بسم الله الرحمن الرحيم
شعلٌ تحترق في صدور أغيارٍ, كثيرين.. يذكيها مشهد مؤمنٍ, عاجز يقف أمام كافرٍ, جلد يسل سيفه يبغي مصرعه...
وتكاد القلوب يتفطرن منه.. وتنشق العقول..وتخر الضمائر هداً..أن ذاك المؤمن عالم تمام العلم بنية خصمه..قادر على رده..قانع بعجزه..
وكأنه يكفيك مؤونة الوعظ والصراخ... يقول لك: إن لم يعظني سيف الكافر لأنشط.. فما عساك تعظني به؟
أحقاً ذاك شبل أسود وسليل أمجاد...يفسر إقبال هذا التناقض...يقول..
جوهر الآساد أضحى خزفاً *** حين أضحى قوتهن العلفا
برثن الفولاذ فيها قد وهن *** واستكان القلب في قبر البدن
واهم من ظن أن تلك مبالغة.. ليس لها ما يعضدها في أرض الواقع..ولا ندعي عدم التكلف في التحذير... غير أن جلالة الخطب المتوقع سوغته..
وكأني بقديم من أشداء الدعاة راح يزور ميدان الاحتكاك اليومي..يرقب دليلاً يحاججني به أن الجيل الجديد ما زال على ما كان عليه الرعيل الأول من النشاط والحيوية، أو أقل بقليلٍ, لا يسوغ معه اللوم، فيرى القديم بنفسه ناشئاً يسأل زميله أن يناوله مفتاحه الساقط، ليبادر إليه ناصحاً: \"هلاّ التقطته يداك؟\"، فيشير الناشئ يبرر فعلته لمربيه الخاص يقول:\"هكذا علمني أستاذي\".
ولقد يُستوهن هذا الدليل لصدوره من ناشئ... غير أنا ما عذلنا الناشئ بل نعذل من أشارت سبابته إليه.
* * *
وأناديك يا ابن الرعيل الأول لترى ما أرى، من آخر من الدعاة كُلف بتدريس حلقة علم، فدار الحول ولما تدر الحلقة.. وإياك أن تبرح المكان دون أن تسبل الدمع على أبناء تلك الحلقة..
عندما مر عليهم عام سبقهم فيه أترابهم بعلوم نهلوها من نشيط...ليشهدوا بأنفسهم وعلى أنفسهم وهم الضحايا..بعد زمن..كيف يتعلمون صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن طالت لحاهم..
ما كان لنا أن نلومهم، وقد نادوا: من يشترينا بملء عقولنا؟، فدققنا صدورنا وقلنا: نحن، واشترينا..ثم افترقنا..فزال الخيار..ووجب السداد.
* * *
ولا ترحل يا ابن الرعيل الأول قبل أن تشهد معي ثالثاً من الدعاة، قد قفل من اجتماع مع إخوة له مربين تكفل فيه ببدء المرحلة الأولى ضمن خطة لإصلاح عيبٍ, في نادر ألمعي من المدعوين، يراه المجربون راحلة المستقبل تقود خلفها تسعةً وتسعين من الإبل بإذن الله.. والعمر يمضي، والشمس تجري لمستقر لها.. وداعيتنا في بيته مستلقٍ, على أريكته وبيده كأس ماءٍ, بارد.. يقرأ شعر إقبال..يصرخ فيه...يقول..
صيرفي القول إن تبغ الحياة فاجعلن معياره شرع الحياة
نيّر الفـكرِ يقـود العمـلا مثل رعد بعد برق جلجلا
يمِم البيدَ اشربن من حرها وألَفن في حرها صرصرها
فيكمل ما تبقى من مائه البارد... يتمتم وقد نعس: لله هو ما أبلغه..
ويكون الفصل الأخير من قصتنا، أن عيب ذاك المدعو نما وفرخ عيوباً، أثقلته مع الزمن حتى أركسته..فانضم إلى سابقيه في قائمة ضحايا عجز الثقات..
* * *
إن المرحلة التي تمر بها الدعوة تلزم كل من تشرف وتكلف بالاصطفاف في صفها بعد قناعة منه أكيدة، أن يركل العجز وراءه ظهرياً، أو إن قدر أن يعقره ويسفك دمه..
هكذا دون توان أو تردد.. ليس لها مكان ظروف الزمان بين الأمر والاستجابة عندنا معشر الدعاة.. فالمحل دونها ضيق، ولا وقت تصفه حروف العطف..حتى الفورية منها كفاء التعقيب {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}\"فلم يتلكأ.. ولم يرتب.. ولم ينحرف... واستجاب فور تلقي الأمر\".
ولقد يرى مجتهد أن العجز داء خطير على نتاج الدعوة وأبنائها، ولكنه لا يصل إلى درجة من الخطورة تستحق إتعاب النفس في الكتابة عنه... فحسب الغيور نصح العاجز نصحاً فردياً..
ويا سبحان الله...ثم يا سبحان الله..
ألم يعلم ذلك المجتهد بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال: \"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله الأماني\". فأسفلن بها من صفة تلك التي هي بنتٌ للهوى و أرزئ به من خلق هو الهوى الذي يهلك النفس، روى أبو أمية الشعباني قال سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية (عليكم أنفسكم) قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعاً ودنياً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك يعني بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله وزادني غيره قال يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم\".. ثم إن كان العجز طارئ في آحاد على مجتمع الدعاة الأحياء، فلقول ذلك المجتهد وجه من الصحة، غير أن من في الميدان يشهد أن منهم عدداً.. وعاجز واحد أفلت تسعاً وتسعين مدعواً كانوا في صفك لولا أنه ما بدأ خطوته الأولى لإصلاح النادر الراحلة.
ولقد يسربل العاجز نفسه ثوباً من التؤدة والأناة يظنه قشيباً...ويشرع يلوك في فمه أن: \"في التأني السلامة وفي العجلة الندامة\" والساذج من أفحمته تلك الحجة، كأنها صائبة على إطلاقها وما هي كذلك.. بل التأني خير كله إلا في أمور الآخرة فالعجلة فيها أولى وأسدد والريث فيها معيب، قال الأعمش ولا أعلمه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة\"...فإن ضاقت نفس العاجز بنا ورام غيرنا يعظه... فذو الجوشن من خلف التاريخ يرسل له أناته مع بريد طبقات ابن سعد يصف:\"كان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر فلم يسلم إلا بعد فتح مكة\".
ثم ما عساها تكون طبيعة الخط البياني لمعدل إيمان العاجز إلا أن تكون شديدة الانحدار أو قل متوسطة على خير تصور.. ويتصدى العاجز لتربية النشء.. ثم يكون الجفاف الإيماني سمة ذلك النشء.. وما هم بملومين.
ومن الظلم للعقل توقع بذل المهجة من قبل العاجز إذا زلزلت الأرض زلزالها، ونودي أن قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.. في حين أنه ضن عليك بشيء من راحته أيام الرخاء..
ألا إن استبطاء النصر ليس استعجالاً كله، كما يحلو لبعض المجربين أن يبرروا به حماسة المبتدئين.. بل فيه شيء من الحق الإيجابي.. على شكل إشارة استفهامية مفادها: \"أن هل استكملت جوانب النصر حتى يأتي النصر، أم أن هناك نقصاً قد حبسه؟ {وما النصر إلا من عند الله} ويريد الله منا أن ندفع الثمن {إن تنصروا الله ينصركم} ونصرة الله توفيق وحفظ ُ أثناء عملية التغيير من واقع لا يرضاه الله إلى آخر يحبه سبحانه ، وهو سنة إلهية لها مدخلات لتتكون و تقع، وليس فيها لمؤمن على كافر أسبقية، بل الكل فيه سواء فهي جزء من إرادة الله الكونية {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
* * *
وبعد..
فما أملك إلا أن أمد يدي، لأرفع العاجز وأريه فوق تلك التلة كيف يزأر محمد كلزي...يقول..
أمل يداعب خاطري وله أدين *** الكون ردد صرختي عبر السنين
والدهر يشهد أنني لن أستكين *** لهب يؤجج أضلعي ويثير لاعجة الشجون
فتضج أعماقيَ الحرّى أناشيد اليقين *** لن أستكين لغير رب العالمين
وأنمق من بعد كلامي فتخونني البلاغة.. وأحسنه فتعييني عبارتي الهزيلة..
لأستعير قوله - تعالى - (فإذا فرغت فانصب..).
ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبرني ويخبرك: \"إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإن غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل\".. فإن عاودك الحنين إلى عجزك الأول، وأهاج الشيطان في نفسك ذكريات أيام الراحة والفراغ، فخذ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"واستعن بالله ولا تعجز\"دواء ً لك، تجرعه حال إحساسك بالألم.
وما لدوائنا نفع قبل الإقرار بحدوث العجز إقراراً يجعلك تستعرض معه طيوف عجزك الغابر المزعج.. تقطعها عليك قصة عبد الرحمن بن كعب بن مالك كيف كان يقود والده الأعمى إلى المسجد لصلاة الجمعة، فيلحظ أن والده يستغفر لأبي أمامة عندما يسمع الأذان في كل جمعة..ولم يفك الابن لغز ملاحظته إلا بعد أن اعترف بعجزه فقال:\"والله إن هذا لعجز\" فسأل أباه بعد سنين، فمنحه الله علماً على لسان أبيه.
*ولقد اجتمع عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من الصحابة يروون الخبر يقولون: \"قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تبايعون رسول الله وكنا حديثي عهد ببيعة فقلنا قد بايعنا يا رسول الله، ثم قال ألا تبايعون رسول الله، فقلنا قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال ألا تبايعون رسول الله، قال فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك، قال على أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً والصلوات الخمس وتطيعوا وأسر كلمة خفية، ولا تسألوا الناس شيئاً فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه\"..
* * *
فخذ سوطك بيدك...فلأن تتناوله بيدك خير من أن تعجز فيعزلك الفاروق لو كنت عاملاً له على ولاية..
يفهم ذلك العاقل مما جاء في خبر مقتله - رضي الله عنه - وسؤال الصحابة عن خليفة يوصي به عمر فقال:\"ما أجد أحداً أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي عنهم رسول الله وهو عنهم راض ٍ,\"..إلى أن قال\"فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذاك و إلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله عن عجزٍ, ولا خيانة.. الحديث\"..هكذا عدها الفاروق.. العجز ذريعة لعزل الولاة..
اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكبر والكسل والهرم وغلبة الدين وقهر الرجال..
وايم الله إني لأكتب مقالتي هذه وما أعلم عند أحد من العجز والكسل أكثر مما أعلم عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه، والكاتب إذ يعظ، إنما يعظ نفسه أولاً وهو المغرق، ثم إخوته سلفاً...يريد أن ينتشله إخوته من عجزه.. ليكونوا بمجموعهم قرةً للعين، وبرداً وسلاماً على قلوب أساتذتهم الأغيار..
يطفئون ما اشتعل في صدورهم من إثر عجزٍ, قد سلف..
ولقد (عفا الله عما سلف).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد