بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويُبَصِّرون بنور الله أهلَ العمى. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من ضالٍ,ّ تائهٍ, قد هدوه! فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، القائل: {وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي. أما بعد:
فلقد كان شيخ الإسلام، الإمام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي، المشَرَّفي، الوهبي، التميمي - رحمه الله - مجددَ القرن الثاني عشر الهجري بحق. فقد كانت ولادته سنة ألف ومائة وخمس عشرة (1115هـ)، ووفاته سنة ألف ومائتين وست (1206هـ)، فـانطبق عليـه شـرط التـجديد، كـما قال ابـن الأثـير - رحمه الله - : (المراد من انقضت المائة وهو حي، عالم، مشهور، مشار إليه)، جامع الأصول 11/324، وقال السيوطي - رحمه الله - ، في منظومته المسماة (تحفة المهتدين بأخبار المجددين):
والشرط في ذلك أن تمضي المائه وهو على حياته بين الفئه
يشار بالعلم إلى مقامهِ وينصـر السنة في كلامهِ
وقد جهر الشيخ بدعوته، وتصدى للناس، بعد وفاة والده القاضي عبد الوهاب بن سليمان التميمي، سنة ألف ومائة وثلاث وخمسين (1153هـ)، وعمره يناهز الأربعين، فأمضى نصف قرن من الزمان في حركة دائبة، غيّرت مسار التاريخ، وكان لها ما بعدها. ومن ثمَّ تنازع الكتَّاب والمحللون، في حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: هل كانت تجديداً دينياً، أم نشاطاً علمياً، أم إصلاحاً اجتماعياً، أم مشروعاً سياسياً؟ أم هو جميع ذلك؟ ناهيكَ عما ينبزها به خصومها الظالمون من الدعاوى المغرضةº بأنها مذهب خامس، أو حركة خوارج تكفِّر المسلمين، وتستبيح دماءهم!!
إن من السهولة بمكان، على الباحث المنصف، أن يجد الجواب الصريح على هذه التساؤلات، والرد المفحم على هذه الشبهات، فيما خلَّفه الشيخ وتلاميذه من تراث ضخم، وفيما حفظه التاريخ من وقائع وأعمال تنبئ عن حقيقة هذه الدعوة الفريدة. ويمكننا الإشارة إلى جملة من المعالم البارزة في دعوة الشيخ - رحمه الله -:
أولاً: تحقيق التوحيد:
لا ريب أن عماد دعوة الشيخ - رحمه الله - باتفاق الموالين والمناوئين، توحيد الله - عز وجل - بأنواعه الثلاثة:
1 ـ توحيد الربوبية: وهو توحيد الله بأفعالهº من الخلق، والملك، والتدبير.
2 ـ توحيد الألوهية: وهو توحيد الله بأفعال العبادº كالدعاء، والنذر، والذبح.
3 ـ توحيد الأسماء والصفات: وهو توحيده بما سمَّى ووصف به نفسه.
وقد عُني الشيخ عناية خاصة بتوحيد العبادة، وقرره بأوضح عبارة، فقال في (الأصول الثلاثة): (اعلم ـ أرشدك الله لطاعته ـ أن الحنيفية ملةَ إبراهيم، أن تعبد الله وحده، مخلصاً له الدين. وبذلك أمـر الله جـميع الـناس وخلقـهم لـها، كما قال ـ - تعالى -ـ: {وَمَا خَلَقتُ الـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومعنى يعـبدون: يوحِّدون. وأعظـم ما أمر الله به التوحيد، وهـو إفراد الله بالعبادة، وأعظم مـا نهى الله عنه الشرك، وهو دعوة غيره معه. والدلـيل قـوله - تعالى -: {وَاعبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا} [النساء: 36].
وظل الشيخ يأوي إلى هذا الركن الشديد، في جميع مؤلفاته، ومكاتباته، ومراسلاته يدعو الناس إلى تحقيق التوحيد، وتصفية العقيدة، وإخلاص العبادة، التي بُعث بها النبيون. قال - تعالى -: {وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَّسُولٍ, إلاَّ نُوحِي إلَيهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، فطفق يبين للناس حقيقة التوحيد، ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ومعنى الحنيفية.
وقد استهل الشيخ - رحمه الله - كتاب التوحيد بالأبواب التالية:
1 ـ باب: فضل التوحيد وما يكفَّر من الذنوب.
2 ـ باب: من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
3 ـ باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
4 ـ باب: الدعاء إلى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
ثانياً: التحذير من الشرك:
اجتناب الشرك قرين التوحيد، ولازِمه، كما قال - تعالى -: {وَلَقَد بَعَثنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ, رَّسُولاً أَنِ اعبُدُوا اللَّهَ وَاجتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال: {فَمَن يَكفُر بِالطَّاغُوتِ وَيُؤمِن بِاللَّهِ} [البقرة: 256]، وقال: {قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ, سَوَاءٍ, بَينَنَا وَبَينَكُم أَلاَّ نَعبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشرِكَ بِهِ شَيئاً} [آل عمران: 64].
وقد رأى الشيخ بعيني رأسه ما آل إليه حال الأمة الإسلامية، لا في بلاد نجد فحسب، بل في جميع الأقطار التي زارها وقت الطلب: في البصرة، والزبير، والأحساء، ومكة، والمدينة، حتى إنه صنف أشهر كتبهº (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) حين كان في البصرة لِـمَا رأى من حال العامة، ووقوعهم في الأعمال الشركية. فلما أنكر عليهم، أخرجوه وقت الهاجرة، حتى كاد أن يهلك من العطش. وعاين بعضَ الجهال حال وقوفهم عند الحجرة النبوية، وهم يدعون، ويستغيثون بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله شيخه المحدِّث محمد حياة السندي - رحمه الله - : ما تقول؟ فقال الشيخ: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُم فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} [الأعراف: 139].
ومن هنا، فقد عُني الشيخ - رحمه الله - بتتبع مظاهر الشرك العملي، المؤسَّس غالباً، على شرك اعتقادي. ويظهر ذلك جلياً في أبواب (كتاب التوحيد) مثل:
1 ـ باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما، لرفع البلاء أو دفعه.
2 ـ باب: ما جاء في الرقى والتمائم.
3 ـ باب: من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما.
4 ـ باب: ما جاء في الذبح لغير الله.
5 ـ باب: من الشرك النذر لغير الله.
6 ـ باب: من الشـرك أن يستغيث بغير الله، أو يدعو غيره...إلخ.
بالإضافة إلى الأبواب المتعلقة ببعض الممارسات الشركيةº كالسحر، والنشرة، والطِّيَرة، والتنجيم، والأبواب المتعلقة بالشرك الأصغر من الألفاظ، كقول: (ما شاء اللهُ وشئتَ)، وقول: (عبدي وأَمَتي) وقول: (مُطِرنا بنَوء كذا وكذا)، والحلف بغير الله.
وفوق ذلك، عقد أبواباً تتعلق بسدِّ الذرائع المفضية إلى الشرك، مثل:
1 ـ باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم، وتركهم دينهم، هو الغلو في الصالحين.
2 ـ باب: ما جاء في التغليظ فيمن عَبَدَ الله عند قبر رجل صالح.
3- باب: ما جاء أن الغلو في الصالحين يصيّرها أوثاناً تعبد من دون الله.
4- باب: ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد، وسدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك.
إن هذا الحس الإيماني المرهف لدى الشيخ، وتتبٌّعه لجذور الشرك، ومظاهره، وذرائعه، قد أحيا في الأمة روح التوحيد الخالص الذي غشيته غواشي البدع، وكدرت صفاءه تراكمات الشرك، والتعلق بغير الله. لقد كان مشروع الشيخ - رحمه الله - تجديد دعوة المرسلين، ونفض غبار السنين الذي حجب نقاء التوحيد.
ثالثاً: الولاء والبراء:
لم تكن دعوة الشيخ - رحمه الله - تقريراً عقدياً، أو تنظيراً علمياً، فحسب، بل كانت تطبيقاً عملياً جادّاً، يسعى لتمثٌّل المبادئ والعقائد ـ التي يؤمن بها ـ واقعاً مَعِيشاً، يترسم السيرة النبوية، ويحاكيها في مواجهة المخالفين، مع الأخذ بالاعتبار الفروقات الأساسية في التعاطي مع مجتمع كافر يدعى إلى الإسلام، كما في الحال النبوي، ومجتمع مسلم دبت فيه بعض مظاهر الشرك، كما في حالة الشيخ.
إن الولاء والبراء أصلان تابعان للإيمانº ومعتقد أهل السنة والجماعة أنه يمكن أن يجتمع في المؤمن ولاية من وجه، وعداوة من وجه، بناءً على أصلهم العظيم في مسألة الإيمانº أنه يمكن أن يجتمع في المؤمن طاعة ومعصية، وبر وفجور، خلافاً للخوارج والمرجئة على حدٍ,ٍّ, سواء. فالناس يتفاضلون في ولاية الله، بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، فهي تزيد وتنقص، وتكون كاملة وناقصةº فالمطيع تزيد ولايته ومحبته، والعاصي تنقص ولايته ومحبته، وتأسيساً على ما تقدم، فقد ألحَّ الشيخ في كثير من تقريراته على مسألة الولاء والبراء، وضرورة التناصر بين المؤمنين، ومجافاة المبطلين، وإن لم يبلغ الأمر مبلغ الكفر.
وهذه الثلاثية: (تحقيق التوحيد، واجتناب الشرك، والولاء والبراء) ثلاثية متلازمة عند الشيخ - رحمه الله - فهو يقول في (الأصول الثلاثة): (اعلم ـ رحمك الله ـ أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلّمُ هذه المسائل والعملُ بهن:
الأولى: أن الله خلقنا، ورزقنا، ولم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا رسولاًº فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. والدليل قوله ـ - تعالى -ـ: {إنَّا أَرسَلنَا إلَيكُم رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيكُم كَمَا أَرسَلنَا إلَى فِرعَونَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرعَونُ الرَّسُولَ فَأَخَذنَاهُ أَخذًا وَبِيلاً}[المزمل: 15 - 16].
الثانية: أن الله لا يرضـى أن يُشـرَك معه أحد في عبادتهº لا مَلَكٌ مقرب، ولا نبي مرسلº والدليل قوله ـ - تعالى -ـ: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18].
الثالثة: أن مـن أطـاع الرسول، ووحّد الله، لا يجوز له موالاة مـن حـادَّ اللهَ ورسولهَ، ولو كـان أقـرب قـريـب. والدليـل قوله ـ - تعالى -ـ: {لا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوَادٌّونَ مَن حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبنَاءَهُم أَو إِخوَانَهُم أَو عَشِيرَتَهُم أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِم الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ, مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنهُ أُولَئِكَ حِزبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُم المُفلِحُونَ} [المجادلة: 22].
وقد ظن بعض الناس أن ذلك يقتضي تكفير مخالفيه بإطلاق، وأنه يُلزم الناس بالهجرة إليه! ولكنه دفع هذه الفرية، وأنكرها بشدة، فقال: (وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم إنَّا نكفِّر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفِّر من لم يكفِّر، ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافهº فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفر مَن عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي، وأمثالهما، لأجل جهلهم، وعدم من ينبههمº فكيف نكفِّر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفِّر ويقاتل؟! سبحانك! هذا بهتان عظيم)، وقال أيضاً: (وأما ما ذكره الأعداء عني أني أكفّر بالظن، وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله) مجـموع مؤلفـات الشـيخ: 5/25، وقـال في جوابه لابن صياح ـ عندما طلب منه بيان موقفه فيما نسب إليه ـ: (فمنها: إشاعة البهتان، بما يستحي العاقل أن يحكيه، فضلاً عن أن يفتريه، ومنها: ما ذكرتم أني أكفِّر جميع الناس، إلا من اتبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، فيا عجباً! كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟! وهل يقول هذا مسلم؟! إني أبرأ إلى الله من هذا القول، الذي لا يصدر إلا عن مختل العقل، فاقد الإدراكº فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة) الدرر السنية: 1/80.
رابعاً: الاتباع، ونبذ الابتداع:
لما كان مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، كما فسرها الشـيخ: (طاعتـه فيـما أمر، وتـصديقه فيـما أخـبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع) فقد دعا إلى تعظيم النصوص، وتقديمها على أقوال الرجال، والاعتماد على الدليل، ونبذ التعصب والتقليد، ولكنº ليس إلى الحد الذي يهدر الفقه، ويجرئ السفهاء على أئمة الدين، وأعلام الأمة، كلاَّ! بل لم يزل - رحمه الله - وتلاميذه، وأتباعه، ينمون أنفسهم إلى مذهب الإمام أحمد ابن حنبل في الفروع، لكونه المذهب السائد في بلاد نجد، ويتبرأ من إحداث مذهب جديد، كما يشغِّب عليه بذلك خصومه، فهو يقول: (وأما مذهبنا، فمذهب الإمــام أحمد بـن حـنـبل، إمام أهـل السنـة، فـي الفـروع، ولا نـدعي الاجـتـهاد، وإذا بـــانت لـنا سُـنَّة صحـيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عملنا بها، ولا نقـدم عليـها قول أحد، كائناً من كان) الهدية السنية: 99.
ومع تأثر الشيخ بالإمامين: ابن تيمية، وابن القيم - رحمهم الله - إلا أنه يقرر بحزم في قوله: (الإمام ابن القيم، وشيخه، إماما حق، من أهل السنة، وكتبهم عندنا من أعز الكتب، إلا أنَّا غير مقلدين لهم في كل مسألة) الهدية السنية: 53.
وقال أيضاً: (ولست ـ ولله الحمد ـ أدعو إلى مذهبِ صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم، مثل: ابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مجموع مؤلفات الشيخ: 5/252.
وقد تصدى - رحمه الله - للبدع الاعتقادية، والعملية، الحادثة في زمانه، ومن شواهد ذلك ما ذكره مؤرخ الدعوة، حسين بن غنام: (كان في العُيَينة، وما حولها كثير من القباب والمشاهد المبنية على قبور الصحابة والأولياء، والأشجار التي يعظمونها، ويتبـركون بهـا، كقبة قبر زيـد بن الخطاب، في الجبيلة، وكشجرة قريوة، وأبي دجانة، والذيب. فخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومعه عثمان بن معمر، وكثير من جماعتهم، إلى تلك الأماكن بالمعاول، فقطعوا الأشجار، وهدموا المشاهد والقبور، وعدَّلوها على السنة. وكان الشيخ هو الذي هدم قبة زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذيب مع بعض أصحابه، وقطع شجرة قريوة ثنيان بن سعود، ومشاري بن سعود، وأحمد بن سويلم، وجماعة سواهم) تاريخ نجد: 1/78.
خامساً: إقامة الدين، وتحكيم الشريعة:
قال - تعالى -: {شَرَعَ لَكُم مِن الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوحَينَا إِلَيكَ وَمَا وَصَّينَا بِهِ إِبرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَن أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشرِكِينَ مَا تَدعُوهُم إِلَيهِ اللَّهُ يَجتَبِي إِلَيهِ مَن يَشَاءُ وَيَهدِي إِلَيهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13].
وقال - تعالى -: {وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِع أَهوَاءَهُم وَاحذَرهُم أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيكَ فَإن تَوَلَّوا فَاعلَم أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعضِ ذُنُوبِهِم وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكمَ الـجَاهِلِيَّةِ يَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكمًا لِّقَومٍ, يُوقِنُونَ}. [المائدة: 49 - 50]
لقد تميّز الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - عن كثير من المصلحين، بسعيه الدؤوب لإقامة دين الله، وتحكيم شرعه كما أمر. ولما كان أمر القرآن لا يتم إلا بهيبة السلطانº فقد عرض الشيخ دعوته على أولي الأمر، الذين بسط الله لهم نوع سيادة، ولم يسلك مسلك الخروج والتمرد. فابتدأ أولاً بمن يليه، وهو عثمان بن معمر، رئيس بلدة العيينة، فوافقه وناصره بادئ الأمر، إلا أنه تخلى عنه بسبب تهديدات سليمان بن محمد ابن عريعر، رئيس بني خالد والأحساء. فقصد الشيخ بلدة الدرعية، سنة سبع أو ثمان وخمسين بعد المائة وألف، وأميرها يومئذ محمد بن سعود، ونزل على تلميذه أحمد بن سويلم. ويصف المؤرخ ابن غنام اللقاء التاريخي الذي تم بين الإمامين: محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود - رحمهما الله - بقوله: (لما سمع بذلك الأمير محمد بن سعود، قام من فوره مسرعاً إليه، ومعه أَخَواه: ثنيان، ومشاري، فأتاه في بيت أحمد بن سويلم، فسلم عليه، وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده. فأخبره الشيخ بما كـان عليـه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومـا دعـا إليـه، ومـا كـان عـليه صحـابته - رضي الله عنهم - من بعـده، وما أمروا به، وما نهوا عنه، وأن كل بدعة ضلالة، وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله، وأغناهم به، وجعلهم إخواناً، ثم أخبره بما عليه أهل نجد في زمـنه مـن مخـالفتهم لشـرع الله وســنة رسـولهº بالـشرك بالله - تعالى - والبدع، والاختلاف، والظلمº فلما تحقق الأمير محمد بن سعود معرفة التوحيد، وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنـيوية، قـال له: يا شـيخ! إن هـذا دين الله ورسوله، الذي لا شك فيه، فأبشر بالنصرة لك، ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد... فبسط الأمير محمد يده، وبايع الشيخ على دين الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وإقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) تاريخ نجد: 1/80، 81.
لقد اكتملت بهذه الصفقة الإيمانية شرائط مشروع الإصلاح الكبير، واتحد السلطان والقرآن، وانبلج فجر جديد، من البعث والتجديد، لا في تاريخ نجد فحسب بل في تاريخ الأمة الإسلامية جمعاء. لقد تحولت الدرعية من بلدة نجدية مغمورة، إلى بؤرة نور، ترسل خيوط أشعتها الإيمانية محمولة في الصدور تارة، وعلى ظهور الخيول تارة. وردد صدى الدعوة مجددون في مواقع شتى من أرض الإسلام شد أزرَهم، وقوَّى عزائمَهم، هذه التجربةُ الفريدة، التي استلهمت السيرةَ النبوية مثالاً، وعضَّدها سيفُ السلطان إيماناً وامتثالاً، فآتت أُكُلها كل حين بإذن ربها.
وبعد: فهل استنفدت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أهدافها، ولم يبق شيء من مقاصدها وأغراضها؟ هل باتت حركة محنطة في متحف التاريخ، يتناولها الكُتَّاب والمحللون درساً ونقداً وتحليلاً؟
كلاَّ! إن صح أن توجه هذه التساؤلات إلى دين الإسلام، وهيهات وأنّى، صح أن توجه، تبعاً لدعوة الإمام المجدد محمد ابن عبد الوهابº لأن الحقيقة واحدة، وإن وقع شيء من الأخطـاء البـشرية، والتجاوزات الفرعية التي لا تثلم الأصل، ولا تخدش صفاءه. ما أحوج البشرية اليوم إلى التوحيد، وقد نسي الناس ما خُلقوا لأجله!
ما أحوج البشرية اليوم إلى التخلص من مظاهر الشرك والكفر بأنواعه!
ما أحوج المسلمين اليوم، إلى التعاون والتناصر فيما بينهم، ضد عدوهم الذي يتربص بهم الدوائر، ويكيل لهم التهم ليل نهار!
ما أحوج المسلمين اليوم، إلى ـ تجديد ـ روح الاتباع لإمام الهدى - صلى الله عليه وسلم -، كما أمر - تعالى - بقوله: {قُل يَا أَيٌّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيكُم جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ} [الأعراف: 158]!
وما أحوج البشرية اليوم، والمسلمون ابتداءً، إلى إقامة دين الله، وتحكيم شرعه، الذي بات غريباً في غابة الأنظمة العلمانية، والشرائع الوضعية!
إن على أبناء هذه الدعوة المباركة، وأحفاد الإمامين المجددين، أن يعوا جيداً حقيقة دعوتهم، وأن يسلكوا المسلك الرشيد، الذي وصفه الله بقوله: {ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ} [النحل: 128]، وأن يتقدموا بمشروعهم الإيماني إلى العالم أجمع، مستفيدين من الوسائل الإعلامية الحديثة، وأن يطوِّروا أساليبهم في الحوار، واثقين أن الحق، والعقل، والفطرة، تشهد لهم، وأنهم أسعد الناس بالحوار، وأحمدهم عاقبة. والله غالب على أمره، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد