الاعتصام بحبل الله


بسم الله الرحمن الرحيم

 

يجبُ على المسلمِ أن يعتصم بحبل الله، فيتمسكُ بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في العلم وفي العمل، وفي الحكم بين الناس، قال تعالى:((إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤَدٌّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)) (النساء: 58).

وقال تعالى: ((وَإِذَا قُلتُم فَاعدِلُوا)) (الأنعام: من الآية152).

فالواجب على المسلم أن يعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعدل في حكمه وفي قوله، فلا يتعصبُ لرأيهِ الشخصي، لا يتعصبُ لرأي إمامٍ, ينتسبُ إليه، ولا يتعصبُ لرأي أحدٍ, من الناس كائناً من كان، بل عليه أن يعرضَ ما يبدو لهُ من آراء وما يردُ عليه من آراءٍ, وأقوال الناس، يُعرضُ ذلك على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تطبيقٌ لقوله سبحانه: ((يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ, فَرُدٌّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأوِيلاً)) (النساء: 59).

 إذا فيجبُ على المختلفين أنفسهم أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الردَّ إلى كتاب الله: هو الردٌّ إلى القرآن، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون إليه في حياته، وإلى سنته صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته.

وكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قائمان إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى، وهما حجة الله على عباده، يجب الرجوع إليهما عند التنازع، قال الله تعالى: ((وَمَا اختَلَفتُم فِيهِ مِن شَيءٍ, فَحُكمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنِيبُ)) (الشورى: 10).

وهذا إنما يقدر عليه من له بصر بالكتاب والسنة وعلم بنصوصهما، وفهمٌ لدلالتهما ومن لو يتوفر له ذلك فعليه أن يرجع إلى من يثق بعلمه ودينه، فيقتدي به ويهتدي ببيانه، قال الله تعالى: ((وَمَا أَرسَلنَا قَبلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيهِم فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ)) (الأنبياء: 7).

إذن الخلاف الذي بين أهل السنة والجماعة وغيرهم يجبُ أن يعلم المسلم أنَّ الحق بيّن، فالحق هو ما درج عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهذه الفرق المخالفة معها حق وباطل، فالواجب نحوها قبول ما معها من الحق ورد ما معها من الباطل، وقد أوضح ذلك العلماء، وهذا من تحقيق العدل والإنصاف أن تعترف لخصمك بما معه من الحق، وأن ترد ما معه من الباطل، فتنصفه حينئذ وألا تظلمه، ولا تحملهُ ما لا يستحق من الذم والبغض فضلاً عن العقاب، فإنَّ العدل واجب في كل الأحوال، فيجب العدل في الحكم بين المسلم والكافر، وبين السني والمبتدع، وبين المطيع والعاصي، بقبول الحق ممن أتى به إذا قامت براهينه واتضحت معالمه.

وكما ذكرت أن كل ما خالفت فيه فرق الأهواء أهل السنة والجماعة فقد عُلِم أنه باطل، فإنَّ هذه الفرق توافق أهل السنة في أشياء، فما وافقت فيه أهل السنة فهو حق مقبول، وما خالفت فيه أهل السنة فهو مردود.

أما الخلاف الذي يكون بين أهل السنة في المسائل العملية فهو جار على ما ذكرت. إما أن يكون اختلاف تنوع. أو اختلاف تضاد،

وفي هذه الحال: إما أن يكون المصيب معلوماً لقيام الدليل على صحة قوله.

وإما أن لا يتوفر ذلك، وإذا كان هذا الاختلاف من النوع الذي يتبينُ فيه صواب أحد الفريقين فإنَّ هذا هو الذي يقولُ فيه أهل العلم: إنَّهُ لا إنكار في مسائل الخلاف، فإنَّ من الخلاف ما يتبينُ فيه خطأ أحد القولين وصواب الآخر، وحينئذٍ, ينكرُ الخطأ المخالف للدليل ويرد على صاحبه، وإن كان هو في نفسهِ معذوراً لأن المخالف للدليل والمخالف للحق من المجتهدين، قد يكون له عذر، بل هناك أعذار بيّنها أهل العلم كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه – في رسالته المشهورة: رفع الملام عن الأئمة الأعلام \" ذكر أنَّ الإمام قد يخالفُ الدليل إما لكونه لم يبلغه أصلاً.

أو بلغه ولكن لم يثبت عنده، لأنَّه وصل إليه من طريقٍ, ضعيف.

أو ظن معارضة دليل له، ظنهُ ناسخاً له مثلاً، فيكون معذوراً لما عرض له من هذه الأعذار [1]

فواجب المسلم أن يكون دائراً مع الحق، طالباً للحق، متحرياً للحق، متبعاً للهدى لا للهوى، لا يتعصب لفلان ولا فلان، وإنما يؤتي المختلفون من أهل السنة مثلاً من تعصب بعضهم كما يجري بين المنتسبين للمذاهب الأربعة، لا ضير في الانتساب إلى الأئمة والاقتداء بهم والاستنارة بأقوالهم والاستفادة من فهو مهم، ولا بأس في ذلك بل هذا هو الذي ينبغي أن يستفيد اللاحق من السابق في فهمه ومن بيانه ولكن المذموم أن يتعصب التابع للمتبوع، وأن يقلد القادر على الاستدلال، فيأخذ بقول العالم من غير أن يعرف حجته، مع قدرته على معرفة الدليل.

فالواجب هو إتباع الدليل، واحترام العلماء.

والناس في العلماء ثلاثة أقسام:

* القسم الأول: فريق يستخفُ بالعلماء ولا يعرف لهم قدرتهم، ولا ينتفعُ بأقوالهم، ولا يستنيرُ بأفهامهم وبيانهم، بل هو مغرورٌ بنفسه كما حصل ويحصل من بعض المنتسبين لطلب العلم، والمنتسبين مثلاً للأخذ بالدليل، وهذا تفريط منهم وإفراط.

* القسم الثاني: فريق يغلو في العلماء، فكل جماعة تتخذ لها إماماً لا تعرف إلاَّ أقواله، ولا تعتد بأقوال سواه، ولا تنظرُ في كتابٍ, ولا سنة، وهذا إفراطٌ في تعظيم العلماء وتفريط فيما يجب من الاعتصام بالكتاب والسنة.

* القسم الثالث: فريق توسطوا فجعلوا الحَكَم هو الكتاب والسنة وجعلوا التحاكم إليهما وآمنوا بأن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أرشد إلى ذلك الأئمة أنفسهم، فابن عباس – رضي الله عنهما – ينكر على الذين يتعصبون لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر [2].

فكيف بمن عارض كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بقول من دون أبي بكر وعمر بكثير كثير.

فالواجب المسلم أن لا يدين بالإتباع المطلق والطاعة المطلقة إلاَّ للرسول صلى الله عليه وسلم لكن مع معرفة أقدار الصحابة وأقدار العلماء، وإنزال كل منزلته، مع معرفة الإنسان لقدره، وقد قيل: ((رحم الله امرأً عرف قدر نفسه)).

فأوصيكم أيها الإخوة:

بأن تلتزموا في هذا الخضم من الاختلافات والآراء بهذا المبدأ، أو هذا الأصل الذي هو الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو يتضمن أن يلزم الإنسان العلم والعدل، فيتقي ربه في علمه وفي عمله، وفي حكمه.

هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سواءَ السبيل، وأن يجنبنا دروب الضلال، وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.

 

----------------------------------------------------------

 [1]قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في \" رفع الملام \" (مجموع الفتاوى 20/231) وجميع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، والثالث اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع على أسباب متعددة: السبب الأول أن لا يكون الحديث قد بلغه، والسب الثاني أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده، السبب الرابع اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه فيها غيره، السبب الخامس: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه، وهنا يرد في الكتاب والسنة، السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث، السبب السابع: اعتقاده أن لا دلالة في الحديث والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، والثاني عرف جهة الدلالة لكن اعتقد أنها ليست صحيحة، السبب الثامن: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل عل أنها ليست مراده، السبب التاسع: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله إن كان قابلاً للتأويل بما يصلح أن يكون معارضاً بالاتفاق، السبب العاشر: معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارضاً أو لا يكون في الحقيقة معارضاً راجحاً، فهذه الأسباب العشرة ظاهرة وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها، فإن مدارك العلم واسعة ولم نطلع نحن جميع ما في بواطن العلماء..... انتهى مختصراً.

[2] روى معناه أحمد (1/337) والخطيب في الفقيه والمتفقه (ص 144) وابن عبد البر في بيان العلم وفضله (ص 570) من طريق شريك عن الأعمش عن الفضيل بن عمرو قال: أُراه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس ما يقول عروة؟ قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة، فقال ابن عباس أراهم سيهلكون أقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول نهى أبو بكر وعمر. أ. هـ وفي سنده شريك من عبد الله القاضي وفيه ضعف يسير.

وللأثر سندُ آخر رواه إسحاق بن رهويه في مسنده (كما في المطالب العالية) 1/360 رقم 1214) ورواه ابن عبد البر في (بيان العلم) تعليقاً (570) ورواه الخطيب في الفقيه (1/145) وأبو مسلم الكجي (ذكره ابن القيم في الزاد 2/206) من طريق أيوب عن ابن أبي مليكه عن عروة – به – قال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح. وقد روى هذا الأثر معمر عن أيوب فأسقط ابن أبي مليكه، لكنّ الصواب ذكر ابن أبي مليكه كذا ر واه حماد بن زيد عن أيوب. والله أعلم. وأما اللفظ المذكور: وهو يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء... فلم أجده لكن ذكره ابن القيم ولم يعزه لأحد كما في الزاد 2/195.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply