الغلو مفهومه وخطره


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، جعل الدين يسرا، ورحمة وهدى، وما جعل علينا فيه من حرج، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأصلي على خاتم أنبيائه ورسله، وبعد:

فإن الغلو من الأخطار الداخلية التي حذر منها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته، فقال: إياكم والغلو، ونظرا لما حدث من الأحداث والوقائع تتجدد أهمية الحديث عن الغلو، لتجدد بعض صوره ولجود الخطأ في فهمه وإدخال أمور شرعية مطلوبة ضمن الغلو المذموم.

 

تعريف الغلو:

الغلو في اللغة: للعلماء أقوال متقاربة في تعريف للغلو. وهذه بعض تلك التعريفات:

أ- قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: الغلو مجاوزة الحد، بأن يزاد في الشيء، في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك. وبنحو هذا التعريف عرّفه الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، - رحمهم الله -

 

ب-وعرّفه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بأنه \"المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد\".

 

من صور الغلو:

ومن المعلوم أن الغلو المقصود في الشرع له صور متعددة منها الغلو في الأشخاص بتجاوز الحد في حقهم ورفعهم إلى مالا يستحقونه من الأوصاف وكذلك الغلو في الأحكام والغلو في الأفعال التي هي مشروعة في الأصل.

ومن صور الغلو ترك المباح أو المشروع تعبدا.

غير أن الحكم على عمل ما بأنه غلو يجب التثبت فيه، وينظر إلى العمل بدقة لئلا يحكم عليه بأنه غلو مع أنه سليم، ولكن الوسيلة إليه قد تكون من باب الغلو فيقع الخلط من هذا الباب.

 

ومن صور الغلو الأخرى:

أ-تفسير النصوص تفسيرا متشددا.

 

ب-تكلف التعمق في معاني التنزيل.

 

ج-أن يكون الغلو متعلقا بالأحكام وذلك بأحد الأمور:

1-إلزام النفس أو الآخرين ما لم يوجبه الله - عز وجل - تعبدا وترهبا.

2-تحريم الطيبات التي أباحها الله - عز وجل - على وجه التعبد.

3-ترك الضروريات أو بعضها.

 

د-أن يكون الغلو متعلقا بالموقف من الآخرين وذلك بأحد أمرين:

1-أن يقف الإنسان من البعض موقف المادح الغالي الذي يوصل بشرا ما سواء أكان فردا أم جماعة إلى درجة لايستحقها كادعاء صفات الالوهية لبعض الصالحين والأولياء الذين ماتوا، من القدرة على شفاء المرض أو ادعاء العصمة لشخص وجعله مصدر الحق.

 

 

 

2-أن يقف الإنسان من بعض الناس أفرادا أو جماعات موقف الذام الغالي فيصم المسلم بالكفر والمروق من الدين أو يصم المجتمع المسلم بأنه مجتمع جاهلي.

 

خطر الغلو: للغلو مخاطر عدة منها:

1-الخروج عن جادة الحق مع ظن الإنسان الغالي بأنه على الحق

كما هو الشأن في أولئك الذين يدعون البشر مع الله أو من دون الله ويطلبون منهم مالايجوز طلبه إلا من الله كمغفرة الذنوب، ورزق الأولاد، ونحو ذلك.

وكما هو شأن الذين يتخذون الشفعاء الذين لم يأذن بهم الله

وكما هو شأن الذين يكفرون المسلمين بالكبائر ويغلون في العبادة، ويخرجون على جماعة المسلمين

وهم الخوارج الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. )

 

2- تفريق كلمة المسلمين وإضعاف شوكتهم على عدوهم، فالغلو الذي يترتب عليه قتال لمسلمين وتكفيرهم من أعظم أسباب الفرقة والشتات والنزاع، مما تضعف معه شوكة الأمة.

 

3- إيجاد رد فعل سيئ في واقع الأمة، فإن الغلو قد يحدث بعد التفريط كرد فعل عليه، ومعلوم أن الإرجاء نشأ في الأمة كرد فعل على غلو الخوارج.

 

4- قد يترتب عليه استحقاق العذاب والوعيد الوارد على الغلاة بالنسبة للفرد الغالي.

 

عالمية المشكلة:

-إن الغلو من السمات الظاهرة في هذا العصر، إذ صار في كل بلد وفي كل حضارة طوائف عرفت بتلك الأعمال، وتختلف طبيعة كل فئة بحسب الحضارة، أو الدين والمذهب الذي يعتنقه أفرادها، كما أن للعالمية وجها آخر: فقد نقل الإعلام المعاصر الأحداث (الإرهابية) من المحلية إلى العالمية.

 

- وقفات مع مشكلة الغلو في العصر الحاضر:

- من أبرز من كتب دراسة مؤصلة وشاملة عن مشكلة الغلو في العصر الحاضر الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق الأستاذ المساعد بقسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالرياض .

 

- وقد تميزت دراسته بالتنظير والتطبيق، وله رؤى متميزة حول هذه المشكلة، رأيت عرضها بإيجاز: فهو يرى ضرورة تدارس المفهوم الصحيح للغلو حيث أصبحت المفاهيم المتعلقة بالغلو، مفاهيم نسبية تحملها كل طائفة على ما يوافق أهواءها، وذلك على المستوى المحلي، وعلى المستوى العالمي أصبحت المفاهيم ضائعة في جو من الضبابية والاختلاف.

 

تعقد المظاهر والأسباب وتشابكها:

 مما يعقّد المشكلة في العصر الحديث من حيث تعدد مظاهرها وأسبابها ومواردها، حيث لم تعد تلك المشكلة التي ليس لها مظهر أو مظهران، بل تعددت المظاهر وتنوعت.

 

 

 

وفي الأسباب مثل ذلك، فقد تنوعت وتعددت وتشابكت لتشكل المشكلة المعاصرة، والكلام فيها بعدل مقتضيا توسيع النظر في الأسباب والمظاهر.

 

-تصدي أصناف متعددة لهذه المشكلة: إن الواقع يُظهر أن هذه المشكلة أضحت نهبا لآراء متباينة تباين اتجاهـات المتكلمين فيها، بحسب تباين مشاربهم وعقائدهم، بل وأصبح التصدي للغلو و(الإرهاب) سلما لأغراض دنيوية كثيرة. وكل ذلك زاد المشكلة تعقيدا، وزاد في اضطراب الرؤية.

 

-انقسام الناس ما بين مهوّل ومهوّن: إن تهويل المشكلة يفقد الدارس لها الرؤية الصحيحة، كما أن تهوينها يفقد الرؤية الصحيحة أيضا، وعندما يُفتقد العدل في التعامل مع القضايا المتشابهة تزداد المشكلة تعقيدا، بل يصبح ذلك الجور في التعامل جزءا من المشكلة ذاتها. فبهذا يتضح أن المشكلة لم تعد مشكلة الغلو فقط ولكنها مشكلة الغلو ومشكلة الخطأ في فهم الغلو، ومشكلة تصدي من ليس بأهل للكلام في المشكلة للكلام فيها، ومشكلة اتخاذ الغلو ذريعة لمحاربة الإسلام، ومشكلة انقسام الناس ما بين مهوّل ومهوّن، إنها مشكلة مرتبطة بمشكلة أخرى

 

المصطلحات..أدوات للصراع

ولابتغاء ضبط منهجي رشيد لدراسة الغلو لا بد من ضبط للمصطلحات والألفاظº فقد أصبحت المصطلحات أدوات في الصراع الحضاري والفكري، إن بين الأمم والحضارات، وإن في داخل الأمة ذاتها، إذ يهتم أعداء أي مبدأ أو فكرة في الصراع مع المبادئ الأخرى بالألفاظ والمصطلحات، وهما مصطلحان يرمزان إلى حال معينة في التاريخ الغربي، ونقلها إلى العالم الإسلامي اتسم بكثير من التشويش.ولابتغاء ضبط منهجي رشيد لدراسة الغلو لا بد من ضبط للمصطلحات والألفاظ..

ولقد شهدت الساحات الإعلامية والثقافية مولد مصطلحات كثيرة ذات صلة بالغلو، ولعل من أشهر ذلك مصطلحي (الأصولية والإرهاب). ولا يزال هذا المصطلح ينتشر بحسب وجود الأحداث وطبيعتها، ولا إخال أن وقتا كثر ترديد المصطلح فيه كهذه الفترة الزمنية التي نعيشها، فقد أصبح المصطلح عالميا، بل صار معيارا للتفريق بين الدول والهيئات. فمصطلح الإرهاب مثلا فيه اختلاف كبير، ومع أن القضية لها وجه قانوني، ومن طبيعة القضايا القانونية أنها محددة، فإنها تحولت إلى كونها إعلامية، وأضحى استخدام مصطلح (الإرهاب) نوعا من الإرهاب الفكري.

وقد جمعت عشرات التعريفات لجهات رسمية وعلمية في أنحاء العالم، ولاحظت من خلال هذا الحشد لتعريفات (الإرهاب) الملاحظ الآتية: أن المفهوم غامض غير محدد، وشدة التباين في تحديد معنى المصطلح، وتعدد التعريفات. وأن التعريفات نسبية وحمالة وجوه، وافتقاد المعيار، وعدم وفاء اللفظة للمعاني الداخلة فيها.

 

ملامح الغلو.. وحقيقته - طبيعة مشكلة الغلو.. وحجمها -

وتعد معرفة طبيعة الغلو مدخلا مهما لتقويم المشكلة وعلاجها في كل عصر من العصور، ومن دون هذه المعرفة يخبط الباحث أو الدارس المعالج لهذه المشكلة خبط عشواء، وكثير من الأخطاء التي يقع فيها الدارسون للمشكلة سببها غياب الفهم لطبيعتها، ويمكن إجمال التساؤلات التي تجلي الإجابةُ عنها طبيعةَ الغلو في العصر الحديث فيما يأتي:

هل المشكلة فعل أو رد فعل؟ هل هي مشكلة مرحلية أم مشكلة دائمة؟ هل هي مشكلة تربوية اجتماعية أم سياسية أم هي أعم من ذلك؟ هل هي مشكلة محلية في بلد واحد أم عالمية؟ هل هي مشكلة نابعة من المجتمع أم هي وافدة؟ هل المشكلة فردية أم جماعية؟

 

يجيب الشيخ الدكتور عبد الرحمن اللويحق عن هذه التساؤلات بما يكشف طبيعة الغلو في حياة المسلمين المعاصرة: فيقول:

أولا: هل المشكلة فعل أو رد فعل؟

الغلو في أصله استجابة سلوكية، يميل السلوك البشري عادة إلى الانطباع بها كانعكاس لعدد من العوامل الداخلية المتعلقة بصميم الحياة النفسية للفرد، والخارجية المتعلقة بتأثيرات البيئة بمفهومها الشامل: عقديا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وغير ذلك.

وغالبا ما يحدث الغلو في البيئات أو الأزمنة المضطربة، فهو في حقيقة الأمر رد فعل أكثر من كونه فعلا، بدليل أن الغلو باستعراض التاريخ، يحدث غالبا في أوقات الأزمات واضطراب أحوال الأمم.

ولا يرد على هذا حدوث الغلو في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهود صحابته رضوان الله عليهم أو العهود ذات الحكم العادل الرشيد، إذ إن الغلو الذي حدث في عهودهم رد فعل لأوضاع خاطئة بزعم الغالي، وليس هذا تبرئة لساحة الغلاة وتبريرا لما وقعوا فيه، إذ إن الغلاة مرضى بما يمكن تسميته بالقابلية للغلو، فهم غير أسوياء في الناحية العلمية بشرع الله.  غير أسوياء في الفكر من حيث المنهج المستخدم لفهم نصوص الشارع. قليلو الاتصال بأهل الذكر والعلم.

وهذه القابلية أو التربة الصالحة للغلو يقع وزر تهيئتها وإصلاحها لاستنبات الغلو على الغلاة أولا، وأن عدم فهم هذين الجانبين للمشكلة وهما:

أن هناك أفعالا هي التي أوجدت رد الفعل.

أن هناك قابلية للغلو عند الغلاة.

أوجد خللا في فهم المشكلة، الأمر الذي أدى إلى خلل في تقويمها وعلاجها.

ويكاد هذا - أي القول: إن الغلو في هذا العصر الحديث رد فعل - أن يكون محل اتفاق بين الباحثين المهتمين بهذه المشكلة.

 

ثانيا: هل هي مشكلة مرحلية، أم مشكلة دائمة؟

الذي يراه الباحث أنه للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التفريق بين الأفراد والأمة، فهي بالنسبة إلى الأفراد مشكلة مرحلية في غالبية الأحوال، وهي بالنسبة إلى الأمة مشكلة دائمة. هذا بالنسبة إلى الأفراد، أما بالنسبة إلى مجموعة الأمة، فالأمر غير هذا، إذ إن الغلو حال دائمة تتسع وتضيق بحسب اتساع عواملها، فلا يكاد يخلو زمان من وجود غلاة، واستعراض التاريخ من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهد لهذا.

 

ثالثا: هل المشكلة محلية في بلد واحد أم هي عالمية؟

إن هذه المشكلة ليست مشكلة محلية مقتصرة على بلد واحد، بل أصبحت مشكلة عالمية تشمل جميع أرجاء الوطن الإسلامي، والمشكلة مطروحة على الساحة في كثير من البلاد الإسلامية، لكنها تتفاوت في الحدة، فهي في بعض البلدان أكبر وأظهر من البعض الآخر، وهذا يعود إلى قوة العوامل المنتجة لهذه المشكلة وضعفها في كل بلد من البلاد الإسلامية، ونحن في بلادنا لسنا بدعا من الناس، بل وقع الغلو في بلادنا، ووقوع الغلو في العالم كله في هذه المرحلة الزمنية يعني - فيما يعني - أن العوامل العالمية المشتركة هي الأظهر في أحداث الغلو، أما النظر المحلي الخاص لعوامل الغلو، مع أن الحدث عالمي، ففيه نوع من الظلم والإجحاف.

 

رابعا: هل المشكلة نابعة من المجتمع أم وافدة؟

تعد هذه الإشكالية الأكثر ترددا على الألسنة وفي المقالات بعد حوادث الغلو، وتجد الناس ينزعون إلى أحد منزعين:

المنزع الأول: القول بأنها وافدة، وكثيرا ما يطرح هذا الراغبون في تبرئة المجتمع ومؤسساته.

المنزع الآخر: القول بأنها نابعة من المجتمع، بل قد يزيد هؤلاء فيقولون: بل غلو الآخرين نابع من مجتمعنا، وكثيرا ما يطرح هذا الرأي الراغبون في إدانة المجتمع أو مؤسساته، أو مناهج التعليم فيه، ونحو ذلك.

وأحسب أن كثيرا من الكتابات المتعلقة بهذه الإشكالية لم تكن ناتجة من دراسات علمية، بقدر ما هي مجرد انطباعات نابعة من مواقف مسبقة.

إنّ حل هذه الإشكالية يكمن في وضع دراسات علمية، لتحديد منابعها، وأسبابها وعواملها، وبمعرفة هذه العوامل والأسباب يظهر مصدر المشكلة.

 

خامسا: هل المشكلة فردية أم جماعية؟

إن النظر في أنواع الغلو وأنه على نوعين:

- غلو كلي اعتقادي.

- غلو جزئي عملي.

يظهر به أن كون المشكلة فردية أو جماعية أمر دائر مع نوع الغلو، فإن كان الغلو غلوا كليا اعتقاديا فهو جماعي، وإن كان غلوا جزئيا عمليا فهو غلو فردي، وهذا في غالب الأحوال.

 

سادسا: هل المشكلة تربوية أم اجتماعية أم سياسية أم هي أعم من ذلك؟

تظهر في بعض الكتابات محاولة تضييق طبيعة المشكلة فتجد من ينزع إلى القول بأنها مشكلة تربوية، وتجد آخرين يرون أنها مشكلة هوية وصراع حضاري، وتجد من يغلّب الجانب النفسي في جملة أخرى من الأبعاد.

والحق أن مشكلة الغلو ذات أبعاد مختلفة، فهي ليست في طبيعتها مشكلة ذات بعد أحادي، إذ العوامل المساعدة على نشوئها كثيرة ومتنوعة وآثارها كثيرة كذلك، وليست منصبّة على جانب واحد.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply