حفظ السر في الشريعة الإسلامية


بسم الله الرحمن الرحيم

 

قالوا قديما: كل سر جاوز الاثنين شاع· وهذا صحيح في الأسرار التي تكون عادة بين اثنين، كالأسرار بين الزوجين، أو بين الشريكين، أو بين العامل ورب العمل، أو بين الموظف ومديره، وهكذا·

أما سرك الخاص بك، فأصدق ما يقال فيه: كل سر جاوز الشفتين ذاع· بمعنى: أن يتسع صدرك لسرك، فلا تتحرك به شفتاك، ولا تسمع به أذناك، فضلا عن أن تسمعه أذنا غيرك·

قال علي - رضي الله عنه -: (سرك أسيرك، فإن تكلمت به صرت أسيره)· قال الشاعر:

 

ويكتم الأسرار حتى إنه * * * ليصونها عن أن تمر بباله

نعم إن هذا هو السر الحقيقي، خبر تكتمه في نفسك، ولا تطلع عليه أحداº لأنك بمجرد حديثك عنه تكون قد كشفته وأظهرته· وإذا قلت: أسررت إلى فلان، فمعناه: أظهرت سرك له، وإن كان يعني من وجه آخر أنك أخفيته عن غيره·

لكن الإنسان - بقدراته المحدودة - قد يضطر إلى أن يفضي بسره إلى شخص آخر، فعليه أن يختار الصديق الصادق، والقريب الوفي، والمخلص الأمين·

قال أبو الحسن الماوردي في كتاب (أدب الدنيا والدين): (اعلم أن من الأسرار ما لا يستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر العاقل لسره أمينا، إن لم يجد إلى كتمه سبيلا، وليتحر في اختيار من يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل من كان على الأموال أمينا، كان على الأسرار مؤتمنا، والعفة عن الأموال، أيسر من العفة عن إذاعة الأسرارº لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه، بمبادرة لسانه وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله··· فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذرا وأقل وجودا من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرارº لأن أحراز الأموال منيعة، وأحراز الأسرار بارزة، يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق)· ومع هذا فلو استودعت سرك عند من لم يحفظه، فلا تلم إلا نفسك، ويرحم الله من قال:

 

إذا المـرء أفشـى سره بلسـانه  * * *  ولام عليــه غيره فهـو أحمـق

 

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه  * * *  فصدر الذي يستودع السر أضيق

 

ومن هنا جاءت تعاليم الشرع الحنيف بحفظ الأسرار وكتمانها وعدم إفشائها، بدءا من السر الخاص بالشخص نفسه، فعليه أن يكتمه ولا يظهرهº فإنه من أقوى أسباب النجاح، وبلوغ المقاصد والغايات·

روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) رواه الطبراني وغيره من حديث معاذ بن جبل، وروي نحوه عن علي وابن عباس وغيرهما·

وأما سر غيرك: فإفشاؤه خيانة للعهد، وعلامة على النفاق، وفي الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة·

وقد ذكر الله - سبحانه - من صفات المؤمنين: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8)} [المؤمنون]· إلى أن قال: {والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10)} [المؤمنون]·

ولما كان حفظ الأسرار من الأمانة والإيمان وأخلاق الكرام، حرص الصحابة رضوان الله عليهم على تنشئة أبنائهم على حفظ الأسرار وعدم إشاعتها، فها هي أم أنس تأخر عنها ولدها أنس بن مالك خادم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فسألته: ما حبسك؟ فأجابها: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة· قالت: ما حاجته؟ قال: إنها سر· فقالت الأم المربية الفاضلة: لا تحدثن بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا·

وأسر معاوية - رضي الله عنه - ذات يوم حديثا إلى الوليد بن عتبة، فقال الوليد لأبيه: يا أبت إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثا، وما أراه يطوي عنك ما يبسطه إلى غيرك· فقال له أبوه: لا تحدثني بهº فإن من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشى سره كان الخيار عليه·

وقال بعض الحكماء لابنه: يا بني، كن جوادا بالمال في موضع الحق، ضنينا بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء: الإنفاق في وجوه البر، والبخل بمكتوم السر·

وما حرم الإسلام إفشاء الأسرار إلا بالنظر لما يترتب عليه من أضرار، ومنها:

- إلحاق الأذى والضرر بصاحب السر، وقد نهى الإسلام عن الإضرار بالغير وإلحاق الأذى به، ففي الحديث الصحيح: (لا ضرر ولا ضرار)، وقال - سبحانه -: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا (58)} [الأحزاب]·

- إدخال الحزن والألم على صاحب السر، فربما كان السر فعلا قبيحا أو ذنبا فظيعا، ولم يطلع عليه أحد إلا أنت، وقد تاب منه هو وندم عليه، فإذا أفشيته آلمته وأحزنت قلبه·

- الجفاء وإفساد علاقاته بالآخرين، فإن الإنسان لو انكشفت بعض أسراره أمام الأهل والأصحاب، ربما أثر هذا بالسلب على علاقاته، كفك الارتباط به، والإحجام عن التعامل معه·

- إلحاق الأضرار المادية به: وهذا في الأسرار المتعلقة بالأعمال والمهن عموما، فسر المهنة، وبراءة الاختراع، والاكتشافات العلمية: يبذل لأصحابها الأموال الطائلة، فإذا ما أقدم خائن على إفشاء السر في مثل هذه القضايا ألحق بصاحبها ضررا ماديا فادحا·

فإذا استؤمنت أيها الأخ الكريم على بعض الأخبار، أو كنت في موقع فاطلعت من خلاله على بعض الخفايا والأسرار:

كأن تكون مفتيا أو محاميا، وهذان يسمعان من أسرار الناس الشيء الكثير، أو تكون طبيبا أو ممرضا، وهذان يريان من أسرار الناس الشيء الكثير، أو تكون خادما أو سائقا، وهذان يطلعان من البيوت على أمور لم يطلع عليها أحد، وهكذا· فالمطلوب منك أن تكون الحفيظ الأمين، ولا تكن من الخائنين المفرطين، المضيعين لدينهم وأمانتهم·

وربما كان السر مجرد حديث، أشعرك من حدثك به بأنه سر ولا يرغب في نشره، فمن الأمانة أن تحفظه ولا تشيعه، فعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت، فهي أمانة) رواه الترمذي وحسنه· ومن استشارك في أمر خاص مما شأنه أن يكتم عن الناس، فهو سر وأمانة، وقد جاء في الحديث: (المستشار مؤتمن) رواه أبو داود والترمذي، من حديث أبي هريرة·

وإن من الأمانة: الأسرار الزوجية، ومن أعظم الخيانة إفشاء الزوج سر زوجته، وإفشاء الزوجة سر زوجها، فقد جاء في الحديث الشريف: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها) رواه مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه-·

وحفظ السر من الأمانة وإن كان في حق من أفشى سرك وضيع الأمانة التي بينك وبينه، ففي الحديث: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) رواه أبو داود والحاكم· وأختم حديثي بأبيات بليغة في حفظ السر:

 

ومستودعي سرا تضمنت سره  * * * فأودعـته من مستقر الحشا قبرا

 

ولكنني أخفـــيه عني كأنني  * * *  من الدهر يوما ما أحطت به خبرا

 

وما السر في قلبي كميت بحفرة * * * لأني أرى المدفون ينتـظر الحشرا

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply