بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم، بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
أخي الحبيب المستشار/ فتحي عبد الستار، حفظك الله..
عجبت منك، فأنت بقية من هؤلاء الكرام الذين يأبون أن يفارقوا ذاكرتي بحسن فعالهم ومكارم أخلاقهم، فبعد أن أفسحت لي مكانًا من نفسك، لا زلت تدعو الناس أن يفتحوا لي محلاً من أنفسهم، ويمنحوني دقائق من أعمارهم، أخاطبهم فيها، وأعلمهم، وأصبر نفسي معهم!!.
بدايةً: إن لي عظيم الشرف أن أكون صديقًا وأخًا لك، فقد سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن خير الناس؟ فقال: أنفعهم للناس، وأحسبك منهم والله حسيبك، وكما عهدتك ناصحاً لمن استنصحك، ولهذا فقد وعيت درسك، ولن أخلط بين طلب العلم وبين إعمار القلب، فأنت مصيب في عظتك، وإني لمصيب في لومي على نفسي.
ودعني اشرح لك، حتى تحمد الله أن عافاك مما ابتلاني به، فشأني في طلب العلم كان غريباً، ولعل القول الذي يصدق فيَّ: (من كان علمه أكبر من عقله قتله علمه) وإنما أحكي ذلك مصحوباً بندمي، ممزوجاً بأسفي على ما فرطت في جنب الله، ومع ذلك الأسى الذي يكتفني، فلا زال رجائي موصولاً بربي سبحانه، ألا يجعل حظي من انشغالي في الماضي بما لا يعود انشغالي به إلا فوات حظي من الآخرة.
لقد بدأت الطلب صغيراً، في بيئة طيبة، واهتمام بالعلم، فنشأت منذ حداثة سني على احترام العلم والعلماء، ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل عُلِّمت أيضاً أن قيمة الإنسان تقدر بقدر علمه وتحصيله، ومن هنا كانت نظرتي للحياة، وكنت آنذاك في الثانية عشرة تقريباً، وشيئاً فشيئاً نسيت الهدف من الطلب، وبقيت في حيز الطلب، ولا ألقي اللوم على أحد هنا - غير أنني أذكر قول الإمام النووي رحمه الله: \"من فضل الله على الشاب إذا نسك أن ييسر الله له شيخًا من أهل السنة\"، ولعله قصد بذلك رجلاً عالماً وحكيماً متبصراً، يصلح الشاب ويعلمه، ولا يكتفي بحشوه بالمعلومات، تاركاً قلبه يذهب به المذاهب.
الحاصل أنني بدأت أتحول من إنسان إلى كتاب، كلما زادت صفحاته ازداد اعتداداً بنفسهº ولم يحرم نفسه من بعض الحجج والأدلة التي تؤيد حماقته، وتزيده تيهاً على تيه، حتى أُشرب قلبه الصغير كبراً شاهقاً كالجبال، ونسيت في غفلتي عن نفسي أن ما أنا فيه ما هو إلا محض فضل من الله، وأن ثناء مشايخي وأساتذتي عليَّ يستوجب الشكر لا العٌجب.
ولا أنكر أنني صادفت أقواماً من الصالحين، حاولوا أن يُقوّموا سلوكي، وأن يحذروني من عاقبة أمري، غير أن نعمة الله كانت سابغة، وخيره بي كان كما سماه في كتابه: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)، وإذا بنفسي تحكم قبضتها عليَّ وتتلاعب بي كيفما شاءت، وساهم في ذلك ما منحه الله لي من قدرة آنذاك على المحاورة وإفحام الخصوم، وإخراج مخالفاتهم من خلال أقوالهم!.
وخذ على ذلك مثالاً، فقد أرغمت أستاذًا عريقًا في كلية الحقوق على إلغاء فصل كامل من كتابه المقرر، بعد أن ناقشته أمام الطلاب لمدة خمس عشرة دقيقة، ولم يجد مفرّا من إلغاء الفصل، حفاظًا على ماء وجهه، بعد أن أقر بوقوعه في تناقضات عدة أثناء قيامة بالنقل من المصادر الأصلية، بغض النظر عن كوني كنت آنذاك مخطئًا أو مصيبًا، فقد أُشرِب قلبي كره الضعفاء، ومقت من يتسورون ليحتلوا أماكن ليست لهم.
ولم يقف الأمر عند ذلك، بل تعداه إلى أنني كنت أحاول الإغراب على أساتذتي، والبحث عن المسائل المعجزة، ولا أملّ من السهر لليالٍ, طوال، وأن أجهد فكري في فهم معضلات فقهية، لأثبت للأستاذ الفلاني أنه لا يستحق ذلك المكان، وأن عليه أن يحترم نفسه وكذلك الآخرون وألا يعتلي مكانًا يستحقه غيره.
وفى خضم هذه المعارك والمساجلات، خسرت أقوامًا، وخسرت نفسي معهم، وتاهت مني هويتي، وكثيرًا ما كنت أضرع إلى الله باكيًا ليريحني مما أنا فيه من شهوة طلب العلم بلا محصلة ولا هدف، إلا زيادة الغرور وتعمق جرح التعالي على الخلق.
لا أنسى عندما علمتني أمي التوحيد الحقيقي، لقد رأتني في يوم من الأيام أذاكر بشدة، فقد كنت أستعد للامتحان في اليوم التالي، وقضيت طوال النهار أذاكر، ولما جن الليل لم أستطع النوم، وإذا بي أقوم من فراشي مرة بعد أخرى، وأشعل الضوء، فقد تذكرت مسألة من الممكن أن أتعرض لها من قريب أو بعيد - فلم أكن أذاكر من كتب أساتذتي، بل أقرأ أمهات الكتب، وأسند ما أكتبه إليها، لا لشيء إلا لأفهم الأستاذ أنني لا أهتم بما كتب، سامحني الله وغفر لي ما أسلفت - وأبدأ في تنزيل الكتب من الأرفف، ويقوم أهل البيت على صوت إزعاجي لهم، فجاءت أمي، وأمسكت الكتب من يدي، وقادتني إلى الفراش بلا كلام، ثم قالت لي: نم، وجلست بجواري تمسح عليَّ بيديها الحانيتين، وتقرأ المعوذات، ثم سألتني: أي مادة ستمتحن فيها غدًا؟ فقلت لها: العقيدة! فقالت: وكم كتابًا قرأت طوال حياتك إلى الآن في العقيدة؟ فقلت لها: قرأت كل ما وقع عليه بصري وطالته يدي – وببيتنا مكتبة عظيمة ولله الحمد – فنظرت لي نظرة عتاب، ثم أطرقت إلى طرف السرير – فهي دائمًا لا تثبت عينيها في عيني عندما تعاتبني في شيء – وقالت: أما علمتك كتبك هذه على كثرتها معنى التوكل على الله؟! فبكيت وقتهاº لأنها هزت في لمحة واحدة ما كنت أبنيه في سنوات، لقد أظهرت لي هشاشة بنياني واهتراء قواعده، لقد صدمتني من حيث كنت أحسب قوتي!!.
لقد قالت لي بحروف يسيرة: أنت مع سعة إطلاعك لم تتعلم شيئاً، أما هي فإنها تمارس التوحيد وتعلمه لي، على الرغم من أنها لم تقرأ كتاباً واحداً يوماً من الدهر، خلا القرآن الكريم.
ومع هذا فقد ازداد اعتدادي بنفسي، ولا أنسى عندما كنت أسهر الليالي أستخرج الكلمات العسيرة ونادرة الاستعمال، لأضعها في أبحاثي لأساتذتي، لا لشيء إلا لأسخر منهم ومن علمهم، وكم ضحكت على أستاذ فاضل في مادة الأصول، وقد عرضت عليه بحثاً ظل يقرؤه في ثلاثة أسابيع وهو يحاول فك رموزه ومصطلحاته، بعد أن كان يفتخر بكونه يقرأ الأبحاث المقدمة من طلابه لنيل دراجة الماجستير في المواصلات العامة، وأحياناً يتصفحها إذا زاره ضيف ثقيل!!
لم أنسَ يوماً مدرساً لمادة غضب من طلابه، فعمل الامتحان النهائي في مادته من سؤال واحد إجباري، وكان السؤال في مقدمة أحد كتبه الثلاثة المقررة، مع العلم أن هذه الجزئية ما كانت إلا جمله اعتراضية شرحها في الهامش، وهي لا تمت بصله لأحد كتبه الثلاثة من قريب أو من بعيد، ولا لمادته كليةً - ولم أزل أحتفظ بهذه الورقة حتى الآن - وظللت لساعة ونصف انظر لورقة الإجابة، وانفض الناس من حولي، ثم قلت لنفسي: ضع نفسك مكانه، وانظر ماذا تكتب؟ فكتبت ثمانية صفحات، واكتشفت بعد ذلك أنني كتبت ما أراد هو كتابته، ولكن بشكل أرتب وأكمل وأوفق، وكنت الوحيد الناجح في هذه المادة.
أسوق لك ذلك حتى تعلم كم كانت فتنتي، وكم كنت تائهًا كالصبي، بيده سيف يخبط به حيثما استقر، ولابد أن يكون حتفه بيده ولا محالة، في تلك الأثناء بدأت أرفض من داخلي أنني ضللت الطريق، ولم تعد كلمات أمي تؤثر فيَّ، ولم أعد أرى نفسي ذلك المغرور المتكبر الذي يتشبع بما ليس فيه، وبدأت أشعر أنني مستحق لما أنا فيه، وأن الأجر على قدر النَّصَب.
ولا تتعجب أن قلت لك: إنني قلت لنفسي: اليوم أرى إن كنت أنا على هدى أم في ضلال مبين، فحدثت نفسي بأن آتي أمراً فيه شبهة، وعند بعض العلماء حرام، فاستعصى عليَّ الأمر، فقلت: اليوم أعلم إن كنت ممنوعاً لكرامتي على الله أم مهاناً، فدعوت الله أن ييسر لي ما استعصى عليَّ!!
لا تتعجب، ألم أقل لك: إنني كنت كالصبي بيده شفرة حادة، يوشك أن ينحر نفسه، فعلمت أنني مهان، وأنه لا كرامة لمثلي على الله، أن خلع طوق المذلة والخضوع والطاعة، بل واستبدلها بامتحان الله واختباره، وإن الذي يُطمّعني اليوم في رحمة الله وعفوه هو علمه بمدى جهلي وحماقتي وإسرافي على نفسي وتلاعب الشيطان بي.
ولعلمك أخي الكريم، ما توقف الأمر عند ذلك الحد، بل زال من نفسي شعور لا أملك وصفه بل لعلك تحسه - وأسأل الله ألا يغيب عنك ولا عن أحد من المسلمين طرفة عين - ألا وهو إحساسك، وأنت في الصلاة بمدى قرب الله منك.
بعدما حدث ما حدث، كنت أشعر وأنا في الصلاة أنني لا أصلي، بل أمثل أنني أصلي، صلاة ميتة، لا روح فيها ولا شعور، أسأل الله ألا يكتبه على أحد من عباده.
ثم توالت الخسارات تترى، أولها: نفسي، ثانيها: ما كنت أقطع أيامي بحثاً عن جوهره، كأنني اليوم ما قرأت كتاباً، ولا خططت حرفاً، ولا علَّمت شيئاً، ثم كانت أهونها، وهي تلك الدنيا التي جمع الله لي منها ما يكفيني عن سؤال غيره، وكفاني مؤنه العيش، ردني اليوم مثلي مثل كل الناس - أعني في طلب الرزق- أحتاج إلى تدبير معاشي بشق الأنفس، وها أنا اليوم أتجرع ألم البحث والعمل والطلب، بعد أن رفضت نعمة الله، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير.
أنا أخيراً ولله الحمد، لست نادماً على شيء، ندمي على ما كان بيني وبين ربي، فإن رضي الله عني ورحمني وقبلني لديه خادماً مطيعاً، فأسعد الناس أنا، ولا أبالي إن كنت في يوم من الأيام عالماً أو كنت ثانياً ركبتي عند أحد صغار طلبة العلم.
حقّاً أنا لا أبالي الآن إلا بأن يقبلني الله ثانيةً بين عباده، وأعلم علم اليقين أن الله ـ عز وجل ـ حكيم خبير، فوالله لما أنا فيه اليوم من انكسار لله أعظم عندي آلاف المرات من أيام كنت أستطيل فيها بطاعتي لله، لقد علمت مما مضى معنى قوله تعالى: (قل إن الأمر كله لله)، وعلمت معنى قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير).
وأخيراً أخي الكريم، لقد بثثتُ لك أشجاني، وبحتُ لك بمكنون نفسي، ولم أقصد بذلك فضح ما ستره الله أو المجاهرة بمعصية الله، وإنما قصدت أن أبين موطناً من مآتي الشيطان، علَّ إنساناً ينتبه لما غفلت أنا عنه، أو لعل مسلماً ينجو من الشَّرَك الذي سقطتُ فيه.
وإن كان أحدنا قد اكتوى بنار البعد عن رب العالمين، فحريُّ به أن يجعل التحذير منها شكراً لله على سلامة النجاة وصدق الرجوع إليه، وهدفي الأول من ذِكر ما ذكرت، هو ألا تتعجب من كوني سقطت في هذه الهوة السحيقة على الرغم من وضوحها لك، فالمعاين غير السامع، ولا تتعجب، فإن القلب إذا عمي لم ينتفع المبصر بعينه، وإن آدم ما نسي تحريم الشجرة بل نسي أن الشيطان له عدو مبين.
وهدفي الثاني هو: ألا تتعجب من كثرة الهالكين، بل العجب من قلة الناجين.
وأخيراً لا زالت دعواتي لكم بالخير موصولة، وتضرعي إلى الله دائم أن يديم عليكم نعمة الإسلام، وأن يسبل عليكم ستر الطاعة، وأن يلبسكم عز الانقياد، وألا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا.
الرد :
(تعلموا ما شئتم، فوالله لن تُؤجرُوا حتى تعملوا بما علمتم، وكلٌّ علمٍ, وبال على صاحبه ما لم يعمل به، وكل الناس هلكَى إلا العالمين، والعالمون هلكَى إلا العاملين، والعاملون هلكى إلا المخلصين، والمخلصون على خطر عظيم).
أخي الحبيب، أكرمك الله ورعاك..
هذه المقولة التي بدأت بها حديثي إليك، هي أول ما تبادر إلى ذهني وأنا أقرأ رسالتك.
وفي الحقيقة، لقد ترددت في نشر رسالتك هذه، وما دفعني لنشرها إلا السبب الذي أرسلتَ من أجله تلك الرسالة، وعبَّرتَ عنه بقولك: (إنما قصدتُ أن أبيّن موطنًا من مآتي الشيطان، علَّ إنساناً ينتبه لما غفلت أنا عنه، أو لعل مسلماً ينجو من الشَّرَك الذي سقطتُ فيه).
ولا أجد ما أقوله لك سوى ما قلته لك سابقاً: (عرفتَ فالزَم)، و(ابدأ الآن، ولا تُسوِّف).
لا أقول لك: انسَ الماضي بأحداثه وذنوبه، ولكن أقول لك: لا تعِش فيه، بل اقتبس منه ما يضيء مستقبل حياتك وأيامك الآتية، معتبراً بتلك الدروس التي خرجت منها من خلال تجاربك التي حكيت عنها، حتى لا تقع في الجُحر مرة أخرى، ولتجعل من أخطاء وأمراض وظلام الماضي زاداً لصحة المستقبل وعافيته وضيائه.
هذا لك أخي.
أما إخوتي الكرام الذين يتابعون صفحتنا، من الدعاة وغيرهم، فأرجو منهم أن يعيدوا قراءة كلام أخينا مرة أخرى، ليستوعبوا التجربة وينقلونها، فرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع، محاولةً لتفادي تكرار هذا النموذج بيننا، لا نريد أن نكون مجرد شموع تضيء للناس وتحرق نفسها، أو جسوراً على متن جهنم، يعبر الناس من فوقها إلى الجنة، ثم تسقط هي في النار!!.
ومدار ذلك كله – لتصحيح المسار من البداية - هو إصلاح النية وتطهير القلب، النية التي يتحرك الإنسان من خلالها، وينطلق من قاعدتها، وهذا ما عبر عنه الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله جهنم) رواه ابن ماجة بسند صحيح.
وأخيرًا.. كلمة للجميع:
فعلاً، صدق المثل القائل: (ربك رب قلوب)، الذي يعضده قول الله ـ عز وجل ـ: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)، وقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم. ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم. نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يطهر قلوبنا مما سواه، ويثبتنا على ذلك، إنه على ما يشاء قدير.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد