بسم الله الرحمن الرحيم
الكثير من مشاريعنا الخيرية والدعوية تتوقف حدودها الفعلية والتخطيطية عند مرحلة التنفيذ، وتحقيق الهدف المباشر.. وننسى ما بعد تحقيق الهدف من آثار، وتراكمات وقتية قد تعود عند التخطيط لها، بأضعاف الثمار الأولى بإذن الله. القليل جداً من يرصد تجاربه ويدوّن خبراته لينفع الآخرين بها فيختصر عليهم كثيراً من الوقت والتكلفة، أو ليستفيد هو ذاته في أعماله المستقبلية. النادر من يوثّق أعماله بشكل منظم ليدعم مسيرته المستقبلية. رسم المناهج العلمية ومتابعة القضايا التربوية لتأسيس طاقات مستقبلية يكاد يكون منعدماً مقارنة بالتخطيط لهدف الاستقطاب إلى الخير ودعوة الناس إلى الاستقامة.
إنني أحسب أن من كبرى مشكلاتنا ضعف التخطيط ابتداءً لما بعد تحقيق الهدف المباشر، وتنفيذ المطلوب الأول، ولآخر أن يقول: اكتفاؤنا بالأهداف المباشرة، ولكني أريد أن أعبر بما يقودنا إلى الحل بإذن الله..
وهنا ربما يحسن التعريج على أن البعض قد لا يتبنى الفكرة ابتداءً.. لذلك أرى أن نوضح الأمر، ونبسطه من خلال مثال مادي واضح على النحو التالي:
هبوا أنه عُرِض على أحد المستثمرين مشروعان تكلفة كل منهما عشرة ملايين.. يُسترد رأس المال في المشروع الأول خلال ثلاث سنوات، وفي الثاني خلال خمس سنوات.. وستكون نسبة الربح السنوية في المشروع الأول 5% لمدة خمس سنوات.. وفي المشروع الثاني 8% لمدة 10 سنوات. إن بعض المستثمرين يختارون المشروع الأول الذي سيعيد إليهم رأس المال سريعاً قبل أن يفكروا في فرق ما بعد المشروع على المدى البعيد وآثاره الربحية ضعفاً عند التخطيط.. وهو الأمر الذي يميز مستثمراً حصيفاً عن آخر.
والدعاة وسائر العاملين في المجال الخيري بحاجة ماسة إلى الخروج من دائرة العمل الذي ينحصر التفكير فقط، في إقامته (لأنه خير كبير) ويكتفي بتنفيذه بأفضل شكل، وربما بأسرع وقت، ثم يتم إهمال النظر والتخطيط في الأعمال التي لها نتائج متراكمة لتأتي بطبيعتها وفق ما نؤمل.. وهنا أرى أهمية الإشارة إلى بعض الملاحظ والنماذج:
1 - النتائج قد تأتي دائماً في الأعمال القائمة فعلاً طيبة مثمرة مقبولة.. وربما كان ذلك بإخلاص العاملين.. أفلا ننظر حينئذ إلى زيادة الثمرة وتعظيم البركة عند الاهتمام بالتخطيط المبكر لها لتحقيق نتائج أكبر بإذن الله.. إن الجهة التي تفكر في تخريج خمسة طلاب علم أو حُفَّاظ سنوياً يمكنها أن تستثمرهم فتخطوا خطوة للأمام، وتقوم بتخريج 25 طالباً في العام التالي.
2 - هناك آثار عكسية ونتائج سلبية تنشأ أحياناً بعد انتهاء مشروع بدأ ناجحاً.. والسبب هو عدم عناية أصحابه بالتنسيق المبكر لما بعده.. انظر إلى المدعوين الذين لم تتم متابعتهم، والحُفَّاظ الذين لم نؤكد على برامج المراجعة الخاصة بهم، ومكتبة التسجيلات الإسلامية التي لم تهتم بمتابعة الجديد والمعاصر لمستجدات الواقع، وهذا مثال مرير إلى حد كبير: افتتح بعض الدعاة منشطاً مسرحياً لتقديم الخير للناس بأساليب متجددة في وسط مثقف لمدة عامين ثم تركوهº لأنه ليس لديهم وقت وطاقة كافية لاستمرار الإشراف عليه.. فكان الطريق ممهداً أمام بعض أهل الفسق ليشرفوا على ذلك المنشط، ومن ثم يبرزون فيه وينشرون ما لا يرضاه الله - عز وجل -.
3 - دراسة ما بعد تحقيق الأهداف والتخطيط لها يضمن لنا بإذن الله المسير ضمن برنامج منهجي متكامل.. فلا يناقض ما نفعله اليوم ما فعلناه قبل عامين، ولن يناقض ما سنقوم به بإذن الله مستقبلاً.. ولن يهدم كيان أو تبتر ثمرة أو يعاد البناء من جديدº لأن فلاناً ذهب وفلان جاء.. مثال: الهدف إقامة حلقة تحفيظ قرآن في بلد ما، بعد عام من إقامة الحلقة يرتجل المشرف برامج ومناشط وفق ما يرى، ثم يأتي مشرف آخر فتختلف الترتيبات والأولويات، ويبدأ الطلاب من جديدº لأن مَن خطَّط لإنشاء الحلقة لم يخطط لما بعد تحقيق الهدف.. وقد يأتي من يوسع في دائرة العمل ويبعده عن الثغرة الأصلية التي أسس لسدها.
4 - كتابة الخطط والأهداف المرحلية والمستقبلية يغيِّب كثيراً من ترتيباتنا.. مع أنه ـ بإذن الله ـ كفيل بتحقيق التزام أكبر من قِبَل جميع العاملين.. كما أنه ـ بإذن الله ـ يساعد في التوثيق المستقبلي مما يسهل عدة أمور:
أولها: المرجع الذي يسهل العودة إليه عند الرغبة في إعادة العمل مستقبلاً، مما يوفر الوقت والجهد، ويحقق استثمارها في التطوير والارتفاع بدلاً من إعادة البناء من الأساس.
ثانيها: السير على وتيرة واحدة واضحة الأبعاد والمعالمº فلا نجد الاختلافات الجوهرية بين أهداف ونشاطات الأمس واليوم.
وثالثها: إمكانية وسهولة المتابعة والتقويم والمراجعة.
إننا نرى أن هناك العديد من المراكز الصيفية، أو حلقات تحفيظ القرآن، أو المخيمات والرحلات الدعوية التي يبدأ الإعداد لها من الصفر تقريباً في كل عام بسبب عدم توثيق واستغلال ما مضى من جهود.. إنك ترى المشروعات الكبيرة التي تسد ثغرات كبيرة بإذن الله مثل مشاريع تزويج الشباب ودعوة الجاليات وتوفير المعونات للمحتاجين، تستغرق الكثير من الوقت قبل أن تحقق الاستفادة من خطوات السابقين.. مع أننا بالذات في هذا العصر ـ والحمد لله ـ نجد الكثير من الوسائل التي تسهل نقل الخبرات والتوثيق والتجارب مثل مواقع الإنترنت.. لو قامت إحدى الجهات، أو أحد المواقع الإسلامية الشهيرة باستضافة جميع هذه الخبرات والتجارب، فلربما ينفع الله بذلك كثيراً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد