الحوار مع الغشاوة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في زمن الفتن وتعاقب الأحداث تبرز على الساحات خفايا المجتمعات وما تحمله من متغيرات يومية تضغط عليها أفكار متنوعة كل واحدة منها تجادل عن نفسها وتريد إثبات وجودها محاولة بذلك التطاول بعنقها وسط الزحام، في هذه الأثناء كان ينبغي للصراحة أن تأخذ مكانها المقبول والمرضي لجميع الأطراف الملتقية على مائدة الحوار سواء المختلف منها أو المتفق فإن مما يفتح العقول للحوارات البناءة الناضجة والطروحات الموضوعية الحرة الشرعية هو تمييز أحاديثنا عن طريق تزويدها بزاد الصراحة المدعومة بجميل الألفاظ والمقننة بالمكاشفة النقية والبعيدة جداً عن العواطف وبواعثها المعمية للألباب ذلك أن القضايا المصيرية وغيرها حين تشرع أبوابها على مصراعيها لتلجها العواطف تجعل التعامل معها والحكم عليها معدوم الحكمة فيسود النقد التأثري الجائر حين تطغى غشاوة العاطفة على القلب فلا يرى إلا بها ولا يحكم إلا بما تلزمه به.

إن مجاملة الآخر زجٌ به إلى المهلكة واقتيادٌ له مع فكره المجامل إلى الطريق الملتوي وهذا مدعاة إلى أن ينظر بعين واحدة إلى المنصحين والمصلحين من حوله على أنهم حساد يملون عليه ما يمليه عليهم حقدهم وهم في الحقيقة من هذا برءاء، ثم إن توسيع دائرة المجاملات إلى مرحلة الإعجاب بحلاوة العلقم وجمال صوت الأبكم تجعل المصابين بدائها وغشاوتها أشبه بالبالونات المليئة بالهواء يفتضح أمرها مع أول امتحان لها مع الصبر ولهذا فإن ممارسة المجاملات بكثرة يعد نوعاً من أنواع التدليس وضرباً من ضروب الخديعة ولن يجد المخدوعون بها في يوم ما من يزيف لهم الحقائق بل سيقول لهم بلا ريب هؤلاء أنتم وهذا هو المطلوب فإما أن تجيدوا وإما أن تغيروا أو لا مكان لكم معنا فارحلوا وعندها سيصدمون بحقائق أنفسهم وعيوبها الغائبة عنهم.

إن فريقاً ممن يزعمون الإيمان بفكرة الحوار البناء والنقاش الموضوعي النزيه وممن يهتمون بأساليب لمِّ الشمل ونبذ الفرقة هم أشد الناس كفراً بهذه النظريات فما تلبث مزاعمهم الهشة أن تنكشف أمام سيل الأحداث المتعاقبة والفتن المتلاحقة، ذلك أن الحوار حين يقوده من لا يريد التنازل عن رأيه قيد أنمله فإنه لا يعدوا أن يكون اجتماع بلوره عاقدوه ـ شعروا أم لم يشعروا ـ على تضييع الوقت به واستهلاك مادة الكلام فيه، فالنقاش حين يكون هدفه المبطَّن انتصار للذات وإثبات لشهوة المجادلة الساعية للإسكات ومن ثم الإطاحة بفكرة المُنَاقَش وتذليلها وإذابتها ولو حملت في طيها أحياناً بوادر الحق وبراعم يافعة تتقبل التصحيح والتنمية كل هذا يؤكد هشاشة تلك المبادئ الحوارية وضعف روادها.

إن محاولة الرقي للأفضل بعيداً عن سلالم المكاشفة والمصارحة وتقليل الأخطاء وتوضيحها ومواجهة المخطئ بها كل هذا يصيب المجتمع بأمراض القوة الوهمية والإعجاب بالتفاهات. وبالمقابل فإن إزالة الغشاوة عن الحوار مطلب مشرق ومضيء لأولي الأبصار.

إن الآداب الإسلامية الراقية ينبغي أن تظهر في مكانها المناسب وسط الحوارات الهادفة البناءة وألا تكون مترددة دائماً على الألسن دون أن تهذبها أو تتطبع بها، فبإمكاننا أن نكون مقنعين لكل الناس بما نريد إذا ملأنا عقولهم بما يريدون وذلك بسلوك بعض الأساليب الفنية المركبة الساحرة التي لا تضرنا في عقيدتنا ولا تهز من ثوابتنا.

إن الناس يعجبون دائما بمن يفتحون لهم الصدور بأريحية مطلقه وبمن يتقبلون أفكارهم ويتفاعلون معها بروح المحبة والمصافاة، إنهم قد يتنازلون عن بعضها إذا أحسوا فقط بأمانة من أمامهم وبصدق الرسالة التي يحملها بين جنبيه ذلك أنه ومن على شاكلته من الصادقين المخلصين إن يريد إلا الإصلاح ما استطاع فقمنٌ أن يطاع بما يستطاع.

فما أجمل الحق حين يبحث عنه مبتغيه بصدق ونزاهة وما أسرع الوصول إليه إذا أبعد عن نفسه غشاوة المكابرة فبهجرها وطردها يصل إلى بغيته بإذن الله وتوفيقه.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply