بسم الله الرحمن الرحيم
كثير من الخطباء والدعاة، ومقدمي البرامج والحفلات، والمحاضرين في المحافل العامة والخاصة - يعمدون إلى إعداد خطبهم وكلماتهم، ودروسهم، ومحاضراتهم إعدادًا جيدًا، فينظمون أفكارها، ويرتبون فقراتها، خاصة إذا كان الموضوع لا يحتمل قولاً على البداهة، أو كان المتحدث بين قوم يتسقطون هفواته، ويتتبعون سقطاته.
وربما حضر الخطيب فرأى في وجوه السامعين وحالهم ما يحمله على اتجاه آخر، فإن لم تسعفه بديهة حاضرة، وخاطر سريع، ومران على الارتجال طويل، ضاع هو وما يدعو إليه، والتقاه الناس بالمكاء والتصدية، والصفير، والسخرية، والاستهزاء في كل مكان.
وقد يخطب الخطيب فيعترض عليه بعض الناس في خطبته، فإن لم تكن له بديهة حاضرة ترد الاعتراض، وتقرعه بالحجة القوية، ذهبت الخطبة وآثارها.
يُروى أن أبا جعفر المنصور كان يخطب مرة، فقال: اتقوا الله، فقال رجل: أذكرك من ذكرتنا به، فقال أبو جعفر: سمعًا سمعًا لمن فهم عن الله، وذكّر به، وأعوذ بالله أن أذكِّر به وأنساه، فتأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذًا، وما أنا من المهتدين، وما أنت؟ والتفت إلى الرجل، فقال: والله، ما الله أردت بها، ولكن ليُقال قام فقال، فعوقب، وأهون بها لو كانت العقوبة، وأنا أنذركم أيها الناس أختها، فإن الموعظة علينا نزلت، وفينا نبتت، ثم رجع إلى موضعه من الخطبة(1).
مؤهلات الارتجال:
عرّف بعض العلماء الارتجال بأنه «الكلام الذي يُنزع معناه من النفس حال إلقائه، ويصدر عن انفعال نفسي يستدعى تأثيرًا في نفس السامع، وسرعة إلى ملك عواطفه ومشاعره»(2).
من هذا التعريف يتضح أن الارتجال يرتبط بأمور هي:
أولاً - المقام الذي يقومه الداعية.
ثانيًا - الانفعال النفسي والتوقد العاطفي.
ثالثًا - القدرة العقلية.
رابعًا - القدرة البيانية.
أولاً: مقام الداعية:
ويُقصد به الظرف أو الحديث المستدعى لهذا الأمر، فهو ربما كان حدثًا سعيدًا: إشهار عقد، عقيقة، حفلة تكريم..إلخ، وربما كان حدثًا حزينًا: جنازة، أو كارثة حلّت بقوم، أو غير ذلك.
فإن لم يكن الداعية متأملاً أحوال الناس، وأعمالهم، وتصرفاتهم، ما شهدها وما غاب عنها، ما سمعه، أو تنامى إليه منها - فسيظل هناك حاجز بينه وبين الجماهير.
وحتى يجد الداعية قبولاً لدى الناس، وتأثيرًا في حياتهم، فلابد أن يركز على واقع الحياة.. لماذا؟ لأن واقع الحياة اليومية «هو تاريخ الإنسان الحاضر، وهو مستودع أخطائها وصوابها، فإذا أخذ الداعية مادة حديثة من صميم ما يجى في هذه الحياة، وتحدّث عن صوابه وخطئه، وصوّر كلاً في صورته الطبيعية الدارجة، وعالجه بروحه الرباني، ووزنه بميزانه الإلهي، فقد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة.
وسيجد أن كلامه قد غمر الأسواق، وسيطر على الأندية، ودخل البيوت، واستقر مع القراء في المخادعº لأن الحياة توّلت حمله إلى كل ذلك»(3).
ثانيًا: الانفعال النفسي والتوقد العاطفي:
إن الداعية قد تعتريه ضربات قلبية متسارعة، ونبرات صوتية متلجلجة، ورعشة جسدية طارئة، إذا هو لم يكن ثابت القلب، راسخ النفس، وربما طال به ذلك فاستشعر الخوف الدائم الذي يحمله على عدم العودة إلى الارتجال في بقية حياته.
وظاهرة الضعف النفسي لها أسبابها التي قد يكون بعضها مستقرًا زمنًا ليس بالقصير، وبعضها طارئ مفاجئ، ومن هذه الأسباب كما رصدها بعض العلماء(4):
1 - تردد الخطيب.
2 - تعرضه لبعض المفاجآت التي يضخِّم له الوهم أنواعها.
3 - خشيته من العجز عن مجابهة بعض المفاجآت، وعن عدم تحمله لمرارة الهزيمة.
4 - خوفه من ألا يظفر بارتياح المستمعين لما يلقى عليهم.
5 - إحساسه بهذه الأسباب أو غيرها في صورة أمر مهم، لا يدرك له حقيقة.
ويرى أن العلاج من ذلك يكون ب:
1 - إقصاء الهواجس المثبطة وطردها عن النفس.
2 - أن يُذكر نفسه بمواقف الإقدام والثبات، وما حققته من نتائج ونجاحات ليبعث فيها الثقة والاطمئنان.
3 - يذكر نفسه أن عقلاء المستمعين سيلتمسون له الأعذار، فهم يدركون أن أصعب الأمور مباديها.
يحكى الدكتور محمود محمد عمارة تجربته الشخصية فيقول:
«في مستهل حياتنا كنت أنا وزميلي د. محمد الأحمدي أبو النور نجمع أعواد الحطب، وبقايا الأثاث القديم في البيت أو الحقل، ثم نتخيل ذلك أناسًا يجلسون بين أيادينا، وينصتون إلينا، ويتقدم أحدنا ليقوم فيهم خطيبًا، فإذا انتهى من خطبته، أخذ الثاني مكانه في جدٍ, واهتمام.
ويواصل فيقول: لم نكن نعد موضوعًا، بل لم يكن هناك كلام يحسن السكوت عليه، وإنما هي محاولة نقول فيها كلامًا نصبّه فوق رؤوس جمهور لا وجود له إلا في خيالنا، والمهم أن ننطلق، وليس مهمًا أن يكون لكلامنا معنى، ولم نشأ أن نبدأ المحاولة بين أهلينا في المسجد مثلاً، فرارًا من سخريات قد تطفئ شعلة الحماس فينا، وآثرنا أن نتعلم الكلام بعيدًا عنهم، حتى إذا تمرست النفوس بالتجربة واتتها قدرة على التعبير تقوى مع الأيام(5).
ثالثًا القدرة العقلية:
ونعنى بالقدرة العقلية أن تكون لدى الداعية حركة ذهنية سريعة بين كافة مراكز الاهتمام(6).
ومراكز الاهتمام متعددة في كل خطاب، ولابد أن يظفر منها بحظٍ, من عناية الخطيب، إذ إنها تستوجب سلامة أفكار الموضوع، وتنسيقها، وعرضها في صورة مشرقة، وبسط الأدلة عند الاقتضاء، مع جودة التعبير ورشاقته، ومراعاة عناصر التأثير، وكل ذلك يقتضى أن يكون الداعية ذا قوة عقلية سليمة، ولو لم تبلغ حد العبقرية أو ندرة النبوغ.
والضعف العقلي أو عدم القدرة على التفكير السليم والعميق يرجع سببها إلى:
1 - انغماس النفس في حزن على شيء فائت.
2 - استغراقها في كآبة قاتمة لتوقع أمر مكروه.
3 - أحاطتها بقلق شديد ناشئ عن بعض المضايقات.
4 - تواصل السهر والسهاد.
5 - الآلام الجسدية(7).
ولابد للداعية أن يتخلص من كل ذلك حتى يستطيع أن يواجه الناس، وذلك عن طريق:
1 - تعميق الإيمان بالله - تعالى - وبكتابه الكريم.
2 - مراجعة للنفس وغاياتها وأهدافها.
3 - الثقة في أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
4 - إن لنفسك عليك حقًا، ولعينيك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه.
5 - توسيع دائرة الثقافة، فلا تكون ثقافة دينية دعوية وحسب، وإنما لابد من الاطلاع على الثقافات العصرية والأحداث المتلاحقة، والمذاهب والتيارات الموجودة على الساحة.
رابعًا: القدرة البيانية:
فإن كانت الفكرة عميقة، تناسب واقع الناس وحياتهم، فلابد لها - حينئذ - من الشكل الذي تخرج فيه، فإن خرجت متلجلجة متعثرة لم تؤد غرضها، وإن خرجت قوية مستقيمة، أدت الذي عليها.
وصناعة البيان ألصق صناعة ولدت مع الإنسان يقول - تعالى -: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علَّمه البيان}(9).
ولا يكفى إظهار المقصود بأي لفظ كان، وإنما لابد أن يكون ذلك بأتم لفظ وأبلغ تعبير، يقول الجاحظ في تعريف الفصاحة: «الإعراب عما في النفس، وتوضيح ما يريده المتكلم، وحسن نقله إلى مستمعيه حتى يفهموا عنه كل ما يريد، ثم يتأثرون بما فهموه، ثم يطيعونه فيما أمر، وينتهون عما نهى»(10).
والمقدرة اللغوية هي زينة الحديث، وبصمته الأخيرة، فبها يستطيع الداعية أن يعرض ما يشاء من صفات الأشياء والأحداث في القالب الذي يريد، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن من البيان لسحرا»(11).
وسبب هذا الحديث أن عمرو بن الأهتم والزبرقان بن بدر وفدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل الرسول عَمرًا عن الزبرقان فقال في وصفه: مانع لحوزته (الحوزة مجال النفوذ) مطاع في أذينه (أذين الرجل قومه الذين يقوم عليهم زعيمًا)، فقال الزبرقان: يا رسول الله: إنه ليعلم منى أكثر مما قال: ولكنه حسدني يا رسول الله في شرفي، فقصّر بي، فقال عمرو: أما لئن قال ما قال، فوالله ما علمته إلا ضيّق الصدر، زمر المروءة، لئيم الخال، حديث الغنى.
فلما رأى أنه خالف قوله الآخر قوله الأول، ورأى الإنكار في عين رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله: رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الآخرة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: «إن من البيان لسحرا»(12).
فالقدرة البيانية تستدعى معرفة واسعة باللغة، يجوّد بها الداعية ألفاظه، ويضبط بها حروفه، يتعلم أين يقف، ومتى يواصل، متى يعلى نبرته، ومتى يخفضها.
إننا كثيرًا ما نستمع إلى خطباء لا ينقصهم حسن إعداد، ولا رباطة جأش، بقدر ما ينقصهم سلامة التعبير، ودقة المعنى، واستقامة اللفظ، إن صاحبه - فيما أرى - أشبه بمن طهّر جسده، ولكنه ترك ثوبه متسخًا، والذي يراه الناس ويحسونه إنما الظاهر منه.
كيف تدرب نفسك على الارتجال؟
1 - ابدأ من الصِّفر، والعود أخضر، والعادات لم تتكون، والنفس لم تجمد على نحو خاص من أنحاء القول يخالفها.
2 - أكثر من سماع الخطباء المرتجلين، فالسماع يحفز من استعدادك الشخصى، والفكر يتغذى بالتقليد والمحاكاة.
3 - اغش الجماعات، وحلق العلم، وابدأ في الكلام لتنفك عقدة لسانك، وتزيل حبة الحياء.
4 - حاول ألا تخطب من ورق، فإن ذلك يقوى فطرتك، ويركز انتباهك.
5 - استصحب رفيقًا لك يدلك على عيوبك، أو سجل أحاديثك وقف على أخطائك.
6 - راقب نفسك باستمرار، وقس مدى التقدم الذي تحرزه.
7 - لا تتقيد بعبارات خاصة، حتى لا تثير سخرية الناس إذا نسيت، أو تمكن الخصوم من التشهير بك.
8 - احترم جمهورك، ولا تقل إن أكثرهم من العوام، فالواجب عليك أن تنقلهم من درجة أدنى إلى أخرى أعلى من الثقافة والإدراك.
والخلاصة: أن الارتجال أمر مهم للداعية، فلا ينبغي أن يرتقى موضعًا، أو منبرًا، فيبدأ بالاعتذار إلى جمهوره أنه لم يكن مهيأً أو مستعدًا، وكأنما يعتذر عن خطأ يظن - هو - أنه واقع فيه، ولكنه إذا كان يحسن هذا الأمر ويتقنه، فيسخوض غمار الأحداث، ولجج الحياة واثقًا من رصيده الثقافي الذي يزيده يومًا بعد يوم.
إن الداعية هنا يرفع صفة «الجاهزية» لأي طارئ أو ظرف مفاجئ، وهو مع هذا كله لا يهمل واقعه أو البيئة المحيطة من حوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1) الخطابة - أصولها - تاريخها في أزهى عصورها عند العرب - للإمام محمد أبو زهرة ط دار الفكر العربي ص115 - 116.
فانظر - حفظك الله - إلى قدرة المنصور على الارتجال في هذا الموقف الذي يعترض عليه فيه أحد رعيته، فظل محتفظًا بهدوئه وسمته، ولم يخرجه ذلك عن طور الأدب الواجب في هذا المقام.
(2) خصائص الخطبة والخطيب - نذير محمد مكتبي، ط دار البشائر الإسلامية ص169 بتصرف يسير.
(3) تذكرة الدعاة.
(4) كيف تكون خطيبًا عبد الرحمن خليف، عن سلسلة دعوة الحق - رابطة العالم الإسلامي - العدد 57 - 1406هـ - 1986م. ص38 بتصرف.
(5) الخطابة في موكب الدعوة، د. محمود محمد عمارة، عن سلسلة رسالة الإمام التي تصدرها وزارة الأوقاف المصرية، العدد 15 - 1407هـ - 1986م.
(6) كيف تكون خطيبًا - مرجع سابق ص39.
(7) السابق - بتصرف.
(8) البيان والتبيين للجاحظ 3 - 2620 عن الخطابة في موكب الدعوة.
(9) الرحمن 1:4.
(10) البيان والتبيين ج1 ص257.
(11) رواه أحمد عن ابن عباس.
(12) البيان والتبيين ج1 ص70 - 333.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد