بسم الله الرحمن الرحيم
رسالةٌ وصلت للتّو من سَفرٍ, بعيد، تمدّ إليك يديها فاحتضنها..
تدفّق فيها الإحساس وانسابت في ثناياها المشاعر..
كلماتٌ منتقاة وجملٌ تزيّنت للقاءك فأرعِ لها سمعك..
راعيتُ فيها مسالكَ الأدب، فغشاها لك احترامٌ وجلّلها لسابقِ فضلك امتنانٌ..
إنها آهاتٌ يطلقها قلبٌ أدماه واقع الأمة المؤلم بين مطرقة\"كيد الأعداء\"وسندان\"تقاعس الدعاة\"..
إنها همساتٌ لكل من قعدت به همّته وكبلته الدنيا بقيودها..إلى مَن رضي بأن يكون مع الخوالف..
إلى مَن هجر فضاءات الإيجابية وسوح البذل والعطاء، ليقبع في سراديب السلبية والإنكفاء..
إلى مَن تباطأ سيره وثقلت خطاه بعد أن كان في قيادة الركب..صرخةٌ مدويةٌ علّها أن تُذهب نعاساً غشانا وغفلة تناوشتنا..
أُسِرّ بها إليك إسراراً تفهمه وغيرك لا يسمعه..
أنا لم أنسَ بدرياتك..
أوَ تظن أيها المفضال أنّي نسيت سابقةً لك حين عزمتُ على كتابة هذه السطور بين يديك؟! أوَ حسبت أيها الرمز أنّي قلبت لك ظهر المجنِّ كما يقولون؟! أحقاً تعتقد أنّي فككتُ قيداً من أدب أو كسرتُ باباً لامتنان؟!
لا وألف لا.. لمَ أنس يوماً علمتني فيه معنى الوفاء وذِكرَ الفضلِ لأهل الفضل، لم تخني ذاكرتي لأسترجع يوماً جلست فيه أقرأ بين يديك (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان)، لم تغِب عني يوماً بل لحظةً تلك الهمسات الإيمانية التي أسررت بها إلي أو الإشراقات الفكرية التي أهديتها لي عبر سنيّ الملازمة، بل مازلت أذكر صولاتك بين الأزقة تبحث عن رواحل تشاركك همِّ حمل الدعوة وقيادة المئات.
لستَ على حرفِ صوابٍ, لو ظننتَ أنّ أخاً لك أو قُل ابناً يجمعه بك نسب الدعوة قد نسيَ فضلاً قدمتموه أيها الروّاد أو خيراً نشرتموه حين كان في سكك الحياة لاهياً وفي دروب الهوى سادراً..
أنا -يا أخي- مَن قضيتُ الأوقات سباحةً في بحور حسناتك وحملتُ قُلَلَ ماءك الطاهر الذي لا يحمل الخبث، فلا يأخذنّك ظنُّ لُبعيد فما زال إحسانك يُغرقني ولا زالت سوابقك في الخير تأسرني وأشجار فضلك تظللني.. مازلتُ أذكر تعليقاتك التربوية ولفتاتك الرائعة حين علمتني مع ثلة من أخواني معاني العدل والقسط في الحكم على الناس وألاّ تنسينا لصاحب فضلٍ, زلةٌ أو يُعمينا خطأٌ لسابقٍ, فضلاً عن تقصيرٍ, يعرِض أو فتورٍ, يطرأ!!
ولا زالت أصداء تلك المعاني السامية التي نثرتها عبقاً من فقه الدعوة تتردد في مسمعي حين سردتَ بأسلوبك الشيّق الماتع قصة حاطب بن أبي بلتعة وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر الفاروق - رضي الله عنه -:(لا، إنه شهد بدراً، وإنك لا تدري، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فإني غافر لكم)؟
ألا تسمع من مُحب؟!
بعد هذا الكلام الذي أعياني سرده - لقلة بضاعتي - وتلك التأكيدات التي قدمتها على صدق نيتي وسلامة سريرتي وتلك التطمينات أنّي باقً في الصف إن كان في المقدمة أو مع الساقة..أفلا تأذنُ لي أن أناجيك؟ أفلا تسمع لمُريدٍ, أرّقه حال دعوته؟ أفلا تلتفت لمَن أهمّه ما أنت عليه والناس عليه؟ أم مازلتَ في شكٍ, مما أقول؟ فلك مني أيمانٌ ثلاثة أنّي لن أنازع الأمر أهله ولن أرفع يداً عن طاعة.
ولكنها محبة في الله تدفعني للحديث معك دون تكلفٍ, أو تردد يُجلّيها الحارث المحاسبي في رسالته للمسترشدين حين قال:\"اعلم أن مَن نصحك فقد أحبك، ومَن داهنك فقد خانك، ومَن لم يقبل نصيحتك فليس بأخٍ, لك\".
لقد علمتني أيها الرائد كيف أقدم النصح على طبقٍ, أحلى من الذهب، كما علمتني فنوناً جميلة لتغليف النصيحة والتوجيه، ولكني اليوم أُنشدك الله أن تعلمني - بحالك قبل مقالك - كيف نقبل نُصحاً أسداه تلميذٌ وزفرات أطلقها مفضولٌ لم تُثقل عاتقه هموم دعوةٍ, أو تُرهقه أعباءٌ ومسؤليات كحال مَن تقرأ سطوره؟
قِلةٌ مصطفاة.. لكنهم بشر
إن طلب ديمومةٍ, على حال هو ضرب من خيال لن يجد له صدى في واقع أو أثراً في نفس، كيف لا والبحر بين مدٍّ, وجزر واليوم يتعاقبه ليلٌ ونهار والسنة تتجاذبها فصولٌ أربعة..\"والنجم إذا هوى\"ألم ترَ نجماً يأفل أو شمساً تغرب؟ أو ما تأملت في البدر كيف صار محاقاً\"والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم\"؟ فتغيّر الحال سُنة كونية جارية و قديماً قيل\"دوام الحال من المحال\".
وهذه قاعدة صحيحة تستطرد في نفوس المؤمنين بين إقبال وإدبار، وهمّة وفتور، بين صعود ونزول، وتقدّم وتراجع، ولكن للتغيّر حدود وضوابط، وأُطُرٌ وموازين لا تقبل من راحلةٍ, أن يكون سائمة ولا من مهاجرٍ, أن يتعرّب!! وهذا إمام الدعاة -صلى الله عليه وسلم- يقرر هذه الحقيقة فلا تتفاجأ لو لمست من نفسك جنوحاً إلى راحة أو تجاوباً لنداء الأرض بالسكون\"لكل عملٍ, شِرّة، ولكل شِرّة فترة، فمَن كانت فترته إلى سُنتي فقد اهتدى\". فالخطأ وارد والتقصير متوقع بحكم طبيعتنا البشرية الخاضعة لقاعدة:
ما بين طرفة عينٍ, وانتباهتها ***** يغيّر الله من حالٍ, إلى حال
أمَا لفتَ نظرك ثلة من المؤمنين اصطفاها الله بعد أن تجاوزت الإبتلاءات\"فشربوا منه إلا قليلاً منهم\"فلما اعتراهم لبشريتهم خَوَرٌ طارئ\"قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت\"؟ أما قال قومٌ خرجوا لجهادٍ, في سبيل الله\"اجعل لنا ذات أنواط كما لهم\"؟ أما اشتكى بعض الصحابة النجباء من تلك الظاهرة وقالوا: يا رسول الله إنا نكون معك فنرى الجنة والنار رأي العين، فإذا رجعنا وعافسنا الأهل والولد نسينا كثيراً!!
فما أردت تقريره هنا هو استمرار حركة الفرد والمجموعة وتموجهما في خطٍ, بياني بين قيعانٍ, وقمم مع اختلافٍ, في طول الفترة وإحداثياتها، وتبدل حالهما بين سطوعٍ, وأفول مع تباينٍ, في القوة وسرعة الأوبة.
الناس بين حصار المنكرات و عجز الثقات
إن الناظر إلى مجتمعاتنا بشيءٍ, من التأمل يجد أن أعداء الأمة من الخارج أو الداخل قد تضافرت جهودهم ولم يألوا جهداً للنيل من ثوابتها والعمل على تقويض ما بقي من إيمانٍ, في نفوس أفرادها وهدم كل معنىً جميل أو مبدأ ذي قيمة، إنها هجمة شرسة يشنّها عدوٌ حاقد ظاهر يعضّده منافقٌ تخفّى في لباسنا وتكلم بلساننا.
وإن القلب والله ليحزن والعين لتدمع لما نراه اليوم من تفشٍ, للمنكرات ومظاهر الانحلال بصورةٍ, تقشعر منها الأبدان وتتقزز منها النفوس الطاهرة ولا داعيةٌ نجيبٌ يدق صدره يقول أنا لها، لن يخذّلني واقعٌ مؤلم أو تُرهبني قوة للباطل منتفشة.
لقد ثبت الإمام أحمد في محنته وأمام فتنة السوط التي كان يخشاها حين قال له أحدهم: لقد ضُربتُ في الخمر أكثر من ثلاثة عشر ألف سوط، أفلا تصبر وأنت على الحق؟! فكيف بك أيها الشهم الهمام..أتقعد وأهل الباطل واقفون؟ أرضيت أن تمشي في دروب الخير ودعاة الرذيلة وسماسرة المنكر بالشر يركضون؟ ألا يحرّك فيك حال الناس وحاجتهم إلى ما في يدك من عميم الخير ساكناً؟! ألا يشحذ همتك -وأنت على الحق المبين- حالُ أقوامٍ, سهروا ونصبوا وهم على باطلٍ, قد جنّدهم إبليس عنده؟! ألا\"إنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون\".
أيرضيك أن تضل تسعٌ وتسعون من الإبل في لحظة تكاسل كبّل إقدامك بقيوده فاثّاقلت إلى الأرض أيها الراحلة؟!
أيحق لك أن تطفئ نوراً أكرمك الله به لتمشي به في الناس تبدد ظلماتٍ, أحاطت بهم فتاهوا؟!
إن حال أمتنا بين استئساد أعداءها وغفلة شعوبها يصيح فيك أيها الداعية أن المسوؤليات عظام والواجبات جسام ولا وقت للراحة والدعة، فالخطب جلل والمنعطفات زلقة والقوم لا سراة لهم والنجوم هوت..\"واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة\".
انتفاضة بعد سكون..
لن يتردد داعية صادق مثلك - نحسبك ولا نزكيك على الله - حرّق قلبه ما الناس عليه اليوم من أن يرفع أكف الضراعة إلى الله يستمطر رحمته ويستلهم هدايته، يردد في جوف الليل\"اللهم اهد قومي وأت بهم\"، يؤرقه حرصٌ عليهم ويعزّ عليه ما هم فيه من سهوٍ, ولهو، لا يدركون معه خطر أعدائهم ولا وهن حصونهم. و اعلم أنه لن يأتي إليك قومك يوماً ما لم ترأف زوجك بحالك فتناجيك:\"لعلك باخعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين\".
فانفض عن سيف همتك غباراً علاه واكسر من غفلةٍ, غمداً حواه وأسرج في طريق الخير خيلك وتوكل على الله\"إنك على الحق المبين\"، واعلم أنَّ\"مَن لمح فجر الأجر، هان عليه ظلام التكليف\"كما قرر ابن الجوزي، فاجعل ثواباً أعدّه الله للدعاة بين عينيك وحال أمتك وقوداً يفجّر مكنوناتك واستنفر الطاقات واشحذ الهمم وتذكّر سيداً حين صاح في محفل الدعاة أنَّ\"مَن عاش لنفسه عاش صغيراً ومات صغيراً، ومَن عاش لغيره عاش كبيراً ومات كبيراً\"، ثم انطلق بين الناس مبشراً ونذيراً\"وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً\"، وتأكد.. أنَّ الماء يأسن إذا ركد..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد