فهم الدين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تــمـهــيــــد:

تقرر لدينا أن مصدر الدين هو القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف. وإذا كانت السنة تشمل البيانات السلوكية العملية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإقراراته للأعمال التي يشهدها، فإن الأصل في الدين يبقى هو القرآن الكريم والسنة القولية، فهما المرجع الأول لكل من رام فهم الدين، والسنة الفعلية والاقرارية إنما هي تطبيقات مساعدة على الفهم.

 

والقرآن والسنة القولية هما بيانات نصّيّة، جملت فيهما المعاني المعبرة عن المراد الإلهي، في وعاء من اللغة على اللسان العربي. وليست اللغة إلا رموزاً، تحمل المعاني من القائل إلى السامع، وهي رموز تشتمل على عمليتين معقدتين:

 

الأولى إفراغ المعاني في رموز اللغة من تلقاء القائل.

 

والثانية تحليل الرموز إلى المعاني المشتملة عليها من تلقاء السامع. وحينما تكون اللغة بشرية، فإن انتقال المعاني من القائل إلى السمع، عبر تينك العمليتين، من شأنه أن يصيب تلك المعاني بشيء من التفاوت، بين حقيقتها لدى قائلها، وبين صورتها التي تحصل عند سامعها. أو يجعلها على الأقل قابلة لأن تصاب بذلك التفاوت، وذلك لأن اللغة في حقيقتها الرمزية لا تحمل المعاني ولا تؤديها في كثير من الأحوال، إلا على سبيل الظن، مما يفسح المجال للاحتمال، والتأويل في المعاني المحمولة، وهو ما يكون به التفاوت المشار إليه آنفاً.

 

ولغة القرآن والحديث بلغت من حيث حملها المعاني، وتعبيرها عن المراد الإلهي، الحد الأقصى في الكمال، وهو ما بلغ في القرآن الكريم درجة الإعجاز، وبلغ في الحديث النبوي درجة عليا من البلاغة، إلا أنه مع ذلك تبقى العملية الثانية وهي تحويل معاني القرآن والحديث إلى أذهان القارئين والدارسين لهما عملية تحمل إمكان التفاوت بين المراد وبين الحاصل، وعلى الأخص في الشطر الذي يُعرف بظني الدلالة فيهما.

 

ولهذا الاعتبار فإن فهم الدين من أصله النصي ليس بالأمر الهيّن الذي يحصل على نحو أقرب إلى التلقائية، كما يظن بعض الناس، بل هو أمر خطير الشأن، وخاصة إذا لا بسته ظروف من الضعف، في فقه اللغة العربية، وقوانينها في التعبير، أو من الميل إلى التعسف في استخراج المعاني من وعائها اللغوي، وقد وقعت من ذلك نماذج كثيرة في التاريخ الإسلامي، ويكفي أن نتبين في خطورة هذا الأمر أن الانحراف في الفهم يؤدي إلى التشرع بما لم يرده الله، مع ما قد يجره ذلك من ضلال وخسران، وخاصة إذا كان نتيجة تعجّل، لم يستفرغ معه الوسع في التبيّن والاجتهاد.

 

وليس فهم الدين من أصله النصي عملية آلية، يكفي فيها التحري في ملازمة ظاهر القوانين اللغوية، بل هي أعقد من ذلك بكثير. فالنص الديني نفسه، ورد يحمل من المعنى ما يناسب البشر جميعاً في كل مكان وزمان، باعتبار خاتمية الوحي فيه، وهذا ما يجعل المجموع النصي يحمل من كنوز المعاني، ما لا يستنفده فهماً جيلٌ واحد من المسلمين، بل يمكن أن يكتشف فيه كل جيل ما لم يكتشفه الذي قبله، وذلك وجه من وجوه إعجازه. كما أن لعملية الفهم علاقة بكسب العقل البشري من العلوم والمعارف، التي يكسبها من خارج دائرة النص، بل إن لها علاقة بذات الواقع الزمني في أحداثه وتفاعلاته، سواء ما كان منها من نزول الوحي، أو زمن عملية الفهم.

 

وسنحاول فيما يلي أن نرسم ملامح أساسية لضوابط وقواعد عامة من شأنها أن تسدد عملية فهم الدين من النص، والملاحظ أن علماء أصول الفقه قد فصلوا القول في ضوابط الفهم وأسسه، ولكننا في هذا المقام سنعمد إلى عرض أسس كلية لا جزئية تفصيلية، وذلك لأن هذه الأسس الكلية هي التي دار عليها عبر تاريخ الفكر الإسلامي تضارب الأفهام، إلى ما يصل إلى التناقض أحياناً، ولا يزال الأمر كذلك إلى يوم الناس هذا. وسنقدم بين يدي هذه الأسس مقارنة بين المراد الحقيقي من النص، وبين محصول الفهم البشري منه، فيما إذا كان هذا الفهم يعتبر ديناً، إذا كان متفاوتاً مع المراد الإلهي، ففي هذه المقارنة ما يساعد على بسط القول في ضوابط الفهم وأسسه.

 

1 - الدين بين المراد الإلهي وبين الفهم البشري:

لقد تضمنت نصوص الوحي الهدي الديني على مستويات مختلفة، فبعضها تضمن هذا الهدي بصفة قطعية في الدلالة، بحيث لا يمكن أن يفهم منها إلا وجهٌ واحد، هو المراد الإلهي على وجه اليقين. وبعضُها تضمن معاني بصفة ظنية في الدلالة، بحيث يمكن أن يُفهم منها أكثر من وجه واحد من الوجوه المحتملة. وبعضها لم يتضمن إلا إرشاداً عاماً مقصديًّا، ينير السبيل في المجالات، التي لم ترد فيها هداية نصية مباشرة.

 

ومن البيّن أن النوع الأول تعيّن فيه المُراد الإلهي، فليس للعقل البشري إلا أن يكون محصوله في الفهم مطابقاً لذلك المراد، أي مطابقاً لما تضمنه النص القطعي من دين. ولكن النوع الثاني والثالث على وجه الخصوص، بما بُنيا عليه من ظنية في حمل معاني الدين، فإن العقل لما يتوجه إليهما بغية الفهم للمراد الإلهي، حتى يُتخذ ديناً، قد يصيب ذلك المراد، وقد يُخطئه، بمقتضى الظنية، وحينئذ فأيهما يُعتبر ديناً، هل هو المراد الإلهي في حقيقته، أو هو المحصول الاجتهادي من الفهم، حتى وإن أخطأ ذلك المراد؟ أو أن ذلك المراد لا يكون في بعض الحالات محدداً سلفاً، وإنما يكون تبعاً للفهم الاجتهادي، فيصبح ذلك الفهم ديناً في أي صورة انتهى إليها الاجتهاد؟

 

وقد تبدو هذه المسألة غير ذات أهمية عملية، تتناسب مع الغرض الذي التزمناه من هذا البحث. ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، نظراً للمساحة المتسعة لما هو ظني من الدين، حيث تشمل أكثر الأحكام المصرِّفة لشؤون التعامل بين الناس، وضمنها تندرج الاجتهادات التي تبغي حلولا دينية لمستجدات الأوضاع في حياة الفرد والمجتمع، وهي في حال المسلمين اليوم متراكمة أشد ما يكون التراكم، تنتظر أفهاماً دينية، تجد على أساسها طريقها إلى الحل. إن هذه الحيثيات كلها تشدد من وجوب التحري في الاجتهاد لفهم الدين إلى حدوده القصوى، حتى لا يؤول أمر المسلمين إلى أن يتخذوا من خطرات العقل، وبنات الوهم، وثمرات الهوى، ما يحسبونه ديناً يبغون به الفلاح في مسيرة التحضر. وإننا لنرى اليوم من بين المنتمين إلى الإسلام من يتجاوز ما هو ظني من الدين، إلى ما هو قطعي منه، يبغي له تأويلاً عقليًّا بعيداً عن حقيقته، ويحسب ذلك التأويل ديناً بل هو الدين، وفي هذا تندرج الدعوة إلى العلمانية، وإبطال الحدود، وإجازة الربا، في نطاق تفسير الإسلام بما يلائم العصر، وهذا إهدار للحقيقة الدينية من أساسها.

 

وبهذا الاعتبار فإنه يصبح من المهم في فهم الدين، أن تُعلم أولاً حقيقة الدين، في تراوحها بين المراد الإلهي في ذاته، وبين ما يحصله العقل بعد اجتهاده في فهم ذلك المراد، وذلك من خلال النص في مستوياته الثلاثة، الآنفة الذكر، فمعرفة هذا الأمر من شأنها أن تُسدد عملية الفهم، وأن تفصل بين ما هو دين، وبين ما هو خواطر إنسانية ذاتية.

 

وقد كان الفكر الأصولي الفقهي على وعي عميق بهذا الأمر، فخصص من بين مباحث الاجتهاد مبحثاً، ناقش فيه حقيقة الدين، هل هي حقيقة ثابتة معينة سلفاً، ومستقلة عن الفهم البشري، أو هي ثابتة في بعض القضايا، وتابعة للفهم الاجتهادي، بحيث يكون هذا الفهم هو المعين لها في بعض القضايا الأخرى؟ وعلى الرغم مما تفرعت إليه الأقوال في هذا المبحث، مما قد يبدو أوغَلَ في التجريد، فإننا نحسب أن تناول أصل القضية بالمطارحة مُفيد في تسديد الفهم، الذي يؤدي إليه الاجتهاد، ولذلك تُرجم هذا المبحث في كثير من الكتب الأصولية بمبحث \"الإصابة والخطأ في الاجتهاد \".

 

وخلاصة آراء الأصوليين في هذه القضية، أن أحكام الله منها القطعي، مثل أصول العقيدة، وما علم من الدين بالضرورة، من أحكام الشريعة المنصوص عليها على وجه يقيني الدلالة، ومنها الظني، الذي يشمل الأحكام الشرعية المنصوص عليها على وجه يحتمل أكثر من معنى واحد، والأحكام التي يرد فيها نص ولكنها تندرج ضمن أصول الهدي العام.

 

والأحكام القطعية هي أحكام معيّنة ثابتة، ينحصر الدين فيها في وجهها اليقيني الوحيد، فالناظر فيها لفهم الدين منها إن أصاب فهمه ذلك الوجه الوحيد فقد أصاب الدين، وإن أخطأه فقد أخطأ الدين وانحرف عنه وهو آثم بذلك. وعلى هذا المعنى فليس لأحد أن يتأول في الفهم، ما جاء في النصوص، من أحكام التعبد، أو أنصبة الميراث، أو أنواع الحدود ومقاديرها، فيصدر بمحصول مخالف لها في ثبوتها أو في كيفيتها، ثم يدعي أن محصوله ذاك من الفهم يندرج ضمن الدين الإلهي، ويبشر به ويجري حياته عليه على ذلك الأساس.

 

وهذا الرأي الذي يكاد يجمع عليه الفكر الإسلامي الأصولي، يجد مبرره في المحافظة على الثبات في أصول الدين، حتى لا تصبح الحقيقة الدينية عرضة للنسخ، بحجة الاجتهاد العقلي، الذي تهدر فيه الدلالة اللغوية أصلاً بتأول اليقيني منها، فلا يبقى إذًا للدين الإلهي رسم ثابت، ويمكن أن تحل محله شريعة عقلية خالصة، مع الادعاء بأنها إلهية. ولا يخفى أن هذا الأمر وقع شيء منه في تاريخ الفكر الإسلامي، متمثلاً على وجه الخصوص في تأولات الباطنية، التي أتت على كل حقيقة ثابتة في الوحي، واستعاضت عنها بأوهام إنسانية، ويقع شيء منه في التاريخ المعاصر، متمثلاً في باطنية جديدة تُسقط من الدين أحكاماً يقينية، بحجة التقادم الزمني، وتستعيض عنها بأحكام وضعية، على أنها مُرادٌ إلهي، توصل العقل إلى فهمه بالاجتهاد.

 

أما الأحكام الظنية المنصوص عليها، أو الموجه إليها بالمقاصد العامة، فإن الأصوليين اختلفوا حيالها فرقتين \"فقال قوم: كل مُجتهد فيها مصيب، وإن حكم الله فيها لا يكون واحداً، بل هو تابع لظن المجتهد، فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وغلب عليه ظنه \"(1). وعُرف هؤلاء بالمصوّبة لقولهم: بأن كل مجتهد مُصيب لحقيقة الدين باجتهاده، ومن بينهم الإمام الغزالي الذي يقول في تبني هذا الرأي: \"والمختار عندنا وهو الذي نقطع به، ونخطئ المخالف فيه، أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وأنها ليس فيها حكم معين لله - تعالى - \"(2). وذهب آخرون إلى أن: \"المُصيب فيها واحد، ومن عداه مخطئº لأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معيّناº لأن الطالب يستدعي مطلوباً، وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر \"(3). وعُرف هؤلاء بالمُخطِّئة لقولهم: بأن المجتهد الذي لا يصيب مُراد الله الثابت، فهمه خاطئ ولا يعتبر ديناً(4).

 

وهذا الخلاف بين الوجهتين هو خلاف على مستوى نظري، يمكن أن يتحول على المستوى الفعلي إلى تضافر لترشيد الاجتهاد في الفهم، فيؤدي رأي المخطئة إلى التذرع بالمزيد من أسباب الحيطة وإفراغ الوسع في النظر، ويؤدي رأي المصوبة إلى رفع التهيب من الاجتهاد في الفهم، والركون إلى أفهام من سلف، ليتخذها الخلف ديناً، يجرون عليها حياتهم، من حيث قد لا تكون مناسبة لأوضاعها وملابساتها.

 

وربما يكون رأي المصوبة أجدى عمليًّا، في تطوير حياة الإنسان وإخصابها بما يعود عليه بالنفعº ذلك لأنه رأي ينفسح فيه المجال، لأن تتحصل لدى المجتهدين عبر الأجيال أفهامٌ تتغاير في نوع القضية الواحدة من قضايا الحياة، ويكون كل فهمٍ, منها محققاً لمصلحة المسلمين في تلك القضية، بحسب تغاير أعيانها عبر الزمن، لتغاير ظروفها وملابساتها الشخصية، فإذا ما اطمأن المسلم إلى أن المراد الإلهي في الظنيات قد يكون مختلفاً باختلاف الظروف العينية، وأن الأفهام قد تختلف تبعاً لذلك، ولكنها لا تخرج عن أن تكون ديناً إلهيًّا، فإنه حينئذ سيكون أكثر اندفاعاً إلى معالجة أوضاع حياته المنقلبة بالزمن، بحلول تؤدي إلى تحقيق صلاحه. وهي في ذات الحين مشتقة من دين الله، الذي هو ما يتوصل إليه العقل بالاجتهاد. إلا أن هذا الموقف يستلزم قدراً كبيراً من الاعتصام بالإخلاص والتحري، دفعا لخاطرات الهوى الملحاحة في مثل هذا المقام، والتي إذا ما وجدت منفذاً إلى المجتهد صيرت أهواء الناس وأوهامهم ديناً إلهيًّا، يتدينون به في حياتهم.

 

وكأني بفكرة التصويب كانت الأكثر رواجا بين الأصوليين والفقهاء الأقدم زمناً، فقد كانت تتلاءم مع الحركة الاجتهادية الفقهية، التي شهدت الازدهار، قبل القرن الخامس، لما في طبيعتها من دافعية للاجتهاد. وفي المصادر الأصولية، أن من المصوبة القاضي الباقلاني (ت 403هـ)وأبا حامد الغزالي (تـ505هـ)، ومن قبلهما أغلب أصحاب لإمام الشافعي (تـ 204هـ) وأبا الهذيل العلاف (تـ 235هـ) وأبا علي الجبائي (تـ303هـ) وابنه أبا هاشم (تـ 321هـ). فلما مال أمر الفقه إلى التقليد، أصبحت فكرة التخطئة أكثر رواجاً بين الأصوليين، لأنها أكثر تلاؤماً في طبيعتها مع التقليد(5).

 

وبالنظر إلى وضع المسلمين اليوم، فإن مذهب التصويب أنسب لمعالجة عللهم، إذ هو يدفع إلى أن يجتهد العلماء في فهم الظنيات من الأحكام، ليصدروا منها بأفهام تسدد الأوضاع الكثيرة المائلة عن سمت الدين، وتكون هذه الأفهام مبنية على ما فيه صلاح هذه الأوضاع، اعتباراً بمستجدات عناصرها، ومتشابك ملابساتها، ومتحررة من أفهام اجتهادية، قد تكون صدرت عن مجتهدين قدامى في ذات النوع من القضايا، ولكنها كانت مبنية على أوضاع وملابسات طواها الزمن، وبسط أوضاعا وملابسات جديدة، ثم تؤخذ هذه الأفهام الاجتهادية الجديدة على أنها مراد إلهي، لتكون لها بذلك قوة النفاذ، وفعالية الإصلاح، وتعبئة النفوس للإنجاز، وعلى هذا الأساس فإننا نعتبر الاجتهاد في الفهم يناسبه في واقع المسلمين اليوم أن يقوم على خلفية تصويبية، تنأى به عن التقليد، وتدفعه إلى التجديد مع استصحاب التحري، الذي يعصم من مدخلات الهوى ومفاتن الشيطان.

 

2 - الضوابط النصية في فهم الدين:

إن أحكام الدين يحملها وعاء من اللغة، هي اللغة العربية، وقد اختارها الله - تعالى - لتحمل الدين الأبدي، لحكمة لعل منها ما لها من مقام في كفاءة الأداء لم تبلغه لغة غيرها. وقد كان لها في ذلك المقام أدب رفيع وثري، من القوانين في حمل المعاني وأدائها. كما أن المجموع النصي قرآناً وحديثاً، يمثل في مختلف عناصره وحدة متكاملة في الهداية، متأتية من وحدة المصدر ووحدة الغاية. وليس النص الديني منبتاً عن واقع الأحداث والنوازل، على العهد الذي نزل فيه من الله على نبيه. بل هو وثيق الصلة بها، رغم مغازيه الأبدية وأحكامه المطلقة، تلك اعتبارات ثلاثة، تتعلق بنص الوحي، من حيث حمله للهدي الديني، لا يتأتى للمجتهد فهمٌ لأحكام الدين من خلاله إلا بمراعاتها، وذلك ما عنيناه بالضوابط النصية، ونجملها في ثلاثة، ضابط لغوي، وضابط تكاملي، وضابط ظرفي.

 

1- الضابط اللغـــوي:

لقد ذكرنا آنفاً، أن للّغة العربية على عهد نزول الوحي أدباً متفرّداً يتصف بالعمق والثراء، وعلى حسب هذا الأدب وقوانينه جاءت لغة الوحي تخاطب الناس. ويتبع ذلك بالضرورة، أن يكون فهم مدلولات النص الديني منضبطاً بقوانين ذلك الأدب وقواعده، فيما فُطرت عليه اللغة العربية من اللسان، حيث \"تخاطب بالعام يُراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه، والخاص في وجه، وبالعام يُراد به الخاص، وظاهر يُراد به غير الظاهر، وكل ذلك يُعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبني أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى، كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأسماء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه \"(6).

 

وإذا كانت اللغة كائناً حيًّا، يأتي عليه التطور، سواء في مدلول الألفاظ، أو في مدلول نظمها، فإن فهم أحكام الدين من نصوص الوحي، ينبغي أن يكون على بينة من هذا الأمر، حتى لا تسقط معانٍ, ومدلولاتٌ لاحقة في حدوثها عن عهد نزول الوحي على النص الديني، فيحمل من المعنى ما لا يمكن أن يحمله، وتحصل من ذلك أفهام زائغة عن المراد الإلهي(7).

 

ولا يعني هذا الاحتراز العزوف عن كل مستجدات فقه اللغة وعلم الألسنية في فهم النصوص الدينية، بل إنه من المفيد استثمار ما وصلت إليه هذه المعلوم من نتائج علمية، والاستعانة بها على الفهم، ولكن ذلك ينبغي أن يكون في نطاق أدب اللغة العربية على عهد نزول الوحي، دون الانزلاق في تأولات إسقاطية تحدث في الدين ما ليس فيه، بتحميل اللغة ما لم تحمله من المراد الإلهي.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply