همومنا الاستدراكية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذه هي الهموم الشخصية وآلام العيش اليومي الصعب نكتمها ونصبر على اللأواء، أما هموم الأمة ومواساة جمهور المسلمين في نكباتهم فإن حملها هو صنعة الدعاة الرئيسية، وقد اختارنا الله - تعالى - لذلك بحكمته، وكتب علينا الألم، وبه يتمثل الخُلُق الأول من سلسة أخلاق دعوية أخرى نتحلى بها لتجميل أنفسنا وصقلها وتزيينها وإكسابها الهوية الخاصة المميزة لها عن هويات غيرنا اللا أباليين، أولي الآذان الصُمّ عن سماع الغَصَص الإفريقي، والعويل البورمي، والأنين القوقازي.

فذلك هو الذي أتاح لعلي بن الفتح - رحمه الله - في الزمن القديم أن يبتكر ابتكاره، ويخترع مهنته، لما خرج يوم عيد الأضحى فرأى الناس يُضحّون بضحاياهم، وهو فقير لا دينار له، ورأس ماله: علو الهمة، فانتحى جانباً وقال: «يا رب: وأنا تقربتُ إليك... بأحزاني»(1).

هكذا هو قدَرنا.... نحن الدعاة.

الأحزان قرباننا... والآلام نشيدنا.

ندير تجارتنا عبر مصرف يتقبل ودائع اللذعات...

انتباهة... فانتفاضة... فتأمل... فدراسة... فمشاركة..

فمعايشة... ونكون لكل منكوب: الظهير المنجد، والناصر المغيث.

وهذا هو الحزن الإيجابي الذي لا يعرفه كثير من الناس، واستقصينا نحن فنونه، فما نزال بعد نعيش في رحاب لذائذه.

إجابة المظلوم.. وتلقين الساذج... وإيقاظ الراقد.... ورفد المجاهد... ومصافحة الناهض... وعمارة المحاريب... وستر النجائب... كل ذلك مهنة المُقدَّمين رجال النفيضة ولأصحاب الطنابير ما وراء الساقة.

بل حتى المؤمن إن لم يكن داعية مغترفاً من خيرات مناهج الدعوة وطرائقها التربوية فإن نجدته للمسلمين تكون غير موزونة، إنما يُسيّرها الإعلام العالمي، ويتحكم بها الوعي الناقص والفهم المنحاز.

وانظر مثالاً يشهد على ذلك: مأساة حلبجة الكردية حين وقعت أثناء الحرب العراقية الإيرانية ومات فيها أكثر من خمسة آلاف نفس من المدنيين الأبرياء بالغازات السامة في لحظات قلائل مرة واحدة.

كان هناك صاع من الخطأ الكردي، لكنه رُدَّ بمائة صاع من العقاب، لكن الدعايات العالمية والإقليمية حاولت طمس الحادثة، فلم يستجب لنداء الإغاثة أكثر المؤمنين، فضلاً عن الفساق، وكانوا سلبيين حين نفر الدعاة يطلبون الإغاثة، ومررت بنفسي على عدد من تجار بلد خليجي، فكانت أياديهم قصيرة، لتخذيل رضعوه، وكلام زُور غشّهم، واختلاط موازين اكتنفهم، وبقي بعض من نجا بملابسهم الملوثة بالغازات السامة ثلاثة أشهر يعانون ولا يستطيعون تغييرها، لبرودة الطقس وانعدام البديل، وفي هؤلاء من هو داعية أو ابن داعية أو بنت داعية، لأن حلبجة معقل من معاقل الدعاة في الأرض.

امض بنا نَصفِق..لنجدّد كبرياء الإيمان

مثل هذا يبدو أنه وقع في الزمن الأول أيضاً، فأوصى الأساتذة أن يكون في سلسلة الأخلاق: خُلُق التكبر على الأغنياء!!

بل صرفوا معنى التواضع إلى هذا التكبر، أنه هو بعينه.

روى أبو بكر الدينوري في كتابه المجالسة أنه «سُئل سفيان الثوري فقيل له: ما التواضع؟ قال التكبر على الأغنياء ».

ونحن الدعاة أهل مؤاخاة لكل مسلم بحمد الله، الغني منهم والفقير، ولن نتكبر على أحد حسداً أو كراهة، ولكن لغة سفيان لغة دعوية خاصة، ومعناها: أن نريهم العفاف، والنفس الغنية، ونشعرهم بأننا لا نطمع بما في أيديهم، بل نرنو إلى الآخرة.

ويبدو أن سفيان قد صدمه بطران فاضطره إلى هذه اللغة الغليظة، تماماً كالذي يجري معنا اليوم حين نزور أهل المال نستعطفهم، ونخبرهم بوكالتنا عن المسلمين، فنلمس تثاقلاً، لكن سفيان نطق، تسعفه مكانته، ونخرس نحن.

غير أن أكبر التكبّر الواعي المحمود: هو التكبر الإيجابي، كما كانت أحزاننا إيجابية، وصورة ذلك أن ننزل إلى الأسواق، نبيع ونشتري، لنجمع المال، لنكون أغنياء، لنبذل هنا وهناك.

إن الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه التربية الدعوية أنها علّمت الدعاة انتظار شعبان ورمضان، ليجمعوا أوساخ الناس، ليُنجدوا الأمصار المنكوبة.

وبئس هذا النمط...!

بل في الاستقلال الرفعة، وفي التجارة الحل أو أن يشاء الله اختصار طريقنا، فيقذف في قلب غني واسع الثراء مثل المعاني التي نجد، فيتكبر على ماله، ويجاهده جهاداً، فيستل سيفه الفيصل المبارك، فيضرب به أمواله ضربة موفقة، فيشطرها شطرين، ويضع شطر الله في أيادي دعاة الله الوعاة، يعينهم على تنفيذ الخطط، ليس لمساجد ومياتم فقط.

أو قد خلق الله هذا....؟

أم نحن في أضغاث أحلام...!

وربنا المستعان على ما تستعجل به الأقلام.

حُوصِرنا.. لنفرَّ إلى السوق

هي كذلك غضبة الحيران المحاصَر.

أما قواعد الإيمان فتدعونا إلى أن نتأول خيراً، وأن نوقن أن منع الله كله عطاء...! بحكمة يراها، إلى أوان أرّخه الملائكة.

وهذا النوع من اليقين بعطاء المنع: خُلُق آخر واجب في سلسلة أخلاق الدعاة.

وكأني أعيش الماضي، وأرى الثوري يُصعِّد الزفرات، بعدما أفتى بفتواه، وهو فارغ الكف، وطلاب العلوم من حوله ينتظرون...!

وبينا هو كذلك إذ جاءه أشعث أغبر من بطن الصحراء، قد قذفت مناظر الرمال والجِمال والجبال والجَمال في نفسه معاني التوحيد، وألهبت الشمس الساطعة في قلبه حرارة اليقين، فاستوى عنده يومه اليابس وأمسه الأخضر، فساقه الله نحو الكوفة يُعلّم الثوري الإيمان.

قال أبو بكر الدينوري: قال أبو حبيب البدوي للثوري: واعوجاج الموازين هو أصل البلاء، ولذلك كان غرس الموازين الصحيحة الشرعية هو أساس الإصلاح.

حين يغيب الحامي... ينشط الحرامي.

وإذا تراجع أبناء بيوتات الشرف: قادَ النكرةُ الأصيلَ، واستبدّ الخلّط بالصافي، وذلك هو الانحراف، وهي القصة المكررة.

للحياة زمام، فأي الأيادي تكون أسرع له؟

وهناك وسخٌ دنيوي، يجب أن يُغسل بالنور الإيماني.

وإنها اليوم معركة التحدي الإسلامي الكبير للعلمانية والهيمنة الأمريكية، وسيكون لكل حرف ينطق به ناطق شأن عظيم عند الله وشأن في التاريخ، ولكل صوتٍ, في الانتخاب أو درهم في التمويل أو قدَم في صف الصلاة أو لوحة رمزية تُعلّق أو كتاب في فقه الدعوة يُوزّع شؤون كلها في الموازين الدنيوية والأخروية عظيمة، فاحرص على سهمك في الصفقة الرابحة، وإن لم تكن لحمل الثقيل مؤهّلاً فكثر المسلمين بسوادك وأنفاسك على الأقل، كما كان أمر الصحابي المؤذِن رضي الله عنه.

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: «رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجرّ أطرافها، وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عُذرك؟ قال بلى، ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي »(2).

والقصة كررها الشاعر الصرصري الأعمى مدّاح النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان يوم دخول هولاكو بغداد يُقاتل وحده، يضرب بسيفه يميناً وشمالاً، وهو أعمى لا يرى، عساه يصيب كافراً، ومات شهيداً في ذاك الموقف، مُقبلاً غير مدبر، يضرب الأمثال.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply