إشكالية النموذج (1)


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

\"قُل سُبحانَ ربِّي هَل كُنتُ إلا بَشَراً رسُولاً؟ \"

بكلِّ حرارةٍ, وانفعال، قال الشيخُ الداعيةُ المشهور، صاحبُ الجمهور العريض: \"...وكان الإمامُ أحمدُ - رحمه الله - يقومُ في الليلة مئتي ركعة\"!! استوقفتني هذه العبارةُ وقلتُ في نفسي: قطعاً يريدُ الشيخُ رفعَ معنوياتِ المشاهدين، وشحذَ إيمانهم، من خلال سَوق مثل هذا السلوك عن الإمام أحمد - رحمه الله -.فنيةُ الشيخ حسنةٌ بإذن الله - تعالى -، لا شكَّ عندي في ذلك، بل لا علاقة لي بنيته، فكم من مُريدٍ, للخير لا يُصيبه! وعلى كلِّ حال فالشيخُ لا يُغرِّدُ خارجَ السِّرب، بل هو نَغمةٌ من لحنٍ, ضاربٍ, في الزمـن، مُمتدٍ, إلى يوم الناس هذا. ومن يقرأ في كتب التراجم، وكتب الرقاق والمواعظ القديمة، ويستمع لكثيرٍ, من المحاضرات، والدروس الحديثة، يجد عجباً في خطاب الدعاة والمشايخ والكتاب! وفي هذه المقالة لا أريد أن أشير إلى كل ذاك العجب، بل سأكتفي \"بإشكالية النموذج\" الذي يَرِد في كلامهم ومواعظهم ومحاضراتهم، فهم - رحمهم الله - جميعاً - الغائب منهم والحاضر - من باب حبهم لمن سلف من العلماء والصالحين أولاً، ورغبةً في حَفز الهِمم للطاعة والخشوع ثانياً، يسوقون كلَّ ما يقع تحت أيديهم دون تمييز بين الثابت وغيره! أو بين ما تحتمله الطاقةُ البشرية وما لا تحتمله! أو بين ما يقبله المنطق وما لا يقبله!..

فالإمام أبو حنيفة - رحمه الله - صلَّى الفجرَ بوُضوء العشاء أربعين سنة! ويُروى مثله عن غيره كذلك! فهل يُعقل أنَّ أبا حنيفة أو غيرَه استمر على هذا طوال هذه المدة، أو حتى أغلبها؟! تُرى، ألم تخذله بطنُه ليلةً ما؟!

والإمام أحمدُ - رحمه الله - وكثيرٌ مثلُه كانوا يقومون الليل بمئتي ركعة!! هذا إضافةً لانكبابهم على العلم، وتدريسهم طلبةَ العلم، وغير ذلك من الواجبات! وقد حَسبتُها فلم ينفعهم الحساب، فَضممتُها إلى الغُول والعنقاء والخِلِّ الوفيِّ!

 

وقد يتعدَّى النقلُ هذه الأمورَ فيقول لـك المالكيةُ - مثلاً - إنَّ إمامَنا بقي في بطن أمِّه ثلاثَ سنوات!!! وكأنَّه يُريد أن تفهم أنَّ مالكاً - رحمه الله - نزلَ من بطن أمِّه ناضجاً عالماً، خارقاً لعادة البشر حتى قبل أن يُولد!! وغير هذا وذاك كثير من اللامعقول! والسؤال الذي يفرِضُ نفسه: هل يؤدي هذا الخطابُ هدفَه في التنشيط والتحفيز وبعث الهمم فعلاً؟! أم يفعل في النفس عكسَ ما أُريد منه؟! ألا يُصاب المستمعُ بالإحباط عندما تُعرض عليه هذه النماذجُ التي لم تكن ولا يمكن تقليدها؟! والحقيقة أنَّ الخطاب يأخذُ شكلَ الأزمةِ عندما يُعرَضُ النموذج لا على أنَّه حالةٌ أو عدةُ حالاتٍ, فريدة، لكنَّه يُعرَضُ على أنَّه ظاهرةٌ عامةٌ! فيقول لك: كان الصحابةُ، كان السلف.... فتتخيلُ أنَّ الحديث عن قوم ليسوا كالبشر، وأنَّهم جيلٌ لا يُمكن أن يتكرر، وأنَّ هذا الدين إنَّما جاء لظرفٍ, استثنائي زمناً، ومكاناً، وشُخوصاً، وأنَّنا في الظرف الحالي \"بشرٌ شيطانيُّ\" شُكراً لنا إن صلَّينا الخَمسَ وصُمنا الشهر!

 

لقد لبثتُ حِيناً من الدهر، نتيجةً لمثل هذا الخطاب، وأنا أعتقدُ أنَّ الصحابة في المدينة المنورة صلاةُ ربي وسلامُه على من ضمَّتهُ تُربتُها، لا عمل لهم إلا التحلٌّق حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُحدِّثهم ويستمعون، ثم يدعو داعي الجهاد أن هيَّا إلى غزوة كذا فيَهبٌّون مُلبِّين، ثمَّ يعودون غانمين سالمين، فيوزع عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الغنائم، فيذهبون إلى بيوتهم فيقومون الليل، ثمَّ يأتون إلى الفجر، وهكذا تمضي بهم الحياةُ! لاحظ أنَّ التعبير دائماً بصيغة الجمع!!

ويتخيَّلُ المسلم، نتيجةً لهذا الخطاب، أنَّ مجتمع المدينة كان مجتمعاًَ جاداً، مُقطِّباً، طحنَ خوفُ النارِ قلوبَ أفرادِه، فلا يضحكون ولا يمزحون! وإذا تكلم الواحدُ منهم فإنَّه يتكلم بِمسكنةٍ, وانكسار، تكاد العَبرَةُ تخنق عِبارَتَه! والمجتمعُ المدنيٌّ في نظر هذا الخطاب لا مشاكل فيه، ولا معاصيَ، ولا خصومات!

 إنَّهم لا يتحدثون عن بشر، هكذا تظهر الصورة، وهكذا يستقبلها المستمع، بل عن ملائكة فهيهات هيهات أن نكون مثلهم!

ومن يشتغل في الدعوة إلى الله، ويعاني نصح الناس يدرك ما فعل هذا الخطابُ في المسلمين، فلم نعد نعجبُ إذا نَصحنا أحدَهم مُستـندين إلى سلوك الصحابة - رضي الله عنهم - أن نسمع منه: أتُشبهنا بهم؟! إنَّهم الصحابة!! ويُكمل: لقد اختلفت الدنيا، فهناك العمل، وهناك العلاقات المُعقدة، وهناك، وهناك مِمَّا لم يكن في زمانهم!!

 

أمَّا عن: كان السلف! فحدِّث ولا حرج، من التعميم، والمثالية غير الواقعية، والانتقائية التي تُكبِّر نقطةً بيضاء لتملأ بها المشهد! إنَّ هذا الخطابَ يختـزلُ تاريخاً كاملاً، وحياةً بشريةً مُتـنوعةً في: (كان السلف الصالح)، كلٌّ ذلك من خلال مثال - سنفترضُ صحته - واحد! واستمع معي لتعليقٍ, على قصة المأمون مع خادِمه، وكيف أنَّه سامحَهُ، وأعتـقَهُ، وأحسنَ إليه بعد أن أخطأ الخادمُ في عملٍ, ما. يقول المُعلِّق: هذا هو تاريخُنا وهذه هي مآثِرُنا، وهذه هي أخلاقُ سلفِنا، فلتسمع الدنيا... \"لكنَّه لم يقل لنا أنَّ المأمونَ نفسَه قتل أخاه الأمين من أجل الحُكم، لم يقل لنا هذه القصة، وتركنا نتقلبُ على فراش الرضا ليفاجئنا مُستشرِقٌ أو عَلمانيُّ من بعدُ بقصته مع أخيه فتغصٌّ الكلماتُ في حلوقنا، وتخنقنا الحقيقةُ، فينتكسُ منا من ينتكس، ويهربُ بعضنا إلى ليتَ ولعلَّ...، ولقد رأيتُ من هؤلاء وأولئك الكثير.. ويُثبِّتُ اللهُ من يَركَنُ إلى التوازن، ويُرجِعُ المواعظَ إلى الأُصول.

أمَّا عمَّا ينبغي فلنا لقاءٌ وتتمَّةٌ...

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply