بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يتصوّر بعض الناس أن الرفق واللين هو الذي يجب أن يسود التعامل بين الناس عموما بين الداعـي والمدعـو بين المُـنـكِـر وصاحب المُـنـكَـر وتسمع العتب على من اشـتـدّ في النَّـكير ! أو اللوم على من أغلظ في القول – ولو كان لمرة واحدة – فيقولون : " إن منكم مُنفِّرين ". لا تنفِّـروا الناس ! ويستدلّون بـ ( أدعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ ) ويكتفون بهذا القدر من الآية ! ومنهم من يستدل بقول الله عز وجل لموسى مع فرعون ( فَقُولا لَهُ قَولاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى ) و الحقيقة أن هذا خطأ في الاستدلال ، وقصور في التّـصوّر . فلكل مقام مقال ولكل حالة لباس
فالبس لكل حالة لبوسها *** إما نعيمها وإما بؤسها
فلا تصلح الشدّة في موضع الرفق واللين و لا يصلح اللين في موضع الشدة والقوة
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ** مُضِرُّ كوضع السيف في موضع الندى
أما استدلالهم بالآية ( أدعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ ) فإن الله سبحانه وتعالى ختمها بقوله : ( وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ ) ثم قال سبحانه: ( وَإِن عَاقَبتُم فَعَاقِبُوا بِمِثلِ مَا عُوقِبتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِّلصَّابِرينَ * وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحزَن عَلَيهِم وَلاَ تَكُ فِي ضَيقٍ, مِّمَّا يَمكُرُونَ) قال ابن القيم – رحمه الله – : جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق و لا يأباه يُدعى بطريق الحكمة ، و القابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يُدعى بالموعظة الحسنة ، و هي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة ، و المعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن . هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية . و قال أيضا : و أما المعارضون المَدعُوّون للحق فنوعان : نوع يُدعون بالمجادلة بالتي هي أحسن ، فإن استجابوا ، وإلا فالمجالدة ، فهؤلاء لا بُـدّ لهم من جدال أو جلاد . انتهى .
وأما الاستدلال بقول الله عز وجل لموسى وهارون : ( فَقُولا لَهُ قَولاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشَى ) فنقول : كيف فهم موسى عليه الصلاة والسلام هذا الأمر ؟ هل فهمه على القول الليِّن مُطلقاً ، وعلى الرخاوة عموماً ؟ هذا ما لم يفهمه موسى عليه الصلاة والسلام بدليل أنه أغلظ لفرعون في موطن الشدة والقوة فلما قال له فرعون : (إِنِّي لأَظُنٌّكَ يَا مُوسَى مَسحُورًا) ردّ عليه موسى بقوّة فقال) : لَقَد عَلِمتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبٌّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأظُنٌّكَ يَا فِرعَونُ مَثبُورًا) مَثبُورًا ؟ نعـم ! هالكاً مدحورا مغلوبا ! وهذا مثله مثل الاستدلال بقول الله تبارك وتعالى لِنبيِّـه صلى الله عليه على آله وسلم : ( وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضٌّوا مِن حَولِكَ ) وسوف أستعرض معكم بعض المواقف التي فيها شِدّة وقوّة في الإنكار ، و لا تعارض بينها وبين هذه الآية ، كما لا تعارض بين أمر موسى – عليه الصلاة والسلام – بالقول الليّن ، وبين شدّته على فرعون وقوّة لفظه وجزالة خطابه معه . وهذه بعض المواقف من حياته صلى الله عليه على آله وسلم والشدّة تكون مع الكافروتكون مع المسلم . اجتمع أشراف قريش يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ! سفّـه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا . لقد صبرنا منه على أمر عظيم . فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مرّ بهم طائفا بالبيت ، فلما أن مر بهم غمزوه ببعض ما يقول قال عبدالله بن عمرو : فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فقال : تسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح . فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ! حتى إن أشدهم فيه وَصَاة قبل ذلك ليرفأه بأحسن ما يجد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشداً ، فو الله ما كنت جهولا ! قال : فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه الإمام أحمد بإسناد حسن . أليست هـذه شِـدّة وغِلظـة ؟ ولو قيلت اليوم لكافر لعُـدّ ذلك من الغِلظة والتنفير ! ومن أشد ما رأيت مواقف الصحابة يوم الحديبيبة مع أنهم ليسوا في موقف قوة ، ولكن ردودهم وأقوالهم كانت هي القويّـة . في يوم الحديبية أرسلت قريش رُسلها لمفاوضة النبي صلى الله عليه على آله وسلم ، فلم تُفلح تلك الجهود قام عروة بن مسعود الثقفي – وكان مشركا - فقال : أي قوم ! ألستم بالوالد ؟ قالوا : بلى . قال : أوَ لست بالولد ؟ قالوا : بلى . قال : فهل تتهمونني ؟ قالوا : لا . قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلّحوا عليّ جئتكم بأهلي و ولدي و من أطاعني ؟ قالوا : بلى . قال : فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه . قالوا : ائته ، فأتاه فجعل يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من قوله لِبُدَيل ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يَفِرٌّوا ويدعوك ! فقال له أبو بكر : امصص ببظر اللات ! أنحن نفرّ عنه و ندعه ؟ فقال عروة : من ذا ؟ قالوا : أبو بكر . قال عروة : أما والذي نفسي بيده لولا يَـدٌ كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك . وجعل عروة يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما تكلم أخذ بلحيته و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف و عليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بِنَعـلِ السيف ، وقال له : أخِّـر يَدَكَ عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة . فقال : أي غدر ! ألست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء . ثم إن عروة جعل يرمق أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه . فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم والله لقد وَفَدتُ على الملوك و وفدت على قيصر و كسرى و النجاشي ، و الله إن ما رأيت ملِكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدا ، و الله إنتنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فَدَلَكَ بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، و إذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدٌّون إليه النظر تعظيماً له ، و إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ... الحديث . رواه البخاري . أليست هـذه أيضا شِـدّة و غِلظـة و قـوّة ؟ و لو قيلت اليوم لكافر لعُـدّ ذلك من الغِلظة و التنفير ! و مع هذه الشِّدة رجع إلى قومه بهذه الصورة المشرقة التي نقلها بكل صدق و أمانة لقومه ، وعرض عليهم ما عَرَضَه عليه رسول الله صلى الله عليه على آله وسلم . كان هذا مع أئمة الكفر فماذا كان مع أئمة النفاق ؟! لما كان في غزوة تبوك قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم : إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار ، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئا حتى آتي . فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تَـبِـضّ بشيء من ماء . قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل مسستما من مائها شيئا ؟ قالا : نعم . فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول . رواه مسلم . يحتاج المُعاند إلى أن يُعامل بشيء من الشدة والغلظة . وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع – رضي الله عنه – أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله ، فقال : كُـل بيمينك . قال : لا أستطيع ! قال : لا استطعت . ما منعه إلا الكبر . قال : فما رفعها إلى فيه . فقوله : لا استطعت . من باب الدعاء عليه . فما رفعها إلى فيه : أي ما رفع يده إلى فمِـه . أليست هذه شِـدّة في الإنكار ؟ وثمة مواقف أُخـر ظهرت فيها الشِّـدّة في التعامل مما يدلّ على أن الرفق واللين ليس هو التعامل السائد أو الحل الدائم . حَـدّث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلاً فقال : احتفظي به . قال : فَغَفَـلَـت حفصة ، ومضى الرجل ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا حفصة ما فعل الرجل ؟ قالت : غفلت عنه يا رسول الله فخرج . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قطع الله يدك . فَرَفَـعَـت يديها هكذا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما شأنك يا حفصة ؟ فقالت : يا رسول الله قلت قبل لي كذا وكذا ! فقال لها : ضعي يديك ، فإني سألت الله عز وجل أيما إنسان من أمتي دعوت الله عليه أن يجعلها له مغفرة . رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح . وروى البيهقي مثل هذه القصة وأنها وقعت لعائشة – رضي الله عنها – والرجل المدفوع إلى حفصة – رضي الله عنها – إماكان أسيراً أو محبوساً ولم يكن له قيد . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل ، فنزعه فطرحه ، وقال :يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده . فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم : خُـذ خاتمك انتفع به . قال : لا والله لا آخذه أبدا ، وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم . والنّـزع يدل على الشِّـدّة . وعلى هذا سـار أصحاب النبي صلى الله عليه على آله وسلم في التعامل بقوّة وشِـدّة فيما يحتاج إلى الشدّة . روى مسلم عن عمارة بن رؤيبة – رضي الله عنه – أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال : قـبّـح الله هاتين اليدين ! لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بإصبعه المسبحة . وكان حذيفة بالمدائن فاستسقى ، فأتاه دهقان بقدح فضة ، فرماه به ، ثم قال : إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته ، و إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال : هن لهم في الدنيا ، وهي لكم في الآخرة . متفق عليه . وهذا عبد الله بن عمر يُحدّث فيقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنوكم إليها . فقال بلال بن عبد الله بن عمر : والله لنمنعهن ! قال سالم بن عبد الله بن عمر : فأقبل عليه عبد الله فسبّه سبّـاً سيئا ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول : والله لنمنعهن ؟! متفق عليه . ما رأيكم : لو جاء مُدخِّـن تفوح منه روائح التدخين أو جاء عامل ملابسه كلها زيوت أو دهانات فأمسك بهم إمام المسجد أو المُحتَسِب ( رجل الهيئة ) ثم طردوا عن المسجد أو من المسجد ! ماذا يكون موقف المُشاهِد لذلك الموقف ؟؟؟ سيقول : ما بالكم تُنفِّرون الناس ! إن منكم مُنفّرين تعاملوا بلطف ! لا تُضيّـقوا على عباد الله ! ما كان الرفق في شيء إلا زانه . وربما تلا الآية ( وَلَو كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلبِ لاَنفَضٌّوا مِن حَولِكَ ) لكن هذا الفعل أو التصرف هو ما كان يحدث في زمن النبي صلى الله عليه على آله وسلم . قال عمر – رضي الله عنه – : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحة ما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا . رواه مسلم . يعني البصل والثوم . قال بعض أهل العلم : وإنما يُخرجون إلى البقيع لأنه جهة المقبرة ، والموتى لا يتأذّون بتلك الروائح ! وينبغي التفريق في التعامل بين الجاهل الذي يحتاج إلى تعليم ، وبين المُعاند . ويدلّ على ذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه – ، وهو في صحيح مسلم ..
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد