بسم الله الرحمن الرحيم
ما ترك القرآن الكريم من خير إلا دلنا عليه، وما وُجدت في الحياة من هداية أو رفعة إلا وأرشدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها، وما وجدت في حياة الأمم من عثرات أو عقبات إلا فهّمنا الإسلام إياها وحذرنا منها، وليست هناك سنة من السنن وقواعد بناء الأمم في نهضتها وكبوتها، وتناصرها وتنازعها وفناء بعضها في بعض، حتى يبقى الأنسب ويسود الأصلح، إلا وضحها وفصلها، وحضنا على الاستمساك بالصالح والتخلي عن الطالح.
وأمامنا الآن حديث من أعلام النبوة ومن سنن الاجتماع وقواعد بناء الأمم في نهضتها وكبوتها، وتنازعها وتصالحها، حديث يضع الأمة أمام مستقبلها وأمام واقعها، ويضع الموازين الصحيحة التي عليها تقوى أو تنهار. تروي سنن أبي دواد والإمام أحمد:عن ثوبان-رضي الله عنه- قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : \"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت\".
ومفهوم هذا الحديث يحذر من الاستضعاف والغثائية التي تضيع الأمم وتجلب الهزائم، حتى لا يأتي وقت من الأوقات تأكلكم الأمم ويدعو بعضها بعضاً إلى التهامكم والقضاء على دولتكم، ويكون هذا من أمانيهم التي طالما يفكرون في تنفيذها والعمل على تحقيقها، ويرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سؤال لسائل يظن أن الأمم تضعف وتقوى، بكثرة العدد، ووفرة الأفراد، فيكشف له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سر القوة الحقيقية ويبين له مصدرها الأساسي، وهو أن الأمم لا تقاس بكثرة أفرادها ولا بعدد رجالها، بل بعزائمها وإيمانها، فقال له: \"بل أنتم يومئذ كثير\" أي في عدد الأشخاص والأفراد ولكنكم ضعاف الهمم، خامدو العزائم، ميتو النفوس، خفاف الأحلام والقلوب، غثاء طفيلي يطفو على وجه الحياة لا يرد عادياً، ولا يمنع ظالماً، ولا يحمي حقيقة، تماماً كالغثاء الذي يطفو على وجه الماء حين يتلاطم في السيل، ومن كانوا على هذه الشاكلة، إذا وصلوا إلى هذا الدرك، نزع الله من قلوب أعدائهم هيبتهم وخلت صدورهم من الخوف منهم، واجترؤوا عليهم وامتدت ألسنتهم، وأيديهم بالسوء إليهمº لأن الله قذف في قلوبهم الوهن، فأحبوا الحياة الدنيئة وألفوها واطمأنوا بها، وركنوا إليها، وفرحوا بزخرفها، وكرهوا الموت والتضحية في سبيل الحق، فأدى بهم ذلك إلى الفناء في غيرهم واكتساح دولتهم، هذا وقد وقف أمام هذا الحديث الخطير (الإمام البنا) ، واستخلص منه عبراً ثلاثاً:
أولاها: صدق هذا الحديث الشريف وانطباقه تمام الانطباق على حال الأمة الإسلامية، كيف طمع فيها أعداؤها، واجترأ عليها خصومها، ودعوا إلى التهامها، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وكيف نزع الله من قلوب أعدائها المهابة منها وقذف في قلبها حب الدنيا وكراهية الموت، وهم العدد الكثير الكثير.
ولا أدري ماذا يكون جواب هذه الأمة الكبيرة التي تتجاوز الألف مليون من الأنفس إذا وقفت أمام ربها، ووقف معها أهل بدر الذين لم يتجاوز عددهم ثلاثمائة رجل ونيفاً فقال لهم ربهم: هؤلاء بضع مئات نصروا الإسلام وأيدوه، وأنتم ملايين من البشر خذلتموه وأضعتموه! كيف يكون جوابهم حينئذاك؟
اللهم ألهمنا حجتنا، ووفقنا إلى عمل يصلح عذراً بين يديك ومنجاة من تبعة الغفلة والتقصير.
أما العبرة الثانية: في الحديث: فانظر كيف أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يصارح أمته بأن القلة والكثرة لا معول عليها في قوة الشعوب وضعفها، فكم من أمة كثيرة العدد كثيرة الأفراد، ولكنها ضعيفة مستعبدة، لا تدفع ضيماً، ولا ترد كيداً، وكم من أمة قليلة العدد ضيقة الرقعة، ولكنها عزيزة الجانب، مرهوبة الصولة، محفوظة الكرامة. قال - تعالى -: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين(البقرة249).
إن الكثرة أو القلة ليست شيئاً مذكوراً في حساب الخصومة بين الشعوب والنهضات، وموقف المسلمين في بدر معروف، وقد كان أعداؤهم ثلاثة أمثالهم، وفوق ذلك كتب الله لهم النصر وامتن عليهم بذلك فقال: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون 123(البقرة).
وموقفهم في حنين كذلك شاهد على ما ذكرناه: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين 25 ثم أنزل الله سكينته على\" رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين 26 (التوبة).
ولقد روى أن عمر-رضي الله عنه- أمد جيشاً من جيوشه برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي، فعجب المسلمون لذلك، وقالوا: يا أمير المؤمنين، يستمدك قائد من قوادك فتمده برجل واحد؟! فقال عمر-رضي الله عنه- : لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع، وقد كان ما قال عمر-رضي الله عنه- ، فما إن وصل القعقاع إلى الجيش حتى بث فيه الحمية والحماس والنظام، واكتسح الجيش المسلم جيش العدو، وكتب الله له النصر.
أما العبرة الثالثة: فهي عمل الأخلاق في الأمم وبيان عظم تأثيرها في حياة الشعوب، ومن تلك الفضائل الاجتماعية، الورع، والإيثار والتضحية في سبيل الجماعة، وما الأخلاق في الهجرة بخافية على أحد في استيعاب القوة المسلمة ولملمة جراحها ودفعها إلى الهدف المقصود منها، وهذا بخلاف الأنانية والنفعية البغيضة والشح، وهي سوس الأمم، وسبب بيع الشعوب، والعمالة للمستعمر، وأصحاب تلك الصفات هم الغثائية الحقيقية التي ينبغي أن تزول، حتى تستيقظ الأمة على فجر العزم والكفاح والنهضة والفلاح. نسأل الله ذلك.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد