بسم الله الرحمن الرحيم
(إن في خلق السموات والأرض لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار).
وبعد:
فهذا مقال قد مدّت فيه الطبيعة يدها لتكمم أفواهنا وتأمرنا بالصمت بعد أن ملت ثرثرتنا..
و آن لنا معاشر الدعاة أن نرهف آذاننا للطبيعة التي خلقها الله ونعطيها دورها في الوعظ بعد أن كلت مواعظ البشر منا.
ومهما أوتي الوعّاظ من ملكات الوعظ والتربية فهم أبداً لن يضارعوا زهرة ترف تعظ المتن وتعلمهم فن الابتسام..
أو قطرة ماء تترقرق من ورقة تسقط على عين نائم توقظه وتعلمه فقه الحركة..
أو نملة تدب تحمل أضعاف وزنها تؤسس علم التحمل والكد..
أو نجمة تسطع تشرح مهارة السمو والارتفاع..
أو طيراً يغدو صباحاً ينتصب قدوة في التوكل..
أو صبحاً يتنفس يجسد الديمومة وكره اليأس..
أو ليلاً يغسق يصور الهدوء والإخبات...
أو مطراً يهطل يعيد الأمل.. ويجعل من الله الحياة في الأشياء...
*****
(وجعلنا من الماء كل شيءٍ, حي)
لو وفقك الله يوماً لأن تزور حقلاً يزرع أو بستاناً تُغرس الأشجار فيه...
ولو راقبت الفلاح كيف هو يزرع..وكيف يحفر..
وكيف يبذر.. وكيف يسقي..
بل حتى كيف يمسك المعول..
ولو صبرت لحين انفلاق الحبة.. وانشطار النواة.. وخروج الخلق الآخر..
ولو لاحظت تبدل لون النبات بين درجات اللون الأخضر إذ هو ينمو.. وتبدل ينعته إذ هو يربو.. واشتداد ساعده إذ هو يطول..
ثم استدعيت انتباهك.. وحدقت النظر.. وأرجعت البصر.. وسبرت الغور.. واستثرت العقل.. وسمحت للفكر بالتساؤل..
لكان ذلك لك درساً نادراً من دروس الطبيعة.. تحضره في قاعة من قاعاتها المفتوحة.. ومن حقك عليها أن تمنحك الفائدة.. ولكن ليس من حقك عليها أن تستفيد..
لا يضرها أنك قد تبتسم و تقول سبحان الله ثم تعود دون وعي جديد وفهم حديد..
قد أدت ما عليها.. وألقت عليك درسها.. ثم قال الله (أفلا تتفكرون)..
فابتسمت..
درس في حقل:
إن شأن النبات في الحقول والبساتين أن ينمو بين بعضه وتزيد نضارته عندما يكون بين نباتات أخرى، ويتشابك تشابكاً يصعب تفكيكه،ويتسلق على سيقان بعضه،وتتعانق أوراقه وبراعمه، وتتطاول أغصانه،وإن هبت نسمة هواء تمايلت الأشجار كلها، وتعجب كيف هزت نسمةٌ أشجارَ الغابة لكنه التعاون والمشاركة، بل الأمر فوق ذلك عندما تتظافر النباتات في رسم صورة للحقل أو البستان آسرة، تتناغم فيها الألوان وتتدرج،وتنتظم الأغصان بطول متقارب وصفوف مرصوصة، بل حتى الأوراق لا تكون متباينة الأحجام، حتى إن مرهف الإحساس قد يتمادى فيظن أن الأشجار تتعاون لتهيأ جواً مريحاً للبلابل كي تبدع التغريد فتطربها.
والأمر في الأخوة شبيه ويكاد يقارب التمامº فالأخ المسلم يستمد طاقته من إخوانه، وتزداد فعاليته حينما يكون بينهم أو عندما يشعر أنهم يشعرون به، وتتشابك الأخوة وتتعاضد حتى يصعب الافتراق بل يصعب تخيله وإن بعد الموت، ألم يبدع القائل:
كتبت العهد على جدران الزمن *** فإن التقينا عشنا معاً
وإن متنا *** تقاسمنا الكفن
فهذا الذي كتب العهد على جدار الزمن لم يقو على تخيل الفراق في الحياة أو بعدهاº لأن الأخوة التي عناها توجب التداخل النفسي والشعوري للإخوان بحيث يحققان شرط الرافعي يوم قال: \"لن يكون أحد أخا أحد حتى يقول له يا أنا\".
لكن منهج الرافعي في تغييره منهج أدبي يفتقر إلى العملية التي هي مظنة الإنجازات وما سطره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من واجبات وحقوق إنما كانت دستوراً تطبيقياً ينشأ العلاقة بين الإخوة ويثبتها و يطورها.
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \"حق المسلم على المسلم ست قالوا وما هن يا رسول الله قال إذا لقيته سلم عليه وإذا دعاك فأجبه وإذا استنصحك فانصح له وإذا عطس فحمد الله فشمته وإذا مرض فعده وإذا مات فاصحبه\".
هذا حديث صحيح رواه الإمام أحمد بن حنبل..
وهو نهر يشق حدائق الأخوة الجافة لتهتز وتربو من جديد..
وهو حث لأشجار الأخوة أن تتنادى إلى نوع من التعاون فريد..
وهو تقليم لبعض الأغصان الشاذة الناتئة الخارجة عن الصف..
وهو عناية فائقة بثمار للأخوة ولدت من بين الأشواك لتحطم ديمومة قول من قال إنك لا تجني من الشوك العنب..
وهي لمسة قائد يعرف كيف وأين يضع يده بل ومتى..
ولأننا أخذنا أنفسنا بالجد.. و تعلمنا فن الكد..لم نعد نكتفي بهز الرأس يمينا وشمالاً لنظهر التأثر ثم ننكفأ..بل تعاهدنا على الغوص والغوص.. هناك حيث تختبئ الدرر..
حق المسلم على المسلم:
فهو حق لك على أخيك.. فليس له أن يمنعك إياه.. تماماً كممتلكاتك الخاصة.. حرام عليه أن يمنعك إياها.. وهو حق له عليك أيضاً.. سوغه إسلامك عليه كما سوغ حق الآخرين عليك إسلامهم.. هذا حقك أيها المسلم قم وانتزعه ليس بالقوة ولكن بإعطائك الآخرين حقوقهم التي عليك..
إذا لقيته سلم عليه:
واللقاء هو التقابل والمواجهة بالبصر أو بالسمع أو بالكتابة، فحين تلتقي العينان يكون بينهما سيل من الشحنات الشعورية التي تتسلل إلى مداخل الأرواح وخصوصياتها فإلقاؤك السلام على أخيك هو بمثابة إعطائه إذناً ببث مشاعره إلى دخيلة نفسك فكأنك تفتح له أبواب قلبك وتقول له تعال وادخل،وهذه تضحية تحسب لك يوم أشركت غيرك في خصوصيتك، غير أنك لن تخسر أبداً فيوم بذلت هذه التضحية كنت أقرب إلى الله يوم سبقت بإلقاء السلام وهذا المعنى يفهمه الطفل فضلا عن الراشد من صريح حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الترمذي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال :\"قيل يا رسول الله الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام فقال أولاهما بالله\"قال أبو عيسى هذا حديث حسن وقد روى هذا الحديث أحمد وأبو داود أيضا.
ويوم يحدوك الفضول والهمة وتسحب تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي من رف مكتبة شيخك وتبحث عن معنى\"أولاهما بالله\"تراه يقول: أي أقرب المتلاقيين إلى رحمة الله من بدأ بالسلام.فليكن سباقك إلى رحمة الله بأن تلقي السلام أولاً ; لتصل قبل أخيك إلى رحمة الله وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ثم أنت لن تخسر مرة أخرى يوم تربح أخاك وتضعه في قلبك، بل ربحك فاحش يوم تحرك لسانك فقط فتربح أخاً، يسندك يوم تبحث عن سند،ويسعدك يوم تبحث عن مسعد،ويشاركك أفراحك،بل ويكون سبباً في نعيمك الأبدي يوم تدخل الجنة، إنه ترغيب جميل، لكن أصله ترهيب خطير، يوم امتنعت الجنة أن تدخل في جوفها غير مؤمن، فجعلت رسول الله يحلف لها بالله كما جاء في إحدى الروايات، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:\" لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم\"فهي سلسلة مبدؤها السلام ومنتهاها الجنة، سلام فحب فإيمان فجنة للمؤمنين وحدهم..فويح لك ثم ويح لك ألا زلت تبخل بالسلام.
محترفو السلام:
إنك عندما تلقي على أخيك السلام، إنما تحرث أرض قلبه، وتهيئها لبذر بذور الأخوة بينك وبينه، لكن تقليب الأرض له فن وأسلوب، والبذر يتقنه الفلاحون فقط، لذا يحسن زرعهم، ويعجبهم نباته.. وإلقاء السلام فن أيضاً، فليس كل من سلم سلم، وإنما هو بث الأشواق والحب في قالب كلمات السلام، ومن هنا نعي قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عمران بن حصين قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال السلام عليكم فرد - عليه السلام - ثم جلس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال عشرون ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلاثون حدثنا إسحق بن سويد الرملي حدثنا ابن أبي مريم قال أظن أني سمعت نافع بن يزيد قال أخبرني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه زاد ثم أتى آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته فقال أربعون قال هكذا تكون الفضائل.
ونحن نزجر دعاة الإسلام وملتزميه حين يغشون المجالس عبوساً متن،مهما كان سبب عبوسهم، وقد رأينا أولئك كيف لا يحتفى من قبل الجالسين، و تراهم يتساءلون فيما بينهم عن سر ذلك الفتور في الاحتفاء، ألق سلامك بصوت واضح ومسموع، وبابتسامة منفرجة، ثم سل الآخرين أن يبشوا لك.
هواية السلام:
وسلام المحترفين، ورد السلام، من سمات أهل الود والمحبة، وبهم تنتعش غابات وبساتين الأخوة من جديد وإلا تصحرت وقحلت..
وهو وسيلة سلمية لدخول الجنة كما روى الدارمي من حديث عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة استشرفه الناس فقالوا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فخرجت فيمن خرج فلما رأيت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فكان أول ما سمعته يقول يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد