بسم الله الرحمن الرحيم
بعد أن بينا جواز الانتساب إلى هذا اللقب شرعاً، وبينا المراد منه، ترد علينا بعض الشبهات على هذا المصطلح ومنهجه العام، منها وصف الدعوة السلفية بأنها دعوة رجعية لا تتعامل مع روح العصر ومتغيرات الحياة المستجدة، يفهم ذلك من خلال تسميتها، ومن خلال رفضها لكثير من المستجدات.
فنقول وبالله التوفيق: الدعوة السلفية في أصلها دعوة للعودة إلى الإسلام في صورته الأولى الخالية من الشوائب البدعية، وقد اتفق أهل الإسلام بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، وهذا يعني أن الدعوة السلفية كذلك، لأنها هي الإسلام نفسه بدون زيادة ولا نقصان، والقول بأنها لا تتعامل مع \"روح العصر\" هو في حقيقته طعن مستتر للإسلام نفسه بأنه لا يتعامل مع روح العصر، هذا أولاً.
ثانياً: هذه الشبهة يوردها العلمانيون على الإسلام ذاته - بشكل عام -، ويوردونها على الحركات الإسلامية كلها بأنها رجعية ومتخلفة، وقد اتفق الجميع على تضليلهم وتبديعهم بهذا القول، وهذا الحكم يسري على من رمى الدعوة السلفية بذلك، لأنه ترديد لما يقوله أعداء الإسلام من اليهود والنصارى في الإسلام، وهو جهل فضيع بالإسلام وتعاليمه وأحكامه المتعددة والشاملة لجوانب الحياة كلها.
ثالثا: لفظة الرجعية لفظ مجمل يحتمل معاني عديدة منها حق ومنها باطل، وهو مصطلح كان رائجاً في أواسط القرن الماضي حين كانت الأحزاب الشيوعية والقومية التقدمية تهرج به في وجه البعث الإسلامي، والحركات الإسلامية التجديدية، وخاضت معها معارك ضارية فكرية وعسكرية، فأين تلك الأحزاب الآن؟ لقد أصبحت خبر كان، وأثراً بعد عين، أما الحركات الإسلامية ولله الحمد فلا تزداد على مرور الأيام إلا قوة وانتشاراً، لأنها تربط حاضرها بماضيها، وحركتها بأصولها، وتتعامل مع العصر انطلاقاً من ثوابتها (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
رابعاً: ليس الرجعية كلها مذمومة لأن من مدلولها اللفظي التي تحاربه \"الأحزاب التقدمية\" الرجوع إلى الماضي، والاستفادة مما سبق من تجارب الأمة الإسلامية في أجيالها الأولى، والعودة إلى قيم الأمة وأخلاقها وثوابتها، وثقافتها وأصولها الحضارية، وهذه مبادئ لا يجوز التخلي عنها، ولا التنكر لها، وتسميتها رجعية للتنفير عنها لا يغير من حقيقتها شيئاً، فأهلاً وسهلاً بالرجعية إذا كان هذا مدلولها، لأنها زادنا الروحي والفكري والأخلاقي والشعائري، ولأنه لا مكانة لنا بين الأمم إذا تخلينا عنها، بل سنصبح أمة ممسوخة مقطوعة لا ماضي لها ولا تاريخ.
خامساً: لا يستطيع من يرمي الدعوة السلفية بالرجعية أن يعمم هذا اللقب على كل رجوع إلى الماضي، وكل نظرة إلى الخلف، وكل توقف في مستجدº إذا كان يستحق التوقف عنده، فيرمي من يوحد الله أو يصلي أو يحج أو يصوم رمضان، أو أراد أن يقرأ القرآن، أو يدرس أحكام الشريعة الإسلامية بأنه رجعي!! وهذه أحكام وأركان لا بد من الرجوع فيها إلى الماضي، وإلى الرعيل الأول لمعرفة كيف نزلت تلك الأحكام، وكيف طبقها السلف، وكيف نطبقها اليوم، ومن تجرأ على رمي أحد بذلك فقد خرج من الإسلام، إذن فقد اتفقنا على قدر مشترك من الرجوع والرجعية.
فنحن نقول: يجب الرجوع في هذا الأمر وغيره إلى كل ما أوجب الله ورسوله، الرجوع إليه في أمور الدين بجوانبه المتعددة من عقيدة وعبادة، وسياسة وأخلاق، وأحكام اجتماعية واقتصادية، وأحكام السلم والحرب، وهم يتحكمون في هذه القضايا بأهوائهم، يأخذون ما يشتهون، ويتركون ما لا يشتهون بحجة العصرنة والتحديث!!
سادساً: هذا الاصطلاح \"روح العصر\" فيه إجمال، فما هو المقصود بروح العصر الذي رفضته الدعوة السلفية ولم تتعامل معه؟! أهو روح العصر الإيماني والتعبدي، أم الفكري والعلمي، أم الفني والثقافي، أم الاقتصادي والصناعي، أم العسكري والسياسي، أم ماذا؟
فإن كان المقصود من هذا كله ما يخالف الإسلام في نصوصه وأحكامه، وما يخالف فهم السلف الصالح لهذا الدينº فما العيب في رفضها لذلك؟! وهل أصبحت المحامد عيوباً!!
وليس هذا من خصائص الدعوة السلفية، إذ كل التجمعات الفكرية والأيديولوجيات المعاصرة قد تعاملت مع مستجدات العصر الفكرية والثقافية انطلاقاً من مبادئها، فقبلت أشياء ورفضت أشياء، فالعلم اليوم يعج بالأفكار المتعارضة والمتناقضة التي لا يمكن الأخذ بها كلها، ولهذا ابتدع لهم شياطينهم فكرة القبول بالرأي والرأي الآخر من أجل أن يعيشوا ويتعايشوا مع بعض.
سابعاً: المستجدات الدنيوية التي تخدم الإنسان وترفهه وتيسر عليه ما يصعب من أمور الحياة، وتقدم له وسائل الاتصال والنقل، والتعليم والعمران، والغذاء والدواء وغير ذلك ليست هي موضوع الصراع بين الدعوة السلفية وبين ما خالفها من الدعوات والأفكار المستوردة، لأن هذه الوسائل ليست فكراً ولا أيديولوجيات، فهي بيد الشيوعي والرأسمالي والوثني والمسلم على حد سواء، ولكن الجاهلين يريدوا أن يمرروا القضايا الفكرية مع الوسائل المادية، موهميننا بأننا لن نتأهل لاستعمالها إلا إذا اعتنقنا الاشتراكية، وتبنينا الديمقراطية، وتشبعنا بالقومية، وأكلنا الأموال الربوية، واستمعنا الأغاني الغرامية والوطنية، وشاهدنا الأفلام الخلاعية، وشربنا المشروبات \"الروحية!\" وتركنا الصلاة، وحلقنا اللحى، وصرنا شيعاً وأحزاباً، وهذا من تلبيسهم وهزيمتهم الروحية والإيمانية.
ثامناً: السلفية والسلفيون موجودون في كل مكان في العالم، فهم في العالم المتقدم \"الصناعي - الأول\"، وفي العالم \"المتخلف - الثالث\"، وفي العالم الثاني، كما تسمى، وهم متعايشون مع جميع الأوضاع الصناعية والتكنولوجية، ويتفاعلون مع كل التقنيات المتجددة، فلا العالم الصناعي رفضهم، أو عجز عن التعامل معهم لأجل عقيدتهم، أو لكونهم لا يفهمون تكنولوجيته وتقنيته، ولا هم الذين تسببوا في تخلف العالم الثالث، أو شجعوا على تخلفه، أو أفتوا ببقائه في التخلف، وحرموا عليه وسائل العيش والرفاهية والتقدم، فرمي الدعوة السلفية بهذه الترهات رمي للكلام على عواهنه بلا وعي، ولا تقوى، ولا علم.
تاسعاً: المرفوض من المستجدات هو المذاهب الكفرية، والقوانين التشريعية الوضعية العلمانية، والتبرج والاختلاط والخلاعة والإباحية، والتبعية الفكرية والاقتصادية والثقافية، والأوضاع الحزبية التي أوهت القوى، وفرقت الصف، وزرعت الأحقاد، وفتحت الباب للمستعمر للتسلل إلى عقيدة المجتمع الإسلامي وأخلاقه وقيمه، وهذه أشياء ضارة يرفضها كل ذي عقل سليم، وغير جائز أن يقال: إن الحياة لا تكون حياة والتقدم لا يكون تقدماً والتطور العلمي لا يكون تطوراً إلا بهذه الأفكار الهدامة، والمذاهب الإلحادية.
عاشراً: وأخيراً، قد يكون البعض ممن ينتمي إلى هذا المنهج بسوء فهمه، وقلة علمهº يعطي صورة غير حقيقية عن هذه الدعوة، فهذا شأنه وشأن عموم المسلمين اليوم الذين لا يمثلون الصورة الحقيقية للإسلام مع انتسابهم جميعاً إليه، فهل نرفض الإسلام من أجل إساءة فهم بعض المسلمين للإسلام؟! كما يراد أن يرفض المنهج السلفي من أجل إساءة بعض منتسبيه إليه.
ثم أيها المتقدمون المعادون للدعوة السلفية، دعونا من هؤلاء الذين تصفونهم بالرجعيين المتخلفين المتطرفين، هل أغنيتم عن الأمة شيئاً؟ هل رفعتم عنها الذلة التي تعيشها؟ ألستم اليوم تفتحون مصانعكم العسكرية للتفتيش المهين المذل؟ ألستم من ينادي بالسلام مع المغتصبين اليهود ومن وراءهم؟ ألستم اليوم معه يداً بيد في محاربة ما أسميتموه بالتطرف الإسلامي؟ فكنتم حربته التي يطعن بها، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولسانه الذي ينطق به، وعقله الذي يفكر به!! أليس من يذهب اليوم إلى المستعمر لدعوته إلى بلداننا ليسلموا له مقاليد الأمور، ويطلقوا يديه في الثروات والتحكم في القرار من أجل أن يمنحهم الديمقراطيةº هم الذين يرفعون شعار التقدم والتحديث؟! أو يرفع شعار البدعة والضلالة؟! أليس العدو الحقيقي الأكبر \"للشيطان الأكبر\" واليهود المعتدونº الذي يحاربه الغرب الصهيوني باسم التطرف، وعدم القبول بالآخر هو هذا المنهج السلفي العظيم صاحب مبدأ الولاء والبراء.
هدانا الله وإياكم وإلى لقاء آخر،،
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد