بسم الله الرحمن الرحيم
إن من أعظم المهام التي يحملها الإنسان ، ويسعى في سبيلها مهمة الدعوة إلى الله تعالى ، فإن منزلتها في دين الله تعالى منزلة عظيمة ، ومرتبة رفيعة وذلك لشرف المدعو إليه ،( ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ) .
وكان قائد الدعاة ، وسيد المعلمين صلى الله عليه وسلم ، مضرب المثل في ذلك ، فقد كان نبياً ورسولاً ومعلماً للبشرية ، قال الله تعالى ( إنا أر سناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ) .
ومكانة الداعي إلى الله تعالى مكانة عظيمة ، حري به أن يفتخر بها وأن يجعلها وسام شرف على جبينه ، لكنه مع ذلك يجب عليه أن يتق الله فيها ، ويراقبه في كل ما يعمله و يقوله ، فلا يتكلم إلا بعلم ، ولا يعمل إلا لما فيه خير للإسلام والمسلمين ، بعيداً عن الأغراض النفسية ، أو الدعوات الشخصية.
وإن من الظن الحسن بمن سلك هذا الطريق ، واتصف بصفات أهله الداعين إليه أن يكون كذلك ، و لا بد له أن يكون كذلك إذا أراد ما عند الله والدار الآخرة .
وإن من كمال النصيحة أن أبين لا خواني أمراً مهماً ، يحتاجه كل داع إلى الله تعالى ، قد يكون من الواجبات والمتحتمات علينا ، وهو التبين لخطر أهل الزيغ والفساد ، ممن يدعون إلى الشر والفتنة بين المسلمين ، فقد عظم شرهم ، وتطاير شررهم ، فتراهم بين الآونة والأخرى يخرجون لنا بأنواع من الشر وأصناف من الهلاك ، من تزيينهم الباطل ، ودعوتهم لأبواب جهنم ، وصدهم عن ذكر الله ، بل ومحاربتهم لأولياء الله بجميع ما يملكون من أقلام مقروءة وإذاعات مسموعة وقنوات مشاهدة .
ومن أساليبهم الحديثة في الآونة الأخيرة استدراجهم الدعاة إلى الله تعالى بالظهور خلف شاشات القنوات والفضائيات ، يتكلمون معهم على جزئية في قضية ما ، دون السماح لهم بأن يزيدوا أو يتكلموا فيما لم يؤمروا به ، مع أن الظاهر في بعض اللقاءات أن الداعية يوافقهم على ما يقولون ، أو يظن به مالا ينبغي من حطام الدنيا الفاني .
والداعية بفعله هذا يساعدهم في باطلهم ويعينهم على الشر ، والله تعالى يقول ( ولا تعاونوا على الإثم و العدوان ) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير قوله تعالى ( وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) ( وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة ، وبين ترك ذلك لم يجب عليه الحكم بينهم ، وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن هذا الباب من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق ، بل غرضه من يوافقه على هواه ، كائناً من كان) مجموع الفتاوى ( 28 / 198 )
ومما نقل في ذلك أن الحجاج من يوسف دعا أنس بن مالك رضي الله عنه وسأله عن أعظم عقوبة عاقب بها النبي صلى الله عليه وسلم ، فحدث أنس بن مالك رضي الله عنه الحجاج بحديث العرنيين الذين قطع النبي صلى الله عليه وسلم ، أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ، فقال الحجاج فأين هؤلاء من الذين يعيبون علينا ،و النبي صلى الله عليه وسلم قد عاقب بهذا ، فبلغ الحسن البصري ذلك فتمنى أن أنسا لم يحدثه بهذا الحديث وقال :يعمد أنس إلى شيطان فيحدثه بهذا .حلية الأولياء ( 6 / 131 )
فانظر – رعاك الله – إلى معاتبة الحسن رحمه الله لما صنع أنس رضي الله عنه ، مع أنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه بسبب الظن من استغلال البعض للحديث منع من ذلك ، فمن كمال النصيحة للأمة وإرادة الخير لها إلا يحدث أمثال الحجاج ممن لا يقيم للشريعة وزناً ولا للدين اعتبارا إلا ما وافق هواه بمثل هذه الأحاديث التي تخدمه ويوظفها في باطله .
فيجب على الداعي إلى الله تعالى أن يتنبه لما يحاك له ، ويتفطن لما حوله ، وليكن شعاره قول عمر رضي الله عنه ( لست بالخب و لا الخب يخدعني ) .
أو ما قال الشافعي رحمه الله : ( كن فطناً متغافلاً ) .
وإن من المحزن والمؤسف _أيها الأخوة الكرام _أن نرى داعية إلى الله تعالى ممن أشير إليهم بالعلم والفقه في الدين ، يسير مهم من حيث لا يدري ، ويجيب على أسئلتهم المسمومة بما يريدون وبما تهواه أنفسهم ، وحاله معهم كمن في رقبته حبل يوجه يمنة ويسره ، وكان الأحرى به أن يتصرف معهم بحسب المطلوب من الداعية الحكيم الذي يضع الأمور في نصابها ، ويقيسها بمقياس الشرع ، ولا تنطلي عليه خدعهم وألاعيبهم .
ومن الأمثلة على ذلك من الحوادث التي مرت وكثر حولها الجدل والقيل و القال ما يسمى بحادث برجي التجارة العالمي ، أو حرب العراق ، أو حادث فيلكا في الكويت ، أو تفجيرات الرياض أو العمليات الفدائية أو غيرها مما له علاقة بالدين أو اتهم بسببه الإسلام .
فقد عقدت لها الندوات واللقاءات ، ودعي لها الأساتذة والمفكرين ، والمشايخ والدعاة ، لإلقاء الضوء عليها واعطاء الحلول والعلاج لها ، لكن في بعض هذه اللقاءات ميل وإجحاف وعدم العدل في الطرح والعرض ، فتجدهم يتكلمون على جزئية في قضية ما ويتركون الكليات التي هي أعظم بكثير من هذه الجزئية ، فمثلاً حرب العراق سمعناهم يتكلمون على خطر رئيس العراق وحزبه و أنه فعل وفعل _ وإن كان هذا حقاً _ لكن العجب أن ترى إعراضا وتجاهلاً للخطر الأكبر الذي هو أعظم من خطر حزب البعث و أعوانه .
ومثلاً العمليات الفدائية وحكمها في الشرع ، فيدور الكلام في ذلك ويكثر الأخذ والرد مع التجاهل والتغاضي عن سبب هذه العمليات وسر وجودها الذي هو العدو اليهودي ، الذي خطره و فعله بالمسلمين أعظم بكثير من عمليات يموت في سبيل تحقيقها صاحبها .
فإن قيل كيف يتكلم أو يتصرف الإنسان الذي يدعى لمثل هذه المؤتمرات أو اللقاءات ؟ هل يتركها ويقاطعها ؟ أم يحضر ويشارك ؟
فيقال إما أن يمتنع ، أو يشترط عليهم أن يترك له الكلام بعدل وإنصاف ، مع العلم بأن يكون الكلام والتعليق على القضية التي يريدون لا يزيد على سببها أو الخطر الذي هو أكبر منها ، بمعنى أن يتكلم مرة على هذه القضية ويتكلم عشرين مرة على الخطر الذي أوجدها .
ولنا في كتاب الله تعالى أسوة حسنة ، فانه لما قتَل بعض المسلمين ابن الحضرمي في أول رجب الذي هو من الأشهر الحرم وهم لا يدرون أنه أول رجب ، قام المشركين ،وجعلوا يعيبون على المسلمين عدم احترامهم للشهر الحرام ، فأنزل الله تعالى آيات فيها منهج واضح لنا في مثل هذه القضايا فقال سبحانه (يَسأَلونَكَ عَنِ الشَّهرِ الحَرَامِ قِتَالٍ, فِيهِ قُل قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدُّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفرٌ بِهِ وَالمَسجِدِ الحَرَامِ وَإِخرَاجُ أَهلِهِ مِنهُ أَكبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالفِتنَةُ أَكبَرُ مِنَ القَتلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم حَتَّى يَرُدٌّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا وَمَن يَرتَدِد مِنكُم عَن دِينِهِ فَيَمُت وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَت أَعمَالُهُم فِي الدٌّنيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)
فقد بين الله سبحانه أن القتال في الشهر الحرام محرم وكبير ، وأن ما فعله المسلمون خطأً ، لكن الصد عن سبيل الله ، و الكفر وإيذاء المسلمين بإخراجهم عن بلادهم أكبر من ذلك بكثير .
فلنا قدوة بهذا التوجيه الرباني الكريم ، نتأسى به في كل ما يعرض لنا في مثل هذه القضايا والحوادث ، ولا يكن أحدنا مضغة سائغة لأهل الزيغ والفساد الذين يدأبون ليلا ونهارا في خدمته باطلهم والقضاء على دين الله تعالى وشريعته الغراء ، وليربأ الداعي بالعلم وميراث الأنبياء عن أمثال هؤلاء الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة ، قال الفضيل بن عياض رحمه الله : ( لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وأعزوا هذا العلم ، وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله إذا لخضعت لهم رقاب الجبابرة ، وانقاد لهم الناس) .
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ** ولو عظموه في النفوس لعظمـا
ولكن أذلــوه جهاراً ودنسـوا ** محياه بالأطماع حتـى تجهمـا
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد