أهمية المنهج في العلوم والمعارف عامة وفي علوم الشريعة خاصة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

المنهج لغة من مادة نهج، ينهج نهجاً، وهو الطريق البين الواضح، ويطلق على الطريق المستقيم.

والمنهج، والنهج، والمنهاج: بمعنى واحد.

وفي التنزيل قوله (تعالى): (لِكُلٍ,ّ جَعَلنَا مِنكُم شِرعَةً ومِنهَاجاً) [المائدة 48].

قال ابن عباس (رضي الله عنهما): (سبيلاً وسنة) [1] وهو مروي عن مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وغيرهم.

وروي عن ابن عباس (سنة وسبيلاً) ورجح ابن كثير التفسير الأولº لظهوره في المعنى ومناسبته.

وقال الحافظ بن حجر: (والمنهاج: السبيل، أي الطريق الواضح).

وفي الاصطلاح هو الطريق المؤدي إلى التعرف على الحقيقة في العلومº بواسطة طائفة من القواعد العامةº والتي تهيمن على سير العقل، وتحدد عملياتهº حتى يصل إلى نتيجة معلومة.

وبعبارة أوجز: هو القانون، أو القاعدة التي تحكم أي محاولة للدراسة العلمية، وفي أي مجال.

ومن ثم تختلف المناهج باختلاف العلوم التي تبحث فيهاº فلكل علم منهج يناسبه، مع وجود حد مشترك بين المناهج المختلفة، وقد تتعاون - وهو الغالب - مجموعة من المناهج لخدمة ومعالجة فن واحد [2].

 مما تقدم من تعريف للمنهجº يمكن القول: بأن علم المناهج علم بعديº بمعنى أنه يقف من وراء العلومº كي يحلل طرائقها ويحدد مسالكها.

وعليه، فالاشتغال بالقضايا العلمية، والمسائل التفصيلية في العلوم، غير الاشتغال بمسالك تلك القضايا والمسائل، وكيفية ورودها على هذه الحال، أو تلك الحال، ومعرفة مصادرها، وأدلتهاº وهو ما يسمى عند المحدثين من العلماء بفلسفة العلوم [2].

 أهمية المنهج في العلوم:  نشأت الحاجة - في أوربا - إلى تأصيل العلوم وتحديد مناهجها بعد الاضطراب الشديد الذي صاحب الفكر الأوربي منذ أمد بعيد، وحتى عصر النهضة (القرن السادس عشر الميلادي)º حيث ساد المنطق اليوناني في تلك الفترة، وكان  منهجاً - في التفكير- عقيماً، لا يأتي بجديدº مما كان له أكبر الأثر في تعطيل العلوم والمعارف قروناً متطاولة.

حتى اهتدى الأوربيون إلى المنهج الاستقرائي التجريبي في العلومº وذلك بفضل اطلاعهم على تراث المسلمين العلمي، واحتكاكهم به، واستفادتهم منه بصورة مباشرة مما ساعد - بل كان له أكبر الأثر - على تقدم العلوم وازدهارها عندهم [3].

 إن مشكلة المنهج هي مشكلة العلم في صميمهº ذلك أن شرط قيام العلم وتقدمه، أن تكون هناك طريقة صحيحة تطوى تحتها شتات الوقائع، والمفردات المبعثرة هنا وهناك، بغية تفسير ما قد يوجد بينها من روابط أو علاقات، تنظمها قوانين محددة.

وإن تأخر العلوم ناشئ - في العادة - عن تأخر المناهجº بمعنى أن لا تكون هناك مناهج محددة وواضحة، ومتفق عليهاº فيسير كل عالم - في فنه - على غير هدى وبصيرة يخبط خبط عشواء، دون أن يصل إلى نتيجة مفيدةº فتتعارض القضايا، وتضطرب المسائل.

 فتقدم العلم وتأخره مرتهن بمسألة المنهج، يدور معها وجوداً وعدماً، ولذا يمكن أن يقال: إن المنهج يحفظ للعلم نظامه واتساقه، كما إنه يضبط العقل البشري، والأعمال الذهنية، بقواعد ثابتة، بحيث تعينه على الوصول إلى الحقيقة فيما يبحثه من موضوعات.

ويتضح الأمر بذكر أمثلة عليه.

 ففي مجال العربية تجلت أهمية المنهجº وذلك حينما خالط المسلمين غيرهم من أمم الأعاجمº فبدأ اللحن يزحف إلى اللسان العربي، الذي هو وسيلة فهم الكتاب والسنة، فانتدب أمير الؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أبا الأسود الدؤلي، ليقعّد للناس ما يحفظون به لسانهم من الفساد [4].

قال ابن خلدون:  (وخشي أهل الحلوم منهم، أن تفسد تلك الملكة رأساً، ويطول العهدº فينغلق  القرآن والحديث على الفهومº فاستنبطوا من مجاري كلامهم، قوانين لتلك الملكة، مطردة، شبه الكليات والقواعدº يقيسون عليها سائر أنواع الكلام، ويلحقون الأشباه منها بالأشباه، مثل: أن الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع) [5] وقال - رحمه الله - في موضع آخر: (وحين كان الكلام ملكة لأهله، لم تكن هذه (النحو والصرف) علوماً، ولا قوانين، ولم يكن الفقيه حينئذ يحتاج إليهاº لأنها جبلته وملكته، فلما فسدت الملكة في لسان العربº قيدها الجهابذة المتجردون لذلك بنقل صحيح، ومقاييس مستنبطة صحيحة، وصارت علوماً يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله (تعالى) ).

 فنشأت علوم العربية، محافظة على صحة اللسان، وصيانة له من اللحنº فكانت علوم النحو والصرف، وما يسمى بفقه اللغة، الذي هو عبارة عن علم يحاول الكشف عن أسرار اللغة، والوقوف (على القوانين التي تسير عليها في حياتها [6].

 ولما ضعفت - في الناس - العربية، وكثرت الوقائع والأحداث، واحتاج العلماء إلى معرفة أحكامها الشرعية، وقد تعددت طرق الاجتهاد، والاستنباط، وادعى الاجتهاد، والفقه في الدين، من ليس من أهلهº احتاج المسلمون إلى تأصيل الفقه وتقعيده، وبيان مصادر الأحكام وأدلتها، ومعرفة حجية الأدلة، ومراتبها في الاستدلال، وشروط هذا الاستدلال، وتحديد مناهج الاجتهاد، والاستنباطº بحيث يسير المجتهد على هديها عند تعرفه على الأحكام من أدلتها التفصيلية، وهو ما يعرف بأصول الفقه.

 قال الفخر الرازي: (الناس كانوا قبل الإمام الشافعي (رضي الله عنه) يتكلمون في مسائل أصول الفقه ويستدلون، ويعترضون، ولكن ما كان لهم قانون كلي مرجوع إليه في معرفة دلائل الشريعة، وفي كيفية معارضاتها وترجيحاتها، فاستنبط الشافعي - رحمه الله تعالى - علم أصول الفقه، ووضع للخلق قانوناً كلياً يرجع إليه في معرفة مراتب أدلة الشرع) [7] وقال ابن خلدون: (واحتاج الفقهاء والمحدثون إلى تحصيل هذه القوانين، والقواعدº لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه: أصول الفقه) [8].

وفائدة هذا العلم العظيم: أن يتمكن المجتهد من الحصول على قدرة، يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها، على أسس علمية صحيحة [9].

 ولما ظهر الوضع في الحديث، وضعفت الهمم عن الحفظ والروايةº احتاج العلماء إلى تدوين قواعد ومناهج، تعرف بها أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله وأحواله، وضبطها، وتحرر ألفاظها، ومعرفة أحوال رواتها، وطبقاتهم، وأصناف مروياتهم، إلى غير ذلك مما يتصل بهذا العلمº مما يساعد على معرفة حال الحديث: سنداً ومتناً، من حيث القبول والرد.

وبذلك يعرف صحيح الحديث من سقيمه، ومرفوعه من موقوفه..

وهذا العلم فن أبرز ما يفتخر به المسلمون على غيرهم من الأممº لدقته في أصوله ومسائله [10].

وكذلك قعّد العلماء في مناهج لتفسير القرآن الكريمº على نحو ما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية وتابعه في ذلك ابن كثير.

 قال ابن تيمية - وهو يعرف بأصول التفسير -: (قواعد كلية تعين على فهم القرآن، ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل.. ) [11].

 أما في مجال العلوم الطبيعية فقد اعتمد العلماء المنهج الاستقرائيº الذي يقوم على أسس علمية ثابتة، تتمثل في ثلاث مراحل رئيسة: [12]

1- مرحلة البحث: وتتم عن طريقي الملاحظة والتجربة.

 2- مرحلة الفرض: وفيها يفترض الباحث وجود علاقة ما بين الظواهر التي تجري عليها تجاربه.

 3- مرحلة البرهان: وفيها يتحقق الباحث من صدق ما افترضه سابقاًº بحيث يتأكد من أن العلاقة التي لاحظها في مرحلة الفرض، علاقة صحيحة، وأنها تنطبق على جميع الظواهر المماثلة للأفراد التي يدرسها.

وبعدها يستطيع إصدار حكم عام، يشمل ما وقع تحت الملاحظة والتجريب، وما لم يقعº لما يوجد بينها من التشابه..

 ومن ثم تتقدم العلوم بفضل هذا المنهج الذي يكشف عن القوانين التي تنتظم الظواهر، ومعرفة ما قد يربط بينها من علاقات.

 ومن هنا تتضح أهمية المنهج في ضبط العلوم، وتحديد أهدافها، وطرائقها، بحيث لا تضطرب القضايا، وتتعارض المسائل، مما يساعد على تقدم العلوم، وحفظها من الدخيل والشاذ، وصونها من الضياع والاختلاف، كما ويشترط أن يكون المنهج واضح المعالم بيّن القسمات، بحيث يسير الباحث على هدى، وبصيرةº يعرف أين يقف، وإلى أين يتجه.

 

________________

(1) صحيح البخاري 1/46.

(2) انظر: العلم والبحث العلمي لحسين عبد الحميد رشوان، ص 143- 145، ومنهج البحث العلمي عند العرب لجلال محمد عبد الحميد مرسى ص 271-273.

(3) انظر: العلم والبحث العلمي، لرشوان ص 143-145، ومنهج البحث العلمي عند العرب لجلال موسى ص 273، وانظر: أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية، أحمد على الملا ص 115.

(4) انظر: الفهرست لابن النديم.

(5) مقدمة ابن خلدون ص 515.

(6) انظر: فصول في فقه اللغة العربية، د رمضان عبد التواب، ص 9 مكتبة الخانجي.

(7) مناقب الشافعي، الرازي ص 357.

(8) مقدمة ابن خلدون ص 420.

(9) انظر: الأصول من علم الأصول، لمحمد بن صالح العثيمين ص 8.

(10) روى الخطيب البغدادي بسنده إلى أبي بكر محمد بن أحمد أنه قال: بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء، لم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب.

(11) مجموع الفتاوى 13/329.

(12) انظر: رؤية معاصرة في علم المناهج، د علي عبد المعطي محمد، ص 255 والتفكير المنطقي بين المنهج القديم والمنهج الجديد، د عبد اللطيف محمد العبد، ص 55.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply