بسم الله الرحمن الرحيم
في العام الأول من انتفاضة 1987 سأل ضابط المخابرات الصهيوني شاباً فلسطينياً من قرية دير ياسين الشهيرة بمجزرتها: \'أما زال أبوك يحلم بالعودة إلى دير ياسين؟\'.. فأجاب الشاب: \'إذا كنتم أنتم لم تنسوا أننا من دير ياسين.. فكيف تريد منا نحن أن ننسى؟.. إنه إذا لم يعد والدي.. ولم أستطع أنا العودة.. فإن أولادي بالتأكيد سيعودون إلى دير ياسين\'.. ولفت الشاب نظر المحقق الصهيوني إلى أن المهجَّرين من أبناء القرى والمدن الفلسطينية المدمرة، يطلقون أسماءها على محالهم التجارية وشركاتهم ومؤسساتهم، فهناك بقالة العجوري وسوبر ماركت اللفتاوي وكسارات أبو شوشة وصالات الجمزاوي.. إلخ.
وفي السياق نفسه.. أذكر أن الدكتور إياد البرغوثي أستاذ علم الاجتماع بجامعة النجاح، أجرى في منتصف الثمانينيات استبانة تضمنت سؤالاً للطلبة إن كانوا لا يزالون يعتبرون الأندلس وطناً عربياً إسلامياً ينبغي أن يعود إليهم؟ وقد لاحظ أن نسبة لا بأس بها من الطلبة أجابت بالإيجاب.. فعلق بالقول: إذا كان هذا هو موقف الطلبة بالنسبة للأندلس.. التي تفصلنا عنها مئات السنين في الزمان، وآلاف الأميال في المكان.. فكيف ستكون الإجابة لو كان السؤال يتعلق بفلسطين؟.
الآتي.. لقتلك:
الآتي لقتلك.. هو عنوان مذكرات يعقوب بيري المدير الأسبق لجهاز المخابرات الإسرائيلية \'الشاباك\'.. يستعرض فيها مسيرة تسعة وعشرين عاماً في الجهاز.. وهو يخاطب الجمهور الصهيوني كيف أنه وزملاءه كانوا يصلون الليل بالنهار ليحولوا دون كثير من الأعمال الفدائية التي كان يمكن لو نجحت أن يقتل فيها المئات بل الآلاف من الصهاينة، وكان يمكن لها أن تهز أركان الكيان وتهدد وجوده.
وربما يلاحظ القارئ لفصول الكتاب أن بيري يسعى إلى استعادة ثقة الجمهور اليهودي في الجهاز بعد اغتيال رابين والإخفاق في منع عدد من العمليات الاستشهادية الموجعة.. وكذلك فإنه يحاول التزلف إلى هذا الجمهور خاصة وأنه شخصياً تعرض خلال رئاسته للجهاز للاتهام بسوء الإدارة وعدم النزاهة.. لكن الشاهد في موضوعنا أنه يسعى إلى ذلك بالعزف على الوتر الحساس بالنسبة لليهود الغاصبين: هاجس الأمن وإحساسهم الدائم بأن هناك من يهدد وجودهم وحياتهم.
الصهاينة عادة يتجاهلون عمداً لماذا يوجد هناك من يريد مقاتلتهم.. الآن هؤلاء متعطشون للدماء؟ إذن فلماذا يتجشمون كل هذه الصعاب ويتخطون الحواجز ويقطعون الحدود ويسيرون في حقول الألغام لأجل النيل منهم؟ إنهم لو كانوا عدوانيين بالفطرة أو مجرمين سفاحين لكان الأسهل لهم أن يستهدفوا المواطنين المحيطين بهم ويوفروا على أنفسهم كل هذا العناء.
إن عبارة: \'الآتي لقتلك\'.. هي تسليط للضوء على الحلقة الأخيرة من المسلسل الطويل، بل اختزال واختصار لكل المسلسل في المشهد الختامي منه، وتجاهل متعمد لكل الحلقات والمشاهد السابقة التي \'أدت\' إلى هذا المشهد الختامي.. حلقات ومشاهد الاقتلاع والتهجير والتدمير والمجازر والاعتقالات والمصادرات..
اليهود بذلك يقلبون الحقيقة رأساً على عقب.. إذ من هو صاحب الديار ومن الآتي من وراء البحار، لقتل الآخر واجتثاثه من أرضه ثم استيطانها والحلول مكانه فيها؟ لقد صدق فيهم المثل العربي: رمتني بدائها وانسلت.
اليهودي إذن خائف من القتل.. بسبب العظام التي تقرقع في بطنه.. إنه المريب الذي يقول خذوني.. مجرم.. سابقاً ولاحقاً مع سبق الإصرار والترصد يشعر بأن العقوبة آتية لا محالة.. إنه خائف لأنه ليس صاحب حق في هذه الأرض.. ولأن صاحب الحق لا يريد أن ينسى حقه.. واليهودي لا يريد أن يعيد الحق الذي اغتصبه إلى أهله، ولا يريد أن يعود من حيث أتى.. فهو يعيش في حالة خوف وقلق هستيري.. حذراً من أي نشاط أو بادرة أو تفكير أو حتى \'حلم\' بالعودة إلى دير ياسين وأخواتها.. ولذلك فلا بد له أن يرتكب المزيد من الجرائم.
لقد سبق أن علل سياسيهم الداهية شمعون بيريز سبب الإجراءات التعسفية الإجرامية واستخدام طائرات إف16 ضد المدنيين الفلسطينيين، بأن الأمر يتعلق ب\'وجود إسرائيل\'. هذا التصريح يؤكد أن القضية بالنسبة للصهاينة هي مسألة: حياة أو موت.. وجود أو عدم وجود.. لسان حالهم يقول: نكون أو لا نكون.. يلاحقهم هاجس الأمن.. يقلقهم ويهزهم.. حتى الطفل الفلسطيني الذي يرجمهم بحجر لا يكاد يصل إلى جنودهم المحصنين والمدججين بالسلاح.. هذا الطفل يعلن بحجره أنه يرفض وجود إسرائيل.. ويؤكد للصهاينة أن وجودهم على هذه الأرض ليس أكثر من مسألة وقت.. فموازين القوى لن تظل على حالها أبد الدهر.. ولأنهم ليسوا أصحاب حق، فإنهم ليسوا على استعداد لانتظار الطفل حتى يكبر.. بل يسارعون، لا إلى كسر اليد التي تحمل الحجر فحسب، بل إلى قطع الرأس الذي يحلم بالعودة وإزالة الاحتلال.
وبيريز حينما يصرح لوسائل الإعلام الغربية بأن الأمر يتعلق بوجود إسرائيل فلأنه يدرك أهمية إسرائيل بالنسبة للغرب، وأن هذه الدولة المسخ أريد لها أن تقوم بدور المجموعة الوظيفية، على حد تعبير الدكتور عبد الوهاب المسيري، لتشكل عائقاً يحول دون وحدة وتطور وانطلاق هذه الأمة، خدمة للغرب.. ولأنها في خدمة الغرب فإن الغرب هو الذي أنشأها وقواها، وباستمرار دعمه وتأييده تظل واقفة، وبانقطاعهما تصبح مهددة بالاقتلاع والزوال.
بيريز يعزف على الوتر الحساس.. ولسان حاله يقول للغرب لا تنتقدونا ولا تؤاخذونا على ما نقترفه من جرائم.. فإن الأمر يوشك أن يودي بنا، فهل يسركم أن تصبحوا ذات يوم لتجدوا أن \'دولة إسرائيل\' قد مسحت من الخريطة؟
أما نحن فيبقى رهاننا على الذين لا يزالون يكافحون ويجاهدون لتحقيق حلم العودة إلى حيفا واللد وبيسان وعسقلان وعين كارم ودير ياسين وسائر أخواتها.. والاتكال قبل ذلك وبعده على الحي الذي لا يموت.. والله غالب على أمره.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد