الوهن داء الأفراد والأمم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أخبر الله - عز وجل- عن الأتباع الحقيقيين للرسل الذين جاهدوا معهم فأصابوا وأصيبوا، فلم يَفُتَّ في عضدهم ما أصابهم في سبيل الله وما لحقهم وَهَنٌ، ولا ضعف ولا استكانة، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمنين في كل زمان ومكان: (وَكَأَيِّن مِن نَبِيٍّ, قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيٌّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا استَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبٌّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146)

   

  وقد نهانا الله عن الوهن في قتال الأعداء مهما كان الألم الذي أصابنا في جهادهم: (وَلا تَهِنُوا فِي ابتِغَاءِ القَومِ إِن تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُم يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ وَتَرجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104).

   

وقد قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحزَنُوا) [آل عمران:139]: أي لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمد عن جهاد أعدائكم لما أصابكم.

والعجب العجاب أن يتسلل الضعف والوهن إلى أمة وَعَدَها ربَُها بالنصر على الأعداء والتمكين لها في الأرض إن هي عملت بكتاب ربها وسنة نبيها وجاهدت في سبيل الله، وفوق ذلك جعل كيد أعدائها واهنًا بفضله وكرمه: (ذَلِكُم وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيدِ الكَافِرِينَ) [الأنفال:18].

 إن الوهن داء عضالٌ، إذا تمكن من الأفراد أو الأمم كان الذل والخزي من نصيبهم، وكانوا عرضة لسطوة أعدائهم وتسلطهم عليهم، بحيث يعيشون في هذه الحياة وكأنهم غير موجودين، بل يعيشون مسلوبي الإرادة، مهزومي النفوس، مشلولي الفكر. ولو نظرت في قصص الماضين لوجدت مصداق ذلك، فما استذلت أمة إلا بهذا.

 انظر إلى فرعون الذي تصرف بكبر وتجبر حتى قال: (أَنَا رَبٌّكُمُ الأَعلَى) [النازعـات:24]. وقال: (مَا أُرِيكُم إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهدِيكُم إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: من الآية29). إنه ما كان ليفعل ذلك لو لم يستضعف قومه، فقد كانوا يستأهلون ذلك لخفتهم وضعف إرادتهم: (فَاستَخَفَّ قَومَهُ فَأَطَاعُوهُ) [الزخرف:54].

 إن الإسلام يزرع في قلوب أبنائه الاعتزاز بنعمة الإيمان والاستهانة بالدنيا وحبَّ التضحية في سبيل الله، ولو بالنفس، لكن إذا تبدلت هذه الأخلاق وسيطر الوهن على النفوس زالت الهيبة، وتجرأ على الأمة الأراذل كما هو حاصل الآن: \"يُوشِكُ الأُمَمُ أن تُدَاعِيَ عَليكُم كَمَا تُدَاعِيَ الأكَلَةُ إلَى قَصعَتِهَا، فقالَ قَائِلٌ: وَمِن قِلّةٍ, نَحنُ يَومَئِذٍ,؟ قالَ: بَل أنتُم يَومَئِذٍ, كَثُيرٌ، وَلَكِنّكُم غُنَاءُ كَغُنَاءِ السّيلِ، وَلَيَنزِ عَنّ الله مِن صُدُورِ عَدُوكُم المَهَابَةَ مِنكُم، وَلَيَقذِفَنّ الله في قُلُوبِكُم الَوَهنَ، فقالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله وَمَا الوَهنُ؟ قالَ: حُبّ الدّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ\".[صحيح الجامع برقم:8035].

 ومن مظاهر الوهن أن يلغي المرء عقله وأن يساير الناس وإن أخطأوا، وهذا الذي سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الإمعة: \"لا تَكُونُوا إِمّعةً تَقُولُونَ إِن أَحسَنَ النّاسُ أَحسَنّا، وإِن ظَلَمُوا ظَلَمنَا، وَلَكِن وَطّنُوا أَنفُسَكُم، إِن أَحسَنَ النّاسُ أَن تُحسِنُوا، وإِن أساءوا فَلاَ تَظلمُوا\".[الترمذي، وقال: حسن غريب].

إن الأسلاف - رضي الله عنهم - ما كانوا يعرفون الهزيمة بالمعنى يعرفه الكثيرون اليوم، فإنها اليوم تعني الانكسار، أما الأسلاف فإنهم وإن أصيبوا في موقعة استرجعوا وأخذوا الأهبة لغيرها: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعمَةٍ, مِنَ اللَّهِ وَفَضلٍ, لَم يَمسَسهُم سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضلٍ, عَظِيمٍ,) [آل عمران:173، 174].

أما عند تمكن الوهن من النفوس فإنها تستخزي ويستأسد عليها الأعداءº فعند هجوم التتار على بلاد المسلمين واستباحة البلاد والأعراض كان الوهن هو المسيطر على النفوس، حتى إن الفقهاء والعلماء لما ساروا في الناس يحثونهم على الجهاد ويرغبونهم في استنقاذ البلاد، ما قدَّم الناس أكثر من العويل والبكاء، حتى قال في ذلك أبو المظفر الأبيوردي:

   مزجنا دمانا بالدموع السَّوَاجِم                  فلم يبق منا عُـرضَةٌ للمَـرَاحِم

  

   وشَرٌ سلاح المرء دمعٌ يُريقُه                      إذا الحرب شَبَّت نارُها بالصَّوارِمِ

  

   فإيهًا بني الإسلام إنَّ وراءكم                    وقـائع يُلحقن الذٌّرى بالمناسِـم

  

   وكيف تنام العين مِلءَ جُفُونِها                   على هَفـَواتٍ, أيقظت كُلَّ نَائـِم

  

   وإخوانكم بالشام يُضحي مَقيلُهُم              ظهور المذاكي أو بطون القَشَاعِم

  

   تسومهم الروم الهوانَ وأنتُمُ                      تَجُرٌّون ذَيلَ الخفض فِعلَ المُسَالِمِ

   وفيها يقول:

  

   وبين اختلاس الطَّعنِ والضَّربِ وقفَة             تظلٌّ لها الولدانُ شِيبَ القوادِمِ

  

   وتلك حروب من يغب عن غِمارها               فيسلم ويقرع بعدها سِنَّ نادِمِ

  

   سَلَلنَ بأيدي المشركين قواضبًا                ستُغمد منهم في الكُلَى والجماجِمِ

  

   يكـاد لهـنَّ المستـجير بطيبةٍ,                     ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشِمِ

  

   أرى أمتي لا يَشرعون إلى العِدا                رمَاحَهُمُ والدِّينُ واهي الدَّعَائِمِ

  

   ويجتنبون النار خوفًا من الرَّدى                  ولا يحسبون العار ضربة لازم

  

   أيرضى صناديد الأعاريب بالأذى                 ويُغضي على ذُلٍّ, كماةُ الأعاجِمِ

  

   فليتهموا إذ لم يذودوا حَمِيَةً                      عن الدِّين ضَنٌّوا غَيرةً بالمحارِمِ

  

   وإن زهدوا في الأجرإن حَمِيَ الوغى           فهلاَّ أتوه رغبةً في المغانِمِ

  

   نسأل الله الكريم بمنه أن يحفظ أمتنا من كل مكروه وسوء وأن يعافيها من الوهن.

  

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply