موقف أهل السنة والجماعة من مجادلة أهل البدع ومناظرتهم


بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

سيكون حديثنا في هذا الموضوع إن شاء الله عن موقف أهل السنة والجماعة من مجادلة أهل البدع ومناظرتهم، ونسأل الله التوفيق:

 

المجادلة:

مصدر جادل: وهو مقابلة الحجة بالحجة، ذكره ابن الأثير [1].

وقال الراغب الأصفهاني: \" الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة وأصله من جدلت الحبل: أي أحكمت فتله \" [2].

والمجادلة، والمناظرة، والمخاصمة، تأتي بمعنى واحد في بعض كلام أهل العلم: يقول ابن الأثير: \" والمجادلة: المناظرة والمخاصمة \" [3].

وعند الفيروز أبادي الخصومة لا تجامع المجادلة في المعنى إلا إذا كانت المجادلة شديدة يقول: \" الجَدلَ محركة اللد في الخصومة \" [4]، فتكون الخصومة عنده أعم من المجادلة، فكل مجادلة يصح أن يطلق عليها مخاصمة، وليس العكس.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الجدال: يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها.

 

وأما الخصومة:

فلجاج في الكلام ليستوفي به المقصود من مال أو غيره [5].

وقد ورد ذم الجدال في كتاب الله وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند سلف الأمة. يقول الله - تعالى -: ((ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد)) [غافر: 4]، ويقول الله - تعالى -: ((الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار)) [غافر: 35].

ويقول جل ذكره: ((إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه)) [غافر: 56]، والآيات في هذا المعنى من كتاب الله كثيرة.

وأما في السنة فقد جاء ذم الجدال وأهله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من حديث: ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم \" [6].

قال النووي - رحمه الله تعالى -في شرحه: \" الألد شديد الخصومة مأخوذ من لَدِيدَي الوادي، وهما جانباه، لأنه كلما احتج عليه بحجة أخذ في جانب آخر، وأما الخصم فهو الحاذق بالخصومة والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حق أو إثبات باطل والله أعلم\" [7].

وروى الترمذي وابن ماجه من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم قرأ: ((ما ضربوه لك إلا جدلا)) [الزخرف: 58] \" [8].

وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجدل، والاختلاف في كتاب الله ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \" اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه \" [9].

وفي صحيح مسلم عند عبد الله بن عمرو بن العاص قال: \" هجّرت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً قال: فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب \" [10].

وفي رواية ابن ماجة وأحمد - رحمهما الله -: قال \" خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يختصمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال: بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربوا القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم \" [11].

وأما سلف الأمة الصالح فقد جاء نهيهم عن الجدال في الدين في كثير من الآثار نقل بعضها الآجري في الشريعة في (باب ذم الجدال والخصومات في الدين) [12] وابن بطة في الإبانة الكبرى في (باب النهي عن المراء في القرآن) [13] واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة في (سياق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن مناظرة أهل البدع، وجدالهم والمكالمة معهم والاستماع إلى أقوالهم المحادثة وأرائهم الخبيثة) [14] وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله في (باب ما يكره فيه المناظرة والجدال والمراء) [15] والحافظ إسماعيل الأصفهاني في الحجة في بيان المحجة في (فصل في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم والاستماع إلى أقوالهم) [16].

فقد جمعت هذه المصادر المئات من الروايات عن السلف في ذم الجدال والمراء والخصومة في الدين، ونقل هذه الآثار قد يطول، وإنما أذكر منها ما جاء مصرحاً فيه باتفاق الأئمة على هذا الباب، ومن أراد مزيد الاطلاع فعليه بمراجعة تلك المصادر، وهي متوفر بحمد الله.

روى ابن بطة في الإبانة عن عبد الرحمن بن مهدي - رحمه الله تعالى -قال: \" أدركنا الناس وهم على الجملة يعني لا يتكلمون لا يخاصمون \" [17].

وعن عبد الرحمن بن أبي الزناد - رحمه الله تعالى -قال: \" أدركنا أهل الفضل والفقه من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، وحذرونا مقاربتهم أشد التحذير \" [18].

وعن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -قال: \"أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين\" [19].

يقول ابن بطة بعد نقله للآثار عن السلف في النهي عن الجدال في الدين: \" فاعلم يا أخي أني لم أر الجدال والمناقضة، والخلاف والمماحلة، والأهواء المختلفة، والآراء المخترعة من شرائع النبلاء، ولا من أخلاق الفضلاء ولا من مذاهب أهل المروءة، ولا ممن حكي لنا عن صالحي هذه الأمة، ولا من سير السلف، ولا من شيمة المرضيين من الخلف \" [20].

يقول الإمام البغوي - رحمه الله تعالى -: \" واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوص في علم الكلام وتعلمه \" [21].

هذا ما جاء في الجدال والنهي عنه بوجه عام، وأما ما جاء في النهي عن مجادلة أهل البدع خاصة فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله - تعالى -عنها قال: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب)) [آل عمران: 7] قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم \" [22].

فهذا تحذير من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مجادلة أهل البدع فإنهم هم أهل الزيغ، وهم الذين يجادلون بالمتشابه.

يقول أيوب السختياني: \" لا أعلم أحداً من أهل الأهواء يخاصم إلا بالمتشابة \" [23].

قال الإمام النووي في شرح الحديث: \" وفي هذا الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ وأهل البدع، ومن يتبع المشكلات للفتنة، فأما من سأل عما أشكل عليه منها للاسترشاد وتلطف في ذلك فلا بأس عليه، وجوابه واجب، وأما الأول فلا يجاب بل يزجر ويعزر كما عزر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صبيغ بن عَسل حين كان يتبع المتشابه \" [24].

وقد جاءت أقوال السلف كذلك محذرة من مجادلة أهل البدع وترك مخاصمتهم، والآثار المنقولة عنهم في هذا لا تكاد تحصر لكثرتها، ولكن أقتصر على ذكر نماذج منها:

فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يقول: \" إن التكذيب بالقدر شرك فتح على أهل الضلالة، فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم \" [25].

وعن أبي قلابة - رحمه الله تعالى -أنه قال: \" لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم \" [26].

وروى ابن بطة عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين - رحمهما الله - أنهما كانا يقولان: \" لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم \" [27].

وعن عون بن عبد الله - رحمه الله - أنه قال: \" لا تجالسوا أهل القدر ولا تخاصموهم فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض \" [28].

وعن الفضيل بن عياض - رحمه الله -: \" لا تجادلوا أهل الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله \" [29].

وروى ابن بطة عن حنبل بن إسحاق - رحمه الله - قال: كتاب رجل إلى أبي عبد لله (يعني الإمام أحمد) - رحمه الله - كتاباً يستأذنه فيه أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد على أهل البدع وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم، ويحتج عليهم، فكتب إليه أبو عبد الله: \" بسم الله الرحمن الرحيم أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كل مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا من أهل العلم: أنهم كانوا يكرهون الكلام، والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمور في التسليم، والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبسون عليك ولا هم يرجعون فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم \" [30].

ويقول الإمام اللالكائي مبيناً ما جنته مناظرة المبتدعة من جناية على المسلمين، مقارناً بين حال المبتدعة في عصر السلف الأول، وما كانوا عليه من ذل وهوان، وبين حالهم بعد فتح باب

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply