التطبيقات الدعوية والتربوية للقواعد الفقهية


بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

هناك اتجاه أصيل في الكتابة الدعوية مفاده ربط المباحث الدعوية والتربوية بالقواعد الفقهية والأصولية، وهو اتجاه أملته الحاجة إلى التأصيل الشرعي لكثير من قضايا الدعوة، خاصة بعد ظهور اجتهادات غريبة عن الحس الإسلامي في بعض أوساط الدعاة، فالاستنارة بهذه القواعد يسهم في ضبط الاجتهادات الدعوية،كما أن هذه القواعد توفر مادة خصبة للدعاة ليفيدوا منها في الاستدلال والتقعيد والتنظير.

إن كتابة المباحث الدعوية في ظل هذه القواعد الفقهية أو الأصولية يسهم في ربط الاجتهادات الدعوية برباط شرعي متين منضبط، ويعطي للدعاة مرجعية موثوق بها خاصة أن القواعد الفقهية الكبرى تحظى باتفاق الغالبية من الفقهاء، كما أنها تبين عوار التصرفات الشاذة، التي تمارس في غفلة من الوعي، وغلبة الهوى أو الجهل.

وهذا الاتجاه في الكتابة – على حسب علمي – حديث نسبيا، وإن لم يغفل بالكلية، وأنا هنا أشير إلى كتابات المعاصرين، أما السلف فإن حديثهم عن المباحث الدعوية يأتي ضمن فنون متعددة، ولعل الحاجة إلى إفراد المباحث الدعوية في تصانيف مستقلة – كما هو الحال الآن - قد أملاه التوسع في التخصصات.

ومن الكتابات التي رأيتها في هذا المجال ما كتبه الدكتور محمد أبو الفتح البيانوني في كتابه القيم (القواعد الشرعية ودورها في ترشيد العمل الإسلامي) ضمن سلسلة (كتاب الأمة) وكذلك ما كتبه الدكتور محمد القباطي ضمن كتابه (فقه الكسب/ نشر: دار الأندلس الخضراء) حيث ألمح إلى بعض التطبيقات الدعوية، وما كتبه ناصر درويش في كتابه (قواعد فقهية لترشيد الصحوة الإسلامية).

وما أرجو أن تضيفه هذه الدراسة هو: ملامسة الواقع الدعوي كتطبيق حي لهذه القواعد، وإن لم تخل الدراسات السابقة من هذا الأمر، فلهم فضل التقدم والسبق. 

فلو قبل مبكــــاها بكيت صبابة                     بسعدي شفيت النفس قبل التقدم

ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا                   بكـــاها فقلت الفضل للمـتقدم*

 

وقبل الكلام عن هذه التطبيقات أشير إلى نقطتين:

الأولى: أن الدعوة إلى الله قربة وعبادة (1) وهي ممارسة تنطلق من مشكاة الشريعة، فلا بد من مراجعة الخطوات ليعلم هل ممارساتنا الدعوية منطلقة من قواعد الشريعة، أم أننا وجدنا من قبلنا على سنن فنحن نتبعهم، وما دامت الدعوة عبادة فيجب أن تكون على مقتضى ما يرضاه الشارع الحكيم. 

الثانية: أن هذه التطبيقات اجتهادية، خاضعة للمراجعة والتمحيص والإضافة والحذف، وتخضع كذلك لمعرفة البيئة الدعوية وما يعتريها من ممارسات، وما يكون فيها من قضايا تحتاج إلى اجتهاد في تلمس الحكم الشرعي من خلال هذه القواعد، التي هي بمثابة المنارات الهادية في الطريق اللاحب.

معنى القاعدة: هي حكم أو أمر كلي أو قضية كلية تفهم منها أحكام الجزئيات التي تندرج تحت موضوعها وتنطبق عليها(الوجيز في القواعد الفقهية الكلية، للبورنو ص16). 

القاعدة الأولى: الأمور بمقاصدها:

ومن أدلة هذه القاعدة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) أخرجه الستة.وهذا الحديث مهم حيث ذكر بعضهم أنه يدخل في سبعين بابا من أبواب العلم، وبعضهم قال هو ثلث العلم (الأشباه والنظائر، للسيوطي ص8،9) 

ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة:

1- الدعوة إلى الله عمل يتقرب به إلى الله فلا بد له من نية، فحضور الفعاليات الدعوية والمشاركة فيها، ودعوة الغير إليها، والحرص على ذلك كل ذلك مداره على النية والقصد. 

2- الباعث على الانضمام لركب الدعاة ما هو: شهرة أم مكاسب مادية، أم قضاء وقت الفراغ وطرد الملل والسأم، أم الاستزادة من الثقافة والمعرفة. أم هو القيام بالواجب الشرعي. ولكل نية حسابها، والنية الحسنة درجات بحسب أثرها، ونفعها لصاحبها، وللمجتمع. 

3- العناية بأصحاب المواهب والقدرات المتميزة ما دافعه؟ أهو عاطفة شخصية؟أم هو عراك أقران؟ أم هو كحرص أبي حنيفة على أبي يوسف حين ظل ينفق عليه عشر سنين حتى شدا في العلم، وأصبح من أعظم قضاة الأرض وفقهائها.

4- قد يسئ لك الشخص وأنت الداعية إلى الله أو المربي وهو غير قاصد للإساءة، ولم يظن أنها تبلغ ما بلغت، فحكمه يختلف عن حكم من تقصد الإساءة، وكان يعلم بمآلات الأمور، فاعتبار القصد هنا لازم. وإن كان الأصل أن الداعية إلى الله يجعل الكلام الذي لا يعطل مسيرته دبر أذنيه، ولا يشغل نفسه بتتبع مقولة فلان وفلان. ومن ألطف ما قيل في ذلك قول الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي: 

وحي ذوي الأضغان تسب قلوبهم                 تحـية ذي الحسنى فقد يرقع النقل

فإن دحسوا بالشـر فاعــف تكرما                  وإن كتموا عنك الحـــديث فلا تسل

فـإن الذي يؤذيك منــه سمــــاعه                    وإن الذي قالوا وراءك لم يقـل**

5- مما يجب الانتباه إليه الشهوة الخفية لدى الداعي بإظهار علمه وتنقص غيره بالجهل، وهذا مسلك دقيق يجب التحرز منه وتعهد النفس دائما حتى تجتنبه. وقد نبه الغزالي – رحمه الله – إلى ذلك حيث قال:

"إن العالم – عند الدعوة – قد يرى عز نفسه بالعلم وذل غيره بالجهل، فربما يقصد الإدلال وإظهار التميز بشرف العلم وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل "(الإحياء ج2ص358) ثم قال "هذه مذلة عظيمة وغائلة هائلة وغرور للشيطان يتدلى بحبله كل إنسان إلا من عرفه الله عيوب نفسه وفتح بصيرته بنور هدايته، فإن للاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة" (الإحياء ج2ص358) ثم بين الغزالي - رحمة الله- المعيار الذي يعرف به هذا الأمر فقال "وله محك ومعيار ينبغي أن يمتحن المحتسب به نفسه، وهو أن يكون امتناع ذلك الإنسان عن المنكر بنفسه أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه، فإن كانت الحسبة شاقة عليه ثقيلة على نفسه، وهو يود أن يكفى بغيره فليحتسب، فإن باعثه هو الدين"(الإحياء ج2ص358).

وهو على خير، وإن كان لا يحب ذلك لغيره من أهل العلم والدعوة فما هو إلا متبع هوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة دعوته، فليتق الله - تعالى - فيه، وليدع نفسه أولا. (أنظر: إحياء علوم الدين ج2ص358).

وقد عقب الشيخ صالح بن حميد على قول صاحب الإحياء "أن يكون امتناع ذلك الإنسان عن المنكر بنفسه أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه" فقال: "هذا عندي محل نظر، وبخاصة مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فوا الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" (متفق عليه من حديث سهل بن سعد) فالتنافس في هذا تنافس في الخير، ومع قوله - تعالى -: "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا" (سورة فصلت، الآية 33) ويتلمس الإخلاص وصلاح النية في غير المنافسة الشرعية" (معالم في منهج الدعوة ص 28، 29). 

6- عقد الإمام النووي –رحمه الله – في كتابه (الأذكار) بابا بعنوان "الغيبة بالقلب" وفيه قال "اعلم أن سوء الظن حرام مثل القول فكما يحرم أن تحدّث غيرك بمساوئ إنسان، يحرم أن تحدّث نفسك بذلك وتسيء الظن به "(الأذكار، ص464) (2) وقد ذكر الإمام الغزالي في إحيائه كلاما قريبا من هذا(3) وإذا وقع في قلبك ظن السوء فهو من وسوسة الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق، وقد قال - تعالى - (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) (الحجرات، آية 7) فلا يجوز تصديق إبليس، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد واحتمال خلافه، فتنفر منه، وتستثقله وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيئته فإن الشيطان قد يقرب إلى القلب بأدنى خيال مساوئ الناس، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبهك، وإن المؤمن ينظر بنور الله، وإنما هو على التحقيق ناطق بغرور الشيطان وظلمته.... ومهما خطر لك سوء في مسلم فزد في مراعاته وإكرامه  فإن ذلك يغيض الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقي إليك مثله خيفة اشتغالك بالدعاء له(4).

وهذا معنى لطيف أتمنى أن يفطن إليه الدعاة والمربون، وأن يغرسوه في نفوسهم، وفي نفوس أبنائهم، بدلا من طغيان نفسية الكراهية التي تجتاح بعض النفوس وتشعل حرائق البغضاء في أرجائها. 

7- النصيحة إحسان متمحض للمنصوح يصدر عن شفقة ورحمة، ويجب أن يكون مراد الناصح بها وجه الله - عز وجل- ولا يكاد يفرق بين النصيحة والتعيير إلا النية والباعث والحرص على الستر، وشتان بين من قصده النصيحة ومن قصده الفضيحة، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى (انظر: معالم في منهج الدعوة ص44، 45).

 

القاعدة الثانية: اليقين لا يزول بالشك:

وهذه قاعدة مهمة تدخل في جميع أبواب الفقه والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه أو تزيد(5) ومن أدلة هذه القاعدة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"(6).

قال الإمام النووي -رحمه الله-: " وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها"(7). 

ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة:

1. وجوب إشاعة منهجية التثبت عند الحكم على الأشخاص أو الهيئات أو المؤسسات عموما، ومما يؤسف له أن هذه المنهجية تتوارى عند التطبيق لدى بعض فئات الدعاة خاصة عندما تكثر الإشاعات، ويعز المصدر الموثوق به، لكن المسلم له منهجية تميزه عن غيره، فهو لا يتمضمض بأعراض البرآء، ولا ينقل من الأخبار إلا ما تيقن منه.

2. المسلم يأوي إلى جبل من اليقين بأن الأصل في المسلم البراءة، والسلامة، والعدالة، وحسبك أن الله لم يكلفك – أخي المسلم – أن تنقب عن صدور الخلق فتعلم أن فلانا قال كذا أو فعل كذا، فكل نفس بما كسبت رهينة، لكنك تكون في أعظم الحرج إن نجح الشيطان بأن يجعلك مطية لقول الزور، وخاصة حينما يكون القائل في مكانة مرموقة من محبيه وسامعيه. 

يقولون أقــــــوالا ولا يعلمونها                       ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا 

ومن الأسف أن كثيرا من الأخبار التي تلاك في أوساط أهل الخير هي في القائمة الضبابية بين اليقين والشك، ومما يزهد الكثير من الناس في التثبت رغبته في السبق بنشر الخبر، أو التمدح بسعة العلم، والإحاطة بالأمور، وسعة العلاقات التي تتيح أن يطلع على ما لم يطلع عليه غيره. 

3. الانسياق وراء الظنون والشكوك له آثار مدمرة على العمل الإسلامي ومنها توهين الصف المسلم، بنشر الإشاعات، وأحيانا تكون هذه الإشاعات موجهة إلى رموز الخير ممن لهم في النفوس مكانة وتقدير، فتحدث البلبلة، والشقاق، وعندها يرقص الشيطان فرحا على أشلاء وحدتنا.

ومن الآثار كذلك إضعاف الثقة في أهل الدعوة وأهل الإصلاح والتوجيه. 

يا رجــــــال العلم يا ملح البلد                      ما يصلح الملح إذا الملح فسد

 

ومما أذكره كتطبيق لما سبق أنه في ذات يوم قرأت في احد المنتديات في الانترنت أن أحد الأماكن العامة التي يحضرها النساء قد حصل فيه منكر عظيم يجب المسارعة إلى إنكاره، وصاحب الخبر يهيب بالجميع التصدي لهذا المنكر فسألت إحدى قريباتي –ممن أعرف حرصها على إنكار المنكر- عن ذلك فأفادت بعدم صحة الخبر جملة وتفصيلا خاصة وأن مثل هذا الأمر لو حصل لعلم به الجميع ممن حضر.

ومن آثار الانسياق وراء الشكوك أن الباب يبقى مفتوحا لأعداء الدين ممن يسعدهم اشتغال أهل الحق ببعضهم البعض فيبقون في مأمن من تماسكهم ووحدتهم، فيضعون الأحابيل ويروجون الإشاعات التي مهر فيها الأعداء من لدن ابن سبأ وحتى اليوم: 

لا أنــــت قلت ولا سمــــعت أنا                     هذا كــــــلام لا يليـــــــق بنــــا

إن الكــــرام إذا صحبتهمــــــوا                       ستروا القبيح وأظهروا الحسنا 

اعتماد منهجية الحقائق الموثقة بالدلائل والإحصائيات والأرقام عند اتخاذ أي قرار أو تصرف، بعيدا عن الانفعالات العاطفية، وردود الأفعال التي لا تعني حل المشكلة بمقدار ما تعني الانفعال بالمشكلة وأثرها على النفس. وبعض الحلول التربوية للمشكلات – أو ما يتوهم حلا- تكرس المشكلة وتزيدها تفاقما

 

القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير:

وهذه القاعدة أصل في بناء الشريعة على اليسر دون العسر، وأن العسر إذا وجد، فإن له تيسيرا في الشريعة، بشرط أن يتحقق فيه معنى العسر دون توهم.

ومن أدلة هذه القاعدة قوله - تعالى -: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (8) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) (9) وقالت عائشة -رضي الله عنها-: (ما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما ) (10) 

ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة:

1. اليسر والبشارة أصل في أمور الدعوة، وهذا يقتضي البعد عن التكلف والتنطع والإعنات، وتحميل الناس ما يشق عليهم أو ينفرهم مما ليسوا ملزمين به شرعا. وهذا يقتضي مراجعة الأساليب الدعوية، فإن بعضها فيه نوع إثقال يمكن التخفف منه، وربما أورث نتيجة عكسية، وأضرب مثالا واحدا لاحظته أثناء المشاركة في بعض البرامج التربوية للمدارس. فمن المعلوم أن القدرة الاستيعابية للشخص عند إلقاء المحاضرات تقل مع طول وقت المحاضرة، وتكاد أن تصل للتلاشي إذا زاد وقت المحاضرة عن الساعة خاصة لدى صغار السن، هذا إذا كان الإلقاء تقليديا لا تجديد فيه، ولا وسائل للإيضاح. وهذا يتطلب المراجعة لهذه الوسائل، بعدا عن المشقة المتوقعة، وطلبا لتجويد العمل. 

2. عندما يجد العالم أو المربي عناصر أقل جودة لتحمل عنه العلم وأبجديات الدعوة، فلا يزهد فيها بحجة عدم وجود العناصر الممتازة من طلاب العلم، فإن حاجة المجتمع ماسة لكل أبناءه، ولو ذهبنا إلى هذا الاشتراط لخلت كثير من الثغور. ولكنه التسديد والمقاربة التي أمرنا بها شرعا. 

3. حين يصطدم الداعية ببعض المعوقات التي لا يخلو منها طريق الدعوة اللاحب - كما قال - تعالى - (ألم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون.ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن.الكاذبين) (العنكبوت، آية1-3) – ويترتب على هذه المعوقات عدم قدرة الداعي على إنجاز الواجب الشرعي المناط به، أو القصور عن بلوغ المدى الذي اختطه لنفسه، فإن واجبه أن يسعى لتذليل الصعاب على قدر الجهد والطاقة، وبعد ذلك فما يعجز عنه هو معذور فيه، وليس أهلا للّوم بعد ذلك. 

4. الداعية والمربي حين يواجه واقعا يحتاج إلى صبر، وتدرج في الإصلاح فهذه الحالة هي من العسر الذي يجلب تيسيرا، بل لابد من التدرج حينئذ، باعتبار أن الدعوة واجبة، ولا يتم القيام بها إلا بهذه الطريقة، والقاعدة الشرعية تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)(11). 

5. الدعوة إلى الله - عز وجل- واجبة على كل قادر، وهي حمل عظيم لا يستطيع النهوض به فرد واحد، فوجود هذا العبء العظيم يقتضي التعاون في أدائه، وتوزيع المهام على كل قادر، وألا نترك أهل الهمم العليا وحدهم في الطريق، بل نتعاون تعاونا تكامليا، دون أن ننظر إلى قلة إسهام البعض بعين الانتقاص، بل نكون كما قال إقبال: 

شـرار الفأس دع من قال عنه                      أمن فأس؟ أمن حجـر يكون؟

 

القاعدة الرابعة: الضرر يزال:

ومفاد هذه القاعدة: أن الضرر في الإسلام ممنوع بكل حال، ولابد من إزالته بالكلية إن أمكن، فإن لم يمكن وتعين ارتكاب أحد الضررين أو الأضرار فيرتكب أهون الضررين لدفع أعظمهما، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، كما أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

ومن أدلة هذه القاعدة ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه سلم- أنه قال " لا ضرر و لا ضرار" (12).

ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة:

1. إلحاق الأذية بالمسلم ممنوع بكل حال ومن ذلك: غيبته، ويحسن هنا التحذير من تلبيسات إبليس في هذا المجال وتزيينه للبعض بأن هذه ليست غيبة وإنما هي من باب النصح للمسلمين، والتحذير من مسلك فلان، ولكن هذا ليس على إطلاقه فهذا مسلك دقيق، وللتحذير من أصحاب البدع والأهواء ضوابط نبه عليها أهل العلم – ليس هذا موضع بسطها - وليست أعراض المسلمين كلاء مباحا يسومه من شاء، فيجب أن يحذر الداعية الهوى الدفين وحظوظ النفس، وقد تقنع الخلق وتموه عليهم، وقد تنطلى تلك الحيل عليهم، ولكن هل راقبت من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟

ومن صور إلحاق الضرر بالمسلم الوشاية به، والإرجاف، وإطلاق الشائعات الكاذبة، والمساهمة في تعطيل مشروعه الدعوي، وانتقاصه والتهوين من شأن عمله في الدعوة إلى الله - عز وجل- بحجة مخالفته لك في الاجتهاد، أو سلوكه طريقا تراها أنت غير مجدية، وقد قال الإمام مالك – رحمه الله- جوابا لمن أنكر عليه قعوده عن الخروج في سبيل الله مجاهدا (أرجو أن يكون كلانا على خير وبر(13) وقبل ذلك كان في الصحابة حسان بن ثابت للشعر وخالد للجهاد، وزيد بن ثابت لجمع القرآن الكريم، وبلال للأذان، ولم ير أحد منهم أن عمل الآخر عبث أو مضيعة للوقت، وإن كانت الأعمال في نفسها تتفاضل.

2. لا يتخذ المسلم من أذية غيره له ذريعة إلى أن يؤذي هذا الغير إلا من باب قوله - تعالى - (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله) (سورة الشورى،الآية 40) وقوله - تعالى - (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) (سورة النحل الآية 126) وهذا هو الأصل بالنسبة للفرد المسلم، لكن بالنسبة لعموم الدعاة وأهل الخير فقد يختلف الأمر فيما إذا كان المعتدي أو المضار قد ثلم عرض مجموع أهل الخير وشوّه سمعتهم بالزور والبهتان والطعن الكاذب، فقد يندب رد عدوانه وإيقافه عند حدّ لا يجاوزه، بل والمطالبة له بالاعتذار أو إكذاب نفسه لأن المصلحة هنا عامة، والتساهل في هذا الأمر يفضي إلى مزيد من التطاول الذي لا يقف عند حد. وعند الرد لابد من مراعاة الضوابط اللازمة من تخصيص هذا الردع بالفاعل دون أسرته وأهله، وأن يكون الردع على قدر فعله، ثم قبول إنابته والكف عنه حينئذ. 

3. التصرفات التي تلحق الضرر بالفرد والمجتمع ممنوعة، ويحكم على هذه التصرفات من خلال الموازنة بين المصالح والمفاسد للعمل الدعوي. وكذلك يجب التركيز على مآلات الأمور وعواقبها دون الاكتفاء بالنظرة الآنية القاصرة.

4. الحاجة إلى إحياء فقه الموازنات، وفقه الأولويات، وهناك كتابات ناضجة، ولله الحمد، من ناحية التأصيل، لكن الناحية التطبيقية في حاجة إلى المزيد.

 

القاعدة الخامسة: العادة محكمة:

والعادة في اللغة: مأخوذة من العود أو المعاودة بمعنى التكرار، ومادة العادة تقتضي تكرار الشيء وعوده تكررا كثيرا يخرج عن كونه وقع بطريق الاتفاق(المنثور في القواعد للزركشي 2/357،358) والعادة هي العرف: "عادة جمهور قوم في قول أو فعل (المدخل الفقهي العام،للزرقا 2/840).

وهذه قاعدة أصيلة تعني أن الأعراف معتبرة شرعا طالما أنها استوفت الشروط الشرعية. ومن أهمها: ألا تخالف -هذه العادة أو العرف- نصا شرعيا، وان يكون هذا العرف مطّردا أو غالبا، وأن يكون العرف موجودا أو قائما عند إنشاء التصرف، وألا يعارضه تصريح بخلافه، وأن يكون هذا العرف ملزما (القواعد الكبرى في الفقه الإسلامي، د. عبد الله العجلان ص94).

ومن الأدلة على اعتبار هذه القاعدة:

ما روته عائشة - رضي الله عنها- قالت: قالت هند أم معاوية للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل على من جناح أن آخذ من ماله سرا؟ قال: خذي أنت وبنوك ما يكفيك بالمعروف) ( أخرجه البخاري في صحيحه برقم(2211) 2/115).

قال الحافظ ابن حجر" فأحالها على العرف فيما ليس فيه تحديد شرعي"(فتح الباري 4/407).

وكذلك ما روي مرفوعا وموقوفا على ابن مسعود - رضي الله عنه- والموقوف أصح (ما رواه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)(مسند أحمد 1/379).

قال ابن القيم في أعلام الموقعين (3/78 ) " وعلى هذا أبدا تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجد العرف فاعتبره، مهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك"(14). 

ومن التطبيقات الدعوية لهذه القاعدة:

ما يوجد لدى الدعاة من المناشط الدعوية التي تحتاج إلى ترتيب واستئذان وضبط للأمور التي لا يستقيم أي عمل إلا بها، فلا تنكر هذه الأعراف، وهي معتبرة، طالما أنها لا تخالف نصا شرعيا أو إجماعا، وطالما كانت مشتملة على مصلحة تعود على الدعوة بالخير، ومما نص عليه الفقهاء "أن المعروف بين التجار كالمشروط بينهم" ( المدخل الفقهي العام 2/1001).

فكذلك الدعاة، فإن ما تعارفوا عليه مما استوفى الشروط السابق ذكرها يعد معتبرا، ومحكما.

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .

-------------------------------------

* (مقدمة مقامات الحريري ص6 والبيتان لعدي بن الرقاع وقيل لغيره)

** (شرح ديوان الحماسة للتبريزي (1/3) والرسول المعلم لعبد الفتاح أبوغدة.، ص 76

1- المقصد بالعبادة هنا: العبادة بمعناها العام، دون التعبد المحض

2- أشار الإمام الغزالي إلى أن المقصود بالمحرم هو عقد القلب وحكمه على غيره بالسوء فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه بل الشك أيضا معفو عنه، ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب، فقد قال الله - تعالى - \" يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم (الحجرات. الآية 12) ( انظر: إحياء علوم الدين، 3/159)

3- إحياء علوم الدين، 3/159)

4- الأذكار، للنووي،ص465،466، وانظر:إحياء علوم الدين،3/159، 160

5- انظر:الأشباه والنظائر، للسيوطي ص 51، والوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية،للدكتور محمد صدقي البورنو،ص169

6- صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب الليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، 1/276

7 - شرح النووي على صحيح مسلم 4/49

8- سورة البقرة الآية 185

9- صحيح البخاري، باب الوضوء، باب صب الماء على البول في المسجد، 1/91

10- صحيح البخاري، كتاب المناقب،باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -،2/518

11- لقواعد الفوائد الأصلية، لابن اللحام، ص130، المكتبة العصرية – بيروت.

12- أخرجه الدار قطني في سننه 3/77، الحاكم في مستدركه 2/57، 58، والبيهقي في السنن الكبرى 6/69، ومن طريق آخر رواه الإمام أحمد في المسند 1/313،5/327، ورواه الإمام مالك في الموطأ (2/745) مرسلا. والحديث قال عنه الإمام النووي: حسن.(الأربعين النووية مع شرحها ص 74) وانظر: إرواء الغليل للألباني 3/408.

13- جاء في سير أعلام النبلاء \" أن عبد الله العمري العابد كتب إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد. فنشر العلم من أفضل البر، وقد رضيت بما فتح لي فيه، ما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر\" (السير 8/114)

14- موضوع هذه القاعدة يعد موضوعا غضا يستجيب لحل كثير من المسائل والحوادث الجديدة، وذلك لأنه يتضمن كثيرا من المسائل التي تتمتع بسعة الشريعة ومرونتها، ومن تأمل هذه القاعدة علم سعة الفقه الإسلامي وقدرته على إيجاد الحلول للنوازل الحوادث المستجدة، مما يؤكد أن هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان (انظر: القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها، د. صالح السدلان ص 326، 327)

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply