حوار المفاهيم ( 7 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ومما يثار من الشبهات على هذه الدعوة قول البعض عنها أنها دعوة محدودة الأهداف لا تتجاوز كونها مدرسة علمية، تدرس بعض العلوم النافعة كعلم الحديث، وتعمل على نشر التراث، وليست تملك مشروعاً تغييرياً يتناول جوانب الحياة المختلفة، ولا تملك برنامجاً سياسياً وو... الخ.

والجواب عن هذه الشبهة وبالله - تعالى- التوفيق من وجوه عديدة منها:

أولاً: هذه شهادة من المخالف بأن هذه الدعوة توجه اهتمامها إلى العلم، وبالذات العلم النبوي الشريف، وهي شهادة يعتز بها حملة هذا المنهج لأنه كما يقال: والفضل ما شهدت به الأعداء، فقد علم الخاص والعام عناية هذه الدعوة بهذا العلم الشريف، وهذا العلم لا يقدر أحد أن يتهمه بأنه ليس شمولياً وليس منهجاً تغييرياً، لأنه علم السنة النبوية التي هي ثانية المصادر التشريعية، ومن اتهم علم الحديث والسنة بالقصور فقد وقع في العظائم.

إذاً فمنهجهم هو السنة، وهو منهج كامل وشامل لكافة نواحي الحياة، ففي السنة أنواع القواعد والأصول والمنطلقات العقيدة والعبادية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والدعوية والجهادية والاجتماعية، وفيها بيان الحقوق كلها حقوق الحاكم والمحكوم، وحقوق المرأة والطفل، والآباء والأبناء، والجيران والأقارب، والعلماء والقادة، والمسلم وغير المسلم، والحيوان والنبات، والجن والإنس والملائكة، وسكان الأرض وسكان السماء، وفيها قبل ذلك كله حق الله وحق أنبيائه ورسله.

ثانياً: المخالف لهذه الدعوة يعترض في الحقيقة على الأولوية الدعوية بشكل عام، فمشائخ وعلماء الدعوة السلفية يرون توجيه الهم الأكبر نحو تثقيف الأمة الإسلامية، والبيان لأبنائها عن ماهية الإسلام وحقيقته، وعن التصور الصحيح عنه: عقيدة وشريعة، وسلوكاً وأخلاقاً، وسياسة واقتصاداً، حتى يكون هناك تصور كامل منبثق من الإسلام من أجل الدعوة منه وإليه، حتى لا ينسب أحد منهم إليه ما ليس منه، وحتى يكون على بصيرة فيما هو من المعروف وما هو من المنكر.

أما المخالف فله اهتماماته، فقد حدد له غايات معينة يركب في الوصول إليها الصعب والذلول، ويحاول أن يحشد كل الطاقات للوصول إلى ذلك الهدف، ويسلك طرقاً محلية ومستوردة، ويلتزم لوازم تجعله غارقاً في وحل الأفكار المستوردة التي نصبت له ليسلك عليها، فيصبح ويمسي وهو يفكر كيف يوفق بين المناهج المستوردة وبين شرائع الإسلام، ويأتي بالعجائب في هذه المحاولة التوفيقية، وكلما جاءت آبدة من هناك انبرى يبهرج ويقول هذا هو الإسلام بعينه، أو يقول الإسلام قد سبق إلى هذا، أو يمكن تخريج هذاº حتى يتوافق مع الشريعة الإسلامية زاعماً أن هذا هو المنهج المرن الذي تتصف به الشريعة.

والحقيقة أن الأصل الشرعي ليس هو منهج التوفيق بل الشريعة بجميع فروعها وأصولها تهدف أساساً إلى إيجاد الحواجز الفكرية والعقدية بين الشريعة وأهواء البشر، بل بينها وبين الأديان السماوية المنسوخة والمحرفة، فمن أصر على تلك الشرائع المنسوخة أو المحرفة ورفض الشرع الناسخ فهو كافر.

والحقيقة أيضاً التي يقررها القرآن أن التوفيق بين الإسلام وشرائعه وبين المناهج الأرضية ليس هو منهج المسلم الصادق وإنما هو من فعل المنافقين - صان الله كل داعية وكل مسلم عن صفاتهم - كما قال الله - تعالى-: ((وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً))، وقد بينا في مقال سابق أن المرفوض إنما هو تلك الأفكار التي تشكل عقلية الإنسان ونظرته إلى الكون والإنسان والحياة بكافة جوانبها، والتي تستمد من المناهج الأرضية وليس ما يتعلق بالعلوم الصناعية المختلفة والعلوم الإدارية والتكنولوجية.

ثالثاً: كل الدعوات الكبيرة المعاصرة وعلى رأسها دعوة الإمام المجدد - أقول مجدد وإن كره البعض هذا الوصف - حسن البنا بدأت في أول أمرها بمنطقات دعوية محدودة، ولم تكن الاهتمامات السياسية والبرامج الشمولية من أوائل أعمالها، بل بدأت بأمور محصورة، وبأفراد محدودين للغاية لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، ثم صارت إلى ما صارت إليه ولم يكن ذلك عيباً في الرؤية، أو خللاً في التفكير، وإنما كان العمل على قدر الطاقة، فمن وضع هذه الشبهة على السلفيين يحتاج إلى الجواب على هذا الإيراد بل يحتاج إلى الجواب عن دعوة الإسلام نفسه في أول أمره وبداية منشئه، إذ كانت له اهتمامات في تلك الفترة - فترة الضعف والغربة - تختلف عن اهتماماته في نهاية المطاف.

رابعاً: ليس المطلوب - وفي هذا الوقت بالذات - أن يكون للدعاة مطلقاً برنامج سياسي، أي برنامج ولو بالتلفيق من برامج الأحزاب الموجودة، ولو بالتسول والشحت من موائد البرامج السياسية لأصحاب المناهج الديمقراطيةº لأن الأمر لو كان كذلك فليس في ذلك أي جديد، وليس فيه ما يفرح به، وإنما المهم ما جديدك الإسلامي، وما رؤيتك الإسلامية، وما هي السياسة الشرعية التي تنطلق منها لتخالف المنطلقات العلمانية، وما برنامجك ومنطلقاتك في العلاقات الدولية، وما الذي يميزك عن الأحزاب التي ملأت الشوارع والأسواق، وصكت الآذان بالميكرفونات والأبواق، وغطت الأجواء بالمنشورات والأوراق، فهل عندك شيء تفاخر به؟ أم أنك نسخة مصورة من الديمقراطية المزورة.

خامساً: العدل في هذه المسألة هو التوجه إلى أصل المنهج السلفي: هل له رؤية في هذا المجال؟ هل له اهتمامات سياسية وبرامج تغييرية؟ وليس التوجه إلى الاهتمامات الآنية، والواجبات الحاليةº لحملة هذا المنهج، لأنه قد يكون لهم اجتهادات وأولويات يرونها مناسبة للزمان والمكان تختلف عن اجتهادات الآخرين واهتماماتهم، ولكل وجهة هو موليها، ومن المعلوم أن الدعوة السلفية هي دعوة الإسلام في صورته الأولى الخالية من الشوائب والبدع، وهي ولا شك مشتملة على كل ما يحتاجه البشر ديناً ودنيا.

وليت شعري هذا المعترض على السلفيين بأنهم ليس لهم برنامج سياسي من أين أخذ منهجه وبرنامجه السياسي، فإنه إن كان برنامجه إسلامياً محضاً فالإسلام حق الجميع، والكل ينهل منه، والذي فتح عليه حتى وصل إلى ذلك البرنامج سيفتح على الآخرين بمثله أو أحسن منه، فإن عجز السلفيون عن ذلك فقد يستفيدون منه، ويأخذون عنه في ذلك لأن القضية قضية علم تحتاجه الأمة في هذا المجالº فلا مانع من أن تستفيد الأمة - ومن ضمنها السلفيون - مما تنتجه وتستنبطه قرائح بعض أفرادها، وسنأخذ منهم ما احتجنا إليه، داعين لهم بالمثوبة من الله، مثوبة من دل على خير وإن كان مستورداً أو ملفقاً، فهل التبعية الفكرية للأجنبي موضع افتخار وتطاول على الآخرين، وهل بضاعتهم الفكرية مما يجوز الترويج لها في بلاد الإسلام حتى يقال: هؤلاء السلفيون ما هو برنامجهم السياسي؟

سادساً: من كانت مرجعيته الكتاب والسنة والتراث الفقهي العظيم لهذه الأمة على مدى تاريخها الطويل، وعلى مختلف العصور واختلاف البيئات والأمكنة والأحوالº أيعجز عن إخراج برنامج سياسي متى ما شاء، يحدد فيه منطلقاته الفكرية والتشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من الجوانب؟ كلا والله.

سابعاً: هناك فرق - في تصوري - بين الرؤية السياسية والبرنامج السياسي، فقد تكون الجماعة أو الفرد يمتلك رؤية سياسية وليس له برنامج سياسي، لأن البرنامج السياسي يفرضه واقع معين يستوجب الخروج إلى الناس به بقصد التفاف الناس حوله، أما الرؤية السياسية فهي حسب الطلب، فقد تحولها إلى برنامج عملي متى ما شئت، وقد تظل أفكاراً ومفاهيم مخزونة في مجموعة الرؤية المتكاملة لمختلف جوانب الحياة، فالسلفيون يملكون الرؤية السياسية التي هي أصل ومنطلق البرنامج السياسي.

ثامناً: مرت فترة على الحركة الإسلامية في اليمن لم تكن تمتلك برنامجاً سياسياً يخصها، ولم تكن ظاهرة في تكتل بارز للناس تحت شعار معين، وكانت دعوة تستهوي الكثير من أبناء هذا البلد، وقد التحق بها الكثير منهم، فهل كان الملتحقون بها مخطئين في ذلك لأن الدعوة والجماعة التي كانت تحتضنهم في تلك الفترة لم تكن تمتلك برنامجاً سياسياً بل لم تكن حزباً سياسياً من الأصل.

تاسعاً: وعلى افتراض أن السلفيين لا يمتلكون برنامجاً سياسياً فهل العمل السياسي فرض عين أم فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الآخرين، فمن قام به فله الأجر من الله، وعلى السلفيين القيام بما يقدرون عليه من بقيه الواجبات الأخرى - وما أكثرها -،داعين لإخوانهم الدعاة الآخرين أصحاب البرنامج السياسي بالنجاح والتوفيق.

عاشراً: على القول بأن الحركة الإسلامية قد قامت بما عليها من الإصلاح السياسي الدستوري، وحولت الدستور من دستور علماني كما كان يقال إلى دستور إسلاميº فإن صح هذا التقدير فعلى أصول أهل السنة فلا داعي أصلاً لبرنامج سياسي من أساسه لأن البرنامج السياسي هو تفصيل رؤية الحزب السياسي الذي ينافس الحاكم، ويحاول إخراجه من موقع الحكم إلى موقع المعارضة، وهذا لا يجوز على أصول الدعوة السلفية لأنه من باب منازعة الأمر أهله، وهو ممنوع لديهم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply