إشكالية النموذج ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إنَّ الأفكار العظيمة لا تنجح وتثمر إلا إذا تمثَّلت في عالم الناس من خلال رمز - أو رموز - يتحرك بين الناس، مطبقاً هذه الأفكار.

ولا بد أن يكون هذا الرمز صالحاً للاقتداء به، فهو وإن كان لا بد أن يكون مثالاً عالياً في القمّةِ من الكمال البشري، يجب ألا يكون خارجاً عن إطار البشرية، إلا ما يكون من معجزات يجريها الله - سبحانه - على أيدي رسله لتكون حجَّة على الخلق.

ولقد شكَّلت هذه المعادلة أصلاً من أصول ظاهرة النبوة.

فالنبوَّة وإن كانت ربّانية المصدر، ربّانية المنهج، إنَّها لتؤكّد أنَّ حركة النبي في الحياة حركةٌ متفقة ومنسجمة مع طبيعة البشر.

إن هذه المعادلة من أهمِّ عوامل منطقيةِ ظاهرةِ النبوة، فالنبي من حيث هو نموذج لابد أن يستوفيَ الشرطين اللذين أشرنا إليهما آنفاً، وإلا لما صلح أن يكون قدوة، وإذن لانهدم أصل النبوة، ولفقدت مسوِّغَ وجودها في عالم النّاس!

 

والنصوص التي عالجت هذه القضية، ووضعتها في نقطة الوسط، وعند حدِّ التوازن كثيرة، خاصَّة في حوار الأنبياء مع أقوامهم. وقد عالجت هذه النصوصُ القضيةَ من زاويتين:

الأولى: تأكيد بشرية الرسول أمام من رفضوا أن يكون من يقوم بهذه المهمة العظيمة بشراً! إنهم يستكثرون على بشر أن يحمل أعباء هذه الوظيفة العظيمة: {أكان للنَّاسِ عَجَباً أن أَوحَينا إلى رَجُلٍ, منهُم أَن أَنذِرِ النَّاسَ} (يونس: 2). وقد صدَّتهم هذه الشٌّبهة عن الإيمان وحالت بينهم وبينه: {وما مَنَعَ الناسَ أن يُؤمِنوا إذ جاءهُمُ الهُدى إلا أن قالوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً} (الإسراء: 94).

إنهم يرَون، بحسب تفكيرهم المحدود، أنَّ مصدرَ الرسالة يقتضي أن يُبلِّغها ويتمثَّلها جنسٌ راقٍ, من المخلوقات لا يَحملُ ضعفَ البشر. وقد ردَّ اللهُ عليهم بقوله: {وما قدَروا اللهَ حقَّ قَدرِهِ إذ قالوا ما أَنزَلَ اللهُ على بَشَرٍ, مِن شَيءٍ,..} (الأنعام: 91).إنَّ من يُبعِدُ أن يكون الرسولُ من البشر لم يُعظِّم اللهَ حقَّ التعظيم، إذ قدح في حكمته، وزعم أنَّ البشر لا يَصلحون لتبليغ رسالته، والله يعلم أنهم الأصلحُ لتبليغها ليتحقَّق النموذجُ والقدوة، ولِتتمَّ غايةُ بعثة الرسل.

 

وكلما كان الأقوام يَستنكِرون بشريَّةَ الرٌّسل، كان الرّسل يردّون عليهم بتأكيد بشريتهم: {... قالوا إن أنتُم إلا بَشَرٌ مِثلُنا تُريدونَ أن تَصُدٌّونا عمَّا كان يَعبُدُ آباؤنا فَأتُونا بسُلطان مُبين. قالت لَهُم رُسُلُهُم إن نحنُ إلا بَشَرٌ مِثلُكُم... } (إبراهيم: 10، 11).

لقد ردَّ القُرآن طلبهم قائلاً: {قُل لَو كانَ في الأَرضِ مَلائِكَةٌ يَمشُونَ مُطمَئِنِّينَ لنزَّلنا عَلَيهِم مَلَكًا رَسُولاً} (الإسراء: 95).

هم يريدون توعِير \" النموذج القدوة\"، ليضربوا بذلك أصل الرسالة، فلو أرسله ملكاً لقالوا: هو مَلكٌ ولا قدرةَ لنا على الاقتداء به! وإذ كان بشراً قالوا: إنَّه بشرٌ وكيف يُرسِل اللهُ لحمل رسالته وتحقيقها في الأرض من تَكدَّر بنقص البشر؟! والآيات كثيرةٌ ولا مجال لسردها جميعاً، لكنَّها كلَّها تؤكد وجوبَ بشريةِ الرسول لأنَّها من حكمة الله - عز وجل -، لتحقيق غاية الرسالة من خلال \"الرمز الإنسان\"، الذي يستطيع كلٌّ الناس أن يُقلِّدوه، وأن يهتدوا بهداه.

 

أما الأخرى: فهي تخصٌّ من آمنَ بالرسول، ولم يستكثر أن يكونَ بشراً من حيثُ المبدأ، كما كان مَنطقُ خصومِ الرسالة.

لكنَّ المشكلة هنا في أنَّ هذا المؤمنَ قد تختلٌّ لديه موازينُ الاقتداء، مما يُشوِّش عنده صورة \"النموذج\"، فيحار كيف يتعامل معه.

ولتحصين هؤلاء من الوقوع في هذا الخطأ، جاءت النٌّصوص الكثيرة التي تؤكد أولاً بَشريَّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والتحذير من وضعه فوق مكانةِ البشر.

 

ولتؤكِّد ثانياً أنَّ الأصل في كلِّ ما يصدر عنه - صلى الله عليه وسلم -، وفي كلِّ خِطاب وُجِّه إليه العموم، فهو تشريع لكل المسلمين، ولذلك فإن كل ما صدر عنه صلى لله عليه وسلم لا يخرج عن وُسع الجميع من حيثُ القدرةُ الأصلية، نعم هو بلا شكٍّ, صعب، لكنَّه ليس مستحيلاً.

والأحاديثُ التي تَنهى عن إطراء الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، وعن كلِّ ما يَدور في هذا الإطار عديدة، ولست أرى أن سببَ هذه الكثرة والتشديد في النهي الحذرُ من الوقوع في الشِّرك وحسب، مع أهميَّته وخُطورته، ودخوله في النهي من باب الأولية، ولكنني أرى علَّة أخرى لا تقلٌّ عن ذاك أهميَّة، قلَّ من نبَّه عليها، وهي المحافظةُ على النموذج من أن يدخل عليه ما يَقدح في صلاحيَّته للاقتداء.

 

وسأكتفي بمثالٍ, واحد يبيِّن المقصود، ويدلِّل عليه:

ما الذي أغضبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟

لعل أغلبَ القُراء يعرفون حديثَ النفر الثلاثة الذين تقالٌّوا عبادةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي وجدوها قليلةً، بعد أن أُخبروا عنها! وكيف أنَّ كلَّ واحدٍ, منهم قرَّر أن يقوم بما يظنٌّه قربةً إلى الله! وكيف أنَّه - صلى الله عليه وسلم - غضبَ عندما سمعَ ما حدث، وجمع الناسَ وأخبرهم الخبرَ، وصوَّب لهم التصوٌّر، وختم قائلاً - عليه الصلاة والسلام -: \"فمَن رَغِب عَن سُنَّتي فليسَ مِنِّي\". (البخاري: ح 5063).

 

كنتُ أقفُ كثيراً عند هذا الحديث، وأعجَبُ من ردَّة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الغاضبة، ودعوته الناس للاجتماع، وإلقائه خطبة فيها بيانٌ واضحٌ هامُّ! فلمَ كان هذا الغضب؟!

ولئلا أطيلَ في مناقشة الإجابات أكتفي بما أراه السببَ الرئيس في غضبه - صلى الله عليه وسلم -.

 

إنَّ الذي أغضبه - صلى الله عليه وسلم - هو تعدِّيهم على فكرة النموذج، فقد قالوا: \"وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟!، قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر\".

قد يقرِّر أحد الناس ألا يتزوَّج، وقد يقرِّر آخر بأن يكثرَ من الصوم، وقد يقرِّر ثالث أن يقوم الليل كلَّه، وقد يسمع عنهم - صلى الله عليه وسلم - فيدعوهم وينبِّههم على أنَّ ما قرَّروه مخالفٌ لهديه، وأنهم بهذا يشقٌّون على أنفسهم،... قد يفعل كلَّ هذا، وينهى بحزم، وينتهي الأمر.

لكن هنا يوجد تصريح خطير، لعله هو ما أغضب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، لقد قالوا: إنه - صلى الله عليه وسلم - يختلفُ عن الناس، فهو قد غُفرت ذنوبه، وهذا صحيح، لكنه قد يهدم - في رأيي - كلَّ ما بناه صلوات ربي وسلامه عليه، فإذا كان قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فمعنى هذا عدم صلاحيته ليكون نموذجاً لنا، وهي قضية حَرَصَ - صلى الله عليه وسلم - على تأكيدها طَوال مدة نبوَّته، فهل يرضى أن يأتيَ بعد كل هذا الجهد من ينقُضُها له؟!

 

ولذلك لاحِظوا ما قاله - صلى الله عليه وسلم -: \" والله إني لأخشاكُم لله وأتقاكُم له... \" لقد ردَّهم إلى القاعدة، وهي أنَّ حركتَه - صلى الله عليه وسلم - داخل إطار البشريَّة، فسلوكُه منبثقٌ من الخشية والتقوى، يعني أنَّه في الدائرة وليس بخارج منها!

وقد نبَّه مرةً من قال له: أليس غُفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟!.. فقال: \"أفلا أكونُ عبداً شكوراً؟! \" (البخاري: 4837). يعني أنه إن لم يكن في دائرة الواجب، فهو في دائرة الشٌّكر، وكلاهما مرتبتان لا تَخرُجان عن صلاحية \"النموذج\".

 

إنها بحق قضيةٌ خطيرة، وأيٌّ خطأ فيها قد يؤدِّي إلى انحراف هائل في حمل الدين، والدعوة إليه، وتمثٌّل مفاهيمه.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply