بسم الله الرحمن الرحيم
لكل نشاط عملي علاقة مباشرة بالطريقة الـتي يفـكـر بـهـا صـاحـبـه ، فإذا أصيب التفكير بمرض من الأمراض أو انعدم التفكير تماماً فــإن ذلك النشاط يصبح مختلاً أو مستحيلاً !!
ولقد أصيب كثير من المسلمين بمرض خطير يجـعـلهم في حيرة أمام كثير من أمور الواقع لا يقدرون على فهمها، فما هو هذا المرض؟! إنه مـــرض »الذرية« أو (الجزئية) في التفكير وهو مرض يمنع صاحبه من أن يربط بين الأحداث والـوقــائــع ، بحيث يجعلها داخلة تحت قاعدة واحدة أو يستخلص منها حقيقة كلية عامة، فالمـصـابــون بـهــذا المرض ينظرون إلى الوقائع والأحداث حولهم وكأنها ذرات متناثرة لا يربطها أي ربــاط عـضـــوي أو يجمعها سياق واحد، وبالتالي لا يستطيع هؤلاء أن يستنتجوا قانوناً عاماً يـمـكــن تطـبـيقه على كل حالة خاصة، فتكون قــراراتهم في مواجهة الأحداث قرارات عاطفية لا ترتكز على مبادئ محددة أو أصول واضحة. أصــاب هــؤلاء مرض »الذرية« لبعدهم عن عرائس الحكمة ولباب الأصول التي دونها علماء الأمة في كـتـبـهــم، والـتي تـوصـلــوا إليها باتخاذهم القرآن أنيساً وجليساً على مر الأيام والأعوام نظراً وعملاً، وباستعانتهم عـلـى ذلك بــالاطلاع والاحاطة بكتب السنة ومعانيها، وبالنظر في آراء السلف المتقدمين والالتزام بما كــان عـلـيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. تلك الأصول التي تربى من يقرؤها على طريقة التفكير العـضـوية -أو الكلية - التي تجمع بين الوقائع في تسلسل وسياق واحد يمكنها من اسـتـنـبـــاط بالقانون العام - أو المقياس - الذي تقيس به الحواث الجزئية. فالإمام الشاطبي -رحمه الله- يقول : »الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد ، حتى أفادت فيه القطع ، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق ، ولأجله أفاد التواتر القطع - وهذا نوع منه - ، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب - وهو شبيه بالتواتر المعنوي - بل هو كالعلم بشجاعة عليّ -رضي الله عنه- ، وجود حاتم الطائي المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما« (1). فهو -رحمه الله- يعرض كيفية اقتناص الـقـطـع من جملة أدلة ظنية، فلم يفتقر في الحكم بشجاعة عليّ -رضي الله عنه- إلى دليل خــــاص يـقول بأن عليّ شجاع.. ولكن باستقراء حوادث كثيرة تتحدث عن مواقف شجاعة لعلي -رضي الله عنه-. »فالعموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغة عموم فقط، بل له طريقة أخرى، وهي استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام ، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ«(2). فالشاطبي -رحمه الله- يصف هنا طريق الوصول إلى الأمر الكلي العام.. إلى الـقـاعـدة.. إلى المقياس.. عن طريق تصفح جزئيات المعنى. ومن وصل إلى القاعدة الكلية استطاع أن ينّزل على مقتضاها كل الجزئيات التي قد تخالف بظاهرها هذه القاعدة.. يقول الشاطبي -رحمه الله- : »وهذا الوضع كثير الفائدة عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضها الجزئيات وقضايا الأعيان ، فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي ، في حمله على وجوه كثيرة«(3). وإذن فلا يكفي النظر في الأدلة الجزئية دون النظر إلى كليات الشريعة، وإلا تضاربت الجزئيات وعارض بعضها بعضاً في ظاهر الأمر. ولقد عالج ابن تيمية -رحمه الله- مرض الذرية في التفكير بما سطره في كتابه القيم: (اقـتـضـــاء الصراط المستقيم) ، فروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم : ألـم يـقـل الله كذا وكذا (4)؟ فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان ، فقال : »أبهذا أمرتم؟ أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم من قبلكم بمثل هذا، إنكم لستم مما هـاهــنــا في شـيء، انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا ، والذي نهيتكم عنه فانتهوا«.. يقول ابن تيـمـيــة -رحمه الله- : »وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه« ا هـ. فـالـجـمـع بـيـن أطــراف الأدلة وعدم النظر إليها نظرة جزئية ذرية هو طريقة أهل السنة والجماعة ، وكم من ساعات تمر بسبب نقاش بين طرفين من الناس لو كان عندهم وضوح في فهم المسألة المتنازع فيها وجمعوا أطرافها وجزئياتها فربما لم يكن للنقاش مبرر. وما نقلناه عن عالمين من علماء الأمة ، وإن كان يعالج مرض الذرية، في جانبه النظري إلا أن الـعـلـــــم - كما يقول الشاطبي - إنما يراد لتقع الأعمال في الواقع على وفقه من غير تخلف ، سواء كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح (5). فكل علم لا يفيد عملاً فليس في الشرع ما يدل على استحسانه (6). وختاماً نرى أن مبادئ الإسلام هي الحصن الذي ستفشل تحت أسواره جميع المحاولات التي تستهدف سلب المسلم شخصيته وهويته ، فعلينا العودة إلى الأصول والمنابع التي منها نبع ديننا. ولنجعل لكتب الأصول مكاناً في قراءات كل منا ، فنحن نجد فيها »الإبرة المغناطيسية« التي تساعدنا للوصول إلى فهم قضايانا المعاصرة، وتخلصنا من الخضوع في حركتنا لأخصائيين يشرفون عليها ، كما لو كانوا يمارسون لوناً من »لعبة الأمم المكيافيلية«، وتخلصنا قبل ذلك كله من الكساح العقلي ومن الذرية في التفكير. الهوامش : 1 - الموافقات 1 / 13 - 15. 2 - الموافقات 3 / 188. 3 - الموافقات 3 / 167. 4 - ينظرون في القرآن نظرة جزئية ذرية. 5 - الموافقات 1/99. 6 - الموافقات 1 / 61.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد