بسم الله الرحمن الرحيم
اندفعت الصفوة المؤمنة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد موته لإتمام مهمته في نشر الدين بأروع الاندفاع ، وانتشروا من المدينة كما ينتشر الشعاع من الشمس يفتحون البلاد ، ويحطمون الطواغيت ، ويقودون الناس إلى الجنة .
وما لبثت الفتوح والإدارة حتى بدأت تستهلك تدريجياً تلك الصفوة المندفعة، وما أن أتت السنوات الأخيرة من القرن الأول حتى كان نوع بطر قد سرى إلى الجيل الجديد الذي خلف أولئك الأفذاذ ، فلانت له نفوس ، وشغلت عزائم وهمم كان أولى لها أن تواصل تحطيم بقية الطواغيت.
ويهيئ الله تعالى للأمة عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ ، بها حياة من روح عالية ، فيرى في مجرد ذلك القليل من البطر والقعود دلالة انحراف عن الحق ، ويستكبر أن تكون أمة الجهاد قد خف اندفاعها ، فيقول حزيناً : \" إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله ، قد فني عليه الكبير ، وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي ، وهاجر عليه الأعرابي ، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره.\"(1)
كلمة قالها رحمة الله وهو يستلم قيادة أمة تسود الأمم ، وتفيض بمعاني الخير وتحكم نفسها عموماً بشرع الله . فما الذي حمله على كل هذا الحزن العميق الواضح في هذه الكلمات !
إنه استكبار واستعظام المؤمن لصغار المعاصي ، وقليل البدع وهين الظلم وأوليات الترف ، وليس مثل نفس المؤمن في حساسيتها البالغة إزاء معاني العقل والظلم ، والاتباع والابتداع ، والبذل والدعة ، ولذلك تجده أبداً في طلب الأفضل والأكمل ، غير مستعد لأن يغض بصره أو يكف لسانه عن ميل وانحراف.
وتمضي من بعد عمر قرون وأجيال ، ينصر الإسلام في حقب منها أبطال من القادة والمسلمين وتسود الغفلة حقباً أخرى ، لنرى الأمة في يومها هذا وقد أنهكتها خطط اليهود ودول الكفر وسلبتها خيرها ، بما أضعفته من إيمانها ، وبدلته من موازينها وبما أقضته من حكم قرآنها ، وما فرضته ربت عليه فراري المسلمين من تصورات الجاهلية التي تكسبها مختلف الإناء وتلبسها متعدد الثياب.
ويقف الداعية المسلم اليوم كموقف عمر ذلك ، فيحس بأن قد وجب عليه أن يسعى لانتشال الأمة من تيهها التي تهيم فيه ، فيدرك أن لا مناص من التقدم للأخذ بقيادها وإن لبث ، ومع ما يكلفه الأمر من التعب والنصب .
ثم يقف أخرى فيجد أن الأمر كما قال عمر ـ رحمه الله ـ، قد فني عليه الكبير ، وكبر عليه الصغير ، وهاجر عليه الأعرابي.
بل أنكى من ذلك ، فإن من فتنة عصر المدنية الإلحادية الزائف هذا إن (صيده يخال نفسه حراً ، وقتيله يسمى نفسه حياً ) كما يقول إقبال (2) ، فهي ليست مسألة تسلط أئمة الضلال فحسب ، وإنما مسألة ما رافق ذلك من تربية سخرت المناهج الدراسية والجامعات والصحف والإذاعات لمسح القيم والأخلاق بل وحتى موازين المصالح المادية حتى غدا سيد المادية في فرح وسرور ، يحسب نفسه في انشقاق من أسر العقيدة .
فإن كان في قلب المرء بقية من إيمان ، وآثارة من غيره ، يأبى معها التفصيل من دينه ، صرعوه بالتزوير ، وخدعوه بالتمويه ، ويجعلونه أسير ماسة وأدباء ومستشرقين مصطنعين ، قد افتدتهم الدعاية إلى قلبه فشغفهم حباً ، فيصفون له الشيء بعد الشيء من أمر الجاهلية على أنه من الإسلام فينخدع ويعتقده.
ولا ريب أن السواد الأعظم من الذين أسرتهم الجاهلية ومفاهيمها وتصوراتها هم هذا الصنف الثاني الذي انخدع من غير ما قصد كيد ، ولا إرادة سوء . وهم أهل لان يتحملوا جمداً كبيراً في عملية إرجاع الأمة إلى إسلامها والمسير مع العاملين للإسلام ، إذا انجلى لهم أمر الذي هم فيه من الانخداع.
والصورة التي تبدأ منها هذه التجلية هي التعرف على نظرة الإسلام إلى ما ينافيه ويناقده في البناء الحالي للمجتمع ، وما طرأ عليه من الانحراف.
ويجمع ذلك أن على المسلم أن يزن ما في العالم الإسلامي اليوم من الأنظمة والمناهج والآداب والأفكار بالإسلام، ويفرق بين ما فيها مما يوافق الإسلام ، وما فيها مما يخالف الإسلام ، فما وجد من نظام أو منهج ممزوج يخلط بين الإسلام وغيره مما حرم الله نبذه وتبرأ منه ، ونبذ أصحابه وتبرأ منهم .
إن (جماع الفرقان بين الحق والباطل والهدى والظلال والرشاد والغي ، وطريق السعادة والنجاة وطريق الشقاوة والهلاك ، لم يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه ، وبه يحمل الفرقان والهدى والعلم والإيمان فيصدق بأنه حق وصدق وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه ، فإن وافقه فهو حق ، وإن خالفه فهو باطل .) (3) . وفي دعاء القنوت : (نخلع ونترك من يفجرك).
ومساهمة المسلم اليوم في التمسك في الوحي ، واستعماله ميزاناً يزن به المناهج الأرضية ، في الطريق الوحيد لإزالة الفساد والاضطراب الذي عم البلاد الإسلامية كلها ، إذ ليس هناك من فساد أعظم من وجود دعاء إلى غير طريق الله ، فإن فيها فقهاً عظيماً يوجب على المسلم أن يذر بالكلية غير الله ، إذ (رأس الإيمان هو التوحيد ، وهو : أن لا يعبد إلا الله ، ومن اتبع هواه فقد اتخذ آلهه هواه ، فهو موحد بلسانه لا بالحقيقة ، بل معنى قولك :\"لا إله إلا الله\" معنى قوله تعالى :\"قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون\". وهو أن نذر بالكلية غير الله .). كما يقول الغزالي ـ رحمه الله ـ(8) .
إنه تفسير واحد لا ثاني له : أن \"تذر بالكلية غير الله\" ، أي لا مجال لأن تخلط مع منهج الله القليل من الهوى والرأي ، وإنما هو ترك كلي شامل لغير الله.
وهذا هو المأثور من جميع علماء الإسلام ليس عندهم إلا حق واحد ، وهو الوحي ، وما عداه الهوى المذموم الذي لا يمدح شيء منه ولا يلتحق بالحق . ولا يجوز للمسلم أن يحتكم إليه أو يطمئن إليه قلبه
قال الإمام الشاطبي: ( قد جعل الله اتباع الهوى مضاداً للحق وعدّه قسيماً له ، كما في قوله تعالى : \"يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، فاحكم بين الناس بالحق ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله .\" الآية .
وقال تعالى : \"فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى\". وقال في كتابه : \"وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى.\" وقال : \" وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى\" ، فقد حصر الأمر في شيئين : الوحي ، وهو الشريعة ، والهوى ، فلا ثالث لهما ، وإذا كان كذلك فهما متضادان ، وحي تعين الحق في الوحي توجه الهوى ضده ، فاتباع الهوى مضاد للحق.
وقال تعالى : \"أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم \"، وقال :\"ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات ومن فيهن .\"، وقال : \" أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله ، واتبعوا أهواءهم\".
وتأمل ! فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه ، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال : ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه.
فهذا كله واضح في أن قصد الشارع : الخروج عن اتباع الهوى ) (9).
ويزيد ذلك وضوحاً قوله تعالى :\"ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون \" (فإما شريعة الله ، وإما أهواء الذين لا يعلمون ، وليس هنالك من فرض ثالث ، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة ، وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء فكل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون! ) .(10) .
(إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف ، وما عداها أهواء متبعها الجهل ، وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها ، ويدع الأهواء كلها وعليه أن لا ينجرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء ) .(11).
\"يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافه ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان.\"
(انه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان إما الدخول في السلم كافه وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وإما ظلال، إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق الله وإما طريق الشيطان. وإما هدى الله وإما غواية الشيطان, وبمثل هذا الحسم يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات ) (12).
(ليس هناك حل وسط ولا منهج بين بين ، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك ! إنما هناك حق وباطل ، هدى وظلال ، إسلام وجاهلية ، منهج الله أو غواية الشيطان ) (13).
نعم ، هذا التحكيم للهوى ، وهذا الاتباع لطريق الشيطان ، هو الجاهلية ، إذ (ليست الجاهلية صورة معينة محدودة كما يتصورها الطيبون الذين يرون أنها فتره تاريخية مضت إلى غير رجوع ، إنما هي جوهر معين ، يمكن أن يتخذ صوراً شتى ، بحسب البيئة والظروف والزمان والمكان ، فتتشابه كلها في أنها جاهلية ، وإن اختلفت مظاهرها كل الاختلاف.) (14) ، وأنها طابع روحي وعقلي معين . طابع يبرز بمجرد أن يسقط القيم الإسلامية للحياة البشرية . كما أرادها الله ، وتحل محلها قيم مصطنعه تستند إلى الشهوات الطارئة )(15).
وواضح أن هذا الوصف يصدق على الأوضاع والنظم والمناهج التربوية والاجتماعية التي توجه البلاد الإسلامية اليوم وتديرها. وأما من كان من أبناء المسلمين وقد غلبه الجهل والضعف وأسرته الشهوة والغفلة فنشأ على المعاصي ودرج عليها. مع اعتقاده حرمة ما يرتكبه ، وتوقيره للدين ، فهو من المسلمين العصاة الذين لم يخرجوا عن دائرة الإسلام.
قال البخاري : (المعاصي من أمر الجاهلية ، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنك امرؤ فيك جاهلية.) (16).
واستشهاده بهذا القول النبوي الشريف واضح الصواب والمخاطب به أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ.
(والداعي إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى الله \"مفسد\" ، فإن عبادة غير الله ، والدعوة إلى غيره ، والشرك به ، هو أعظم الفساد في الأرض ، بل فساد الأرض الحقيقة إنما هو الشرك بالله ومخالفة أمره) (4)
(وبالجملة : فالشرك ، والدعوة إلى غير الله ، وإقامة معبود غيره ، أو مطاع متبع غير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هو أعظم الفساد في الأرض ، ولا صلاح لها ولأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود. والدعوة له لا لغيره ، والطاعة والاتباع لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.) (5) .
وكلما خرج وراء دائرة الوحي فإنه الهوى ، وحينما كان الهوى كان الاضطراب والفساد.
وقد حذر المحدث الثقة ميمون بن مهران أن يخدعنا بريق الأسماء المغايرة ، ونطق بكلمة جامعة في هذا الشأن ، فقال : (إياكم وكل هوى يسمى بغير الإسلام) (6).
فجعل كل ما غير الإسلام هوى من الأهواء، مهما تعدد شكل هذا الغير، وأياً كان الزمن الذي يظهر فيه.
وأن رد شيء من كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجحده وإنكاره والعمل بخلافه إنما هو وقوع في الزيغ والتهلكة، كما ذكر الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ، إذ روى الفضيل بن زياد عنه أنه قال : (نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثلاثة وثلاثين موضعاً ، ثم جعل يتلو :\"فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنه \" الآية ، وجعل يكررها ويقول \" وما الفتنه : الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلكه وجعل يتلو هذه الآية : \"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم \". (7)
بل المفروض في المسلم أن يكون له تنبيه إلى هذا المعنى بمجرد نطقه بكلمة \"لا إله إلا الله ، فوصفه بأنه فيه جاهلية مع أنه كان من أجل الصحابة لما حصل منه من تعيير بلال بأنه ابن السوداء، فالمعصية الواحدة هي شعبة من الجاهلية، وكلما زادت معاصي المسلم زادت نسبة ما فيه من الجاهلية، ولكن لا ينتقل إلى الجاهلية كلية إلا بالشرك أو اعتقاد حل ما حرم الله وإنكار قطعي من الدين كوجوب الصلاة وحرمة الربا، أو الاستهزاء بالإسلام والقرآن، أو سب الله ورسوله.
وقد اتفق السلمون على أن الكفر والجاهلية درجات. قال ابن تيمية :(قال غير واحد من السلف: كفر دون كفر ، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك) (17).
وشدد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك فقال :( أيما امرئ قال لأخيه : يا كافر ، فقد باء بها أحدهما ، إن كان كما قال ، و إلا رجعت عليه.) (18) .
وفي الأصول العشرين : (لا تكفر مسلماً أقر بالشهادتين ، وعمل بمقتضاها وأدى الفرائض، برأي أو معصية، إلا إن أقر بكلمة الكفر أن أنكر معلوماً من الدين بالضرورة أو كذب صريح القرآن أو أقره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر. )(19).
__________________________________________
1- سيرة عمر لابن عبد الحكم – 37 2- كتاب محمد إقبال لعزام – 110
3- مجموع فتاوى ابن تيمية 12 -125 5،4 مجموع فتاوى ابن تيمية 15-24
6- حلية الأولياء 4-92 7- الصارم المسلول لابن تيمية – 56
8- إحياء علوم الدين 4 – 26 9- الموافقات 2 – 121
10، 11 - الظلال 25-136 12،13 – الظلال 2-142
14 – جاهلية القرن العشرين -9 15- مقدمة سيد قطب لكتاب ماذا خسر العالم 20
16- صحيح البخاري 1-15 17- صحيح مسلم 1-57
18 – الأصول العشرون للإمام البنا .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد