمل في تخليص المسلمين من الهوان الذي نزل بهم منذ قرون ولا يزال في ازدياد وتصاعد، ولخروجهم من المضائق التي يعيشونها في مختلف أنحاء العالم.. وبرغم ذلك فإن كثيراً من الجماعات المنتسبة للدعوة ذاتها جهلت أو تجاهلت منهج الأنبياء في الدعوة.. ولا شك أن أولى الخطوات على طريق إصلاح أحوال المسلمين وتخليصهم من أمراضهم المعاصرة تكون في انطلاق الدعوة الإسلامية من منطلقات صحيحة واستنادها على أسس سليمة ودعائم ثابتة..

 

قال الشيخ صالح الفوزان في تقديمه لكتاب \"منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله\": \"فإنَّ الدعوة إلى الله هي سبيل الرسول - صلى الله عليه و سلم - وأتباعه، كما قال - تعالى -: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}، بل الدَّعوة إلى الله هي مهمَّة الرّسل وأتباعهم جميعاً، لإخراج النَّاس من الظلمات إلى النَّور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن النَّار إلى الجنَّة.

 

وهي مرتكزة على دعائم وتقوم على أسس لابدَّ منها، متى اختلَّ واحدٌ منها لم تكن دعوة صحيحة ولم تثمر الثمرة المطلوبة، مهما بُذل فيها من جهود وأُضيع فيها من وقت، كما هو المشاهد والواقع في كثير من الدعوات المعاصرة التي لم تؤسَّس على تلك الدعائم ولم تقم على تلك الأسس.

 

وهذه الدعائم التي تقوم عليها الدَّعوة الصحيحة هي كما دلّ عليه الكتاب والسنَّة تتلخص فيما يلي:

 

1 - العلم بما يدعو إليه، فالجاهل لا يصلح أن يكون داعية، قال الله - تعالى - لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتَّبعني}، والبصيرة هي العلم، ولأنَّ الداعية لابدّ أن يواجه علماء ضلال يوجّهون إليه شبهات ويجادلون بالباطل ليدحضوا به الحقَّ قال الله - تعالى -: {وجادلهم بالتي هي أحسن}، وقال النبي - صلى الله عليه و سلم - لمعاذ: (إنَّك تأتي قوماً من أهل الكتاب)º فإذا لم يكن الداعية مسلحاً بالعلم الذي يواجه به كل شبهة ويجادل به كل خصم فإنَّه سينهزم في أوَّل لقاء وسيقف في أوَّل الطريق.

 

2 - العمل بما يدعو إليه، حتى يكون قدوةً حسنة تصدق أفعاله أقواله ولا يكون للمبطلين عليه حجَّة، قال الله - تعالى - عن نبيَّه شعيب - عليه السلام - أنَّه قال لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه أن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}.

وقال - تعالى - لنبيّه محمد - صلى الله عليه و سلم -: {قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوَّل المسلمين}.

وقال - تعالى -:{ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً}.

 

3 - الإخلاص بأن تكون الدَّعوة لوجه الله لا يقصد بها رياء ولا سمعة ولا ترفعاً ورئاسةً ولا طمعاً من مطامع الدنياº لأنّها إذا دخلها شيء من تلك المقاصد لم تكن دعوة لله وإنمَّا هي دعوة للنَّفس أو للطمع المقصود، كما أخبر الله عن أنبيائه أنَّهم يقولون لأممهم: {لا أسألكم عليه أجراً}، {لا أسألكم عليه مالاً}.

 

4 - البداءة بالأهمّ فالأهمّ بأن يدعو أولاً إلى إصلاح العقيدة بالأمر بإخلاص العبادة لله والنَّهي عن الشرك ثمّ الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وفعل الواجبات وترك المحرمات كما هي طريقة الرسل جميعاً كما قال - تعالى -: {ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.

وقال - تعالى -: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي إليه أنَّه لا إله إلا أنا فاعبدون}، وغير ذلك من الآيات.

ولما بعث النبي - صلى الله عليه و سلم - معاذاً إلى اليمن قال له: (إنَّك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أوَّل ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أنَّ الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم واللّيلة …) الحديث.

وفي طريقته وسيرته - صلى الله عليه و سلم - في الدعوة خير قدوة وأكمل منهج حيث مكث - صلى الله عليه و سلم - في مكّة ثلاث عشرة سنة يدعو النَّاس إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك قبل أن يأمرهم بالصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الربا والزنا والسرقة وقتل النّفوس بغير حق.

 

5 - الصبر على ما يلاقي في سبيل الدعوة إلى الله من المشاق، وما يواجه من أذى النَّاسº لأنَّ طريق الدَّعوة ليس مفروشاً بالورود، وإنَّما هو محفوف بالمكاره والمخاطر، وخير أسوة في ذلك هم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيما واجهوا من أقوامهم من الأذى والسخرية، كما قال الله - تعالى -: {ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون}.

وقال: {ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرنا}.

وكذلك ينال أتباع الرسل من الأذى والمشاق بقدر ما يقومون به من الدعوة إلى الله اقتداءً بهؤلاء الرسل الكرام عليهم من الله أفضل الصلوات وأزكى السلام.

 

6 - على الداعية أن يكون متحلِّياً بالخلق الحسن، مستعملاً للحكمة في دعوتهº لأنَّ هذا أدعى لقبول دعوته كما أمر الله نبيّيه الكريمين موسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام -، أن يستعملا ذلك في مواجهة أكفر أهل الأرض وهو فرعون الذي ادَّعى الربوبيَّة، حيث قال سبحانه: {فقولا له قولاً لينا لعلَّه يتذكَّر أو يخشى}.

وقال - تعالى - لموسى - عليه الصلاة و السلام -: {اذهب إلى فرعون إنَّه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكَّى، وأهديك إلى ربِّك فتخشى}.

وقال - تعالى - في حقّ نبيّنا محمد - عليه الصلاة و السلام -: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}، وقال - تعالى -: {وإنَّك لعلى خلق عظيم}، وقال - تعالى -: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.

 

7 - على الدَّاعية أن يكون قوي الأمل لا ييأس من تأثير دعوته وهداية قومه، ولا ييأس من نصر الله ومعونته ولو امتدَّ الزمن وطال عليه الأمد، وله في رسل الله خير قدوة في ذلك.

فهذا نبي الله نوح - عليه الصلاة و السلام - لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله.

وهذا نبيّنا محمد - صلى الله عليه و سلم - لمّا اشتدَّ عليه أذى الكفّار وجاءه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق عليهم الأخشبين، قال: (لا بل أستأني بهم، لعلّ الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً).

ومتى فقد الداعية هذه الصفة، فإنَّه سيقف في أوَّل الطريق ويبوء بالخيبة في عمله.\"

 

ثم بين الشيخ - حفظه الله - واقع غالبية الجماعات المعاصرة التي تنتسب للدعوة إلى الله، قائلاً:

 

\"وإنَّ أيَّة دعوة لا تقوم على هذه الأسس ويكون منهجها قائماً على منهج الرسل فإنَّها ستبوء بالخيبة وتضمحل وتكون تعباً بلا فائدة، وخير دليل على ذلك تلك الجماعات المعاصرة التي اختطت لنفسها منهجاً للدعوة يختلف عن منهج الرسل، فقد أغفلت هذه الجماعات - إلاّ ما قلَّ منها - جانب العقيدة، وصارت تدعوا إلى إصلاح أمور جانبيَّة.

 

فجماعة تدعو إلى إصلاح الحكم والسياسة وتطالب بإقامة الحدود وتطبيق الشريعة في الحكم بين النَّاس - وهذا جانب مهم لكنَّه ليس الأهم - º إذ كيف يطالب بتطبيق حكم الله على السارق والزاني قبل أن يطالب بتطبيق حكم الله على المشرك، كيف يُطالب بتطبيق حكم الله بين المتخاصمين في الشاة والبعير، قبل أن يُطالب بتطبيق حكم الله على عبّاد الأوثان والقبور، وعلى الذين يلحدون في أسماء الله وصفاته فيعطِّلونها عن مدلولاتها ويحرفون كلماتها.

 

أهؤلاء أشدّ جرماً أم الذين يزنون ويشربون الخمر، ويسرقون؟!! إنَّ هذه الجرائم إساءة في حق العباد، والشرك ونفي الأسماء والصفات إساءة في حق الخالق - سبحانه - وحق الخالق مقدَّم على حقوق المخلوقين -.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب ((الاستقامة)) (1/466):

(فهذه الذنوب مع صحّة التوحيد خير من فساد التوحيد مع هذه الذنوب) انتهى.

 

هذا وجماعة أخرى تنتمي إلى الدعوة - لكنَّها تسير على منهج آخر يختلف أيضاً عن منهج الرسل، فلا تعير العقيدة أهميّة، وإنّما تهتم بجانب التعبّد وممارسة بعض الأذكار على نهج الصوفيّة ويركّزون على الخروج والسياحة والذي يهمهم هو استقطاب النَّاس معهم دون نظر إلى عقائدهم، وهذه كلها طرق مبتدعة تبدأُ من حيث انتهت دعوة الرسل، وهي بمثابة من يعالج جسداً مقطوع الرأسº لأنَّ العقيدة من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، والمطلوب من هذه الجماعات أن تصحح مفاهيمها بمراجعة الكتاب والسنَّة لمعرفة منهج الرسل في الدعوة إلى اللهº فإنَّ الله - سبحانه - أخبر أنَّ الحاكميَّة والسلطة التي هي محور دعوة هذه الجماعة التي أشرنا إليها لا تتحقق إلاّ بعد تصحيح العقيدة بعبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه.

 قال الله - تعالى -: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}.\"

 

إلى أن قال حفظه الله:

\"وإنني أرى أن ما وقع لتلك الجماعات من مخالفة لمنهج الرسل في طريقة الدعوة إلى الله إنما نشأ من جهلهم بهذا المنهج  والجاهل لا يصلح أن يكون داعية، لأن من أهم شروط الدعوة العلم كما قال - تعالى - عن نبيه: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا من اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} فأهم مؤهلات الداعية العلم.

 

ثم إننا نرى هذه الجماعات المنتسبة إلى الدعوة مختلفة فيما بينها فكل جماعة تختط لنفسها خطة غير خطة الجماعة الأخرى وتنتهج غير منهجها وهذه نتيجة حتمية لمخالفة منهج الرسول - صلى الله عليه و سلم - فإن منهج الرسول واحد لا انقسام فيه ولا اختلاف عليه كما قال - تعالى -:{قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} فأتباع الرسول - صلى الله عليه و سلم - على هذه السبيل الواحدة لا يختلفون.

 

وإنما يختلف من خالف هذه السبيل، كما قال - تعالى -: {وأن هذا صراطي مستقيماً فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} ولما كان أمر هذه الجماعات المخالفة والمختلفة يشكل خطراً على الإسلام قد يُصدّ عنه من أراد الدخول فيه كان لا بد من بيانه وبيان أنه ليس من الإسلام في شيء كما قال - تعالى -:{ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}، ولأن الإسلام يدعو إلى الاجتماع على الحق كما قال - تعالى -: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}، وقال - تعالى -: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}\".

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply