بسم الله الرحمن الرحيم
\"... إنَّ المشكلة لم تكن في الانبهار والتأثر بالغرب فحسب، كما هو حال أكثر المثقفين العرب، وإنما المشكلة والعميقة أن يُمَارَس تجديدُ الدين من خلال هذه النفسية المستلَبة والمنهزمة تجاه الغرب. ... \"
في خضم الجدال الواسع في الساحة الثقافيةº حول قضية (تجديد الخطاب الديني)، نجد بين الحين والآخر من يحاول أن يفسَّر الإسلام تفسيراً بعيداً عن المنهج العلمي المبنيِّ على إجماع السلف وأصول الاستنباط وشروط الاجتهاد ومراعاة وحدة الأدلة الشرعية والمقاصد الكلية في الإسلام.
وإنما يحاول أن يبني قراءته من خلال منهجٍ, عقليّ مجرَّدٍ, عن الوحي، أو من خلال ذهنيةٍ, منهزمة أمام ما أنتجته الثقافة الغربية، أو بناءً على قناعةٍ, فكريِّة غالباً ما تكون من مخلَّفاتِ الاستشراقº مما يجعله يتخبَّط تخبٌّطاً واضحاً وينحَرفُ انحرافاً شديداً في فهم الإسلام.
ولا شكَّ أنَّ هذا المنهج غير العلميِّ (المنحرف) في فهم الإسلام، كان له أثرٌ سلبيُّ في محاولة تجديد الخطاب الدينيِّ المعاصر، وإحياءِه وبعثِه في الأمة، حتى أصبح مصطلح (التجديد) مرادفاً لمصطلح (التبديل) و (التحريف)º نتيجةً لتلك الاتجاهات الفكرية المنحرفة التي قامت عليها عملية التجديد.
والمتأمل في حركة التجديد منذ بداية الفكر الإسلامي المعاصر(1)º يجد أنها انطلقت بعد صدمة حضارية أُصيبَ بها العقل المسلم في بداية القرن الماضي نتيجةً للانبهار لما وصل إليه الغرب من التقدم العلميِّ والصناعيِّ والعسكريِّ مقارنةً لما وصلت إليه الأمة من حالة الجمود والضعف والتخلف.
وهنا تكمن المشكلة! أي: عندما يكون التجديد ردّةَ فعلٍ, لما وصل إليه الغرب.
وذلك لأن الذي يقوم بعملية التجديد في حالةٍ, كهذه سيكون مستلَباً مِن قِبَل الغرب (المتحضِّر!)، ويكون هو المعيار الوحيد في تحديد مفهوم التقدم، ويكون هو المسيطر عليه في فهم الحضارة، وهذه هي الحالة التي اصطلح عليها ابنُ خَلدون في نظريته الشهيرة، بـ (تقليد الغالب للمغلوب)، حينما قال: \"إن المغلوب مولعٌ أبداً بالإقتداء بالغالب في شعاره وزِيِّه وسائر أحوله وعوائده، والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه\" (2).
ولا شك أن هذا الاعتقاد بالكمال في حضارة الغالب نجده واضحاً في كثيرٍ, من أدبيات المثقفين العرب، منذ بداية هذا القرن الماضي، الذين دائماً ما يبشِّرون بالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوربا، وبالمناهج الوضعية الغربية في العلوم والآداب والفلسفة دون وعي أو معيار ديني. ففي بداية القرن الماضي كان يقول (طه حسين): \"إنَّ سبيل النهضة واضحةٌ مستقيمةٌ ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوربيين ونسلك طريقهم لنكون للهدم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرِها وشرِّها، حُلوِها ومُرِّها، وما يُحَبّ منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب\" (3). وهذا النص واضح لا تأويل فيه: (شرها) و (مرها) و (ما يكره) و (ما يعاب) هو سبيل النهضة كما يراه (أستاذ الجيل!).
وهذه العقدة ما زالت منتشرة في الوقت الحاضر بين كثير من المثقفين العرب الذين يريدون أن يمارسوا عملية (التجديد) من خلال هذه النفسية المريضة بـ (الغرب!)، والدكتور نصر أبو زيد (المحكوم عليه بالردة في مصر) يصلح أن يكون أنموذجاً على ذلك، فهو يؤكد بوضوح أنه لا يجوز الاكتفاء بنقل (المشترك الإنساني العام) من الحضارة لدى الغرب، كالآلة والتقنية والعلوم التجريبية ونحو ذلك، وإنما لابدَّ من أن نقوم بنقل العقلية الغربية قبل ذلك، وأن نتوسل إلى ثقافتهم. يقول في كتابه (الخطاب والتأويل): \"لقد تم تطبيق منهج الاستيراد خلال عقود طويلة، ولم ينجح لا في تأسيس مجتمع علمي، ولا في خلق مناخ للتفكير العلمي، والعلة في تقديري أننا نظرنا إلى تفوق الغرب بوصفه تفوقاً في العلم والتكنولوجيا وحدهما، دون مجال الفكر والفلسفة والثقافة والفنون، أي دون مجال النشاط الروحي!!... إن الإنسان المنتج للعلم والتكنولوجيا هو الإنسان الذي تمَّ تكوينه معرفياً منذ الطفولة بتدريبه على أهمية إثارة الأسئلة، وتقليب الاحتمالات الممكنة، والاستعداد للتخلي عن قناعته إذا ثبت له عدم دقتها، والأهم من ذلك كله عدم قبول الرأي الشائع دون فحصٍ, ونقد، إنه منهج الشك والمراجعة!! وإعادة النظر، لا منهج الإيمان الأعمى واليقين الزائف والطـاعة والتقليـد!! \" (4).
هذه هي أزمة هؤلاء المثقفين العرب في علاقتهم مع الغرب، فحتى نتطور ونملك التقنية والتكنولوجيا والاقتصاد القوي، يجب أن ننسلخ بالكلية من عقيدتنا وتراثنا وتاريخنا، وننتهج منهج الشكِّ والفوضى والعبثية الغربية.
وأعود فأقول: إنَّ المشكلة لم تكن في الانبهار والتأثر بالغرب فحسب، كما هو حال هؤلاء المثقفين، وإنما المشكلة والعميقة أن يُمَارَس تجديدُ الدين من خلال هذه النفسية المستلَبة والمنهزمة تجاه الغرب.
حينها يفقد (التجديد) مساره!
لأننا حينئذٍ, نبتعد كثيراً عن المفهوم الشرعي للتجديد، الذي يتخذ الدين أبرز مكوِّن للذات المسلمة وللحضارة الإسلامية عبر التاريخ، ومعياراً صارماً لمعرفة الصحيح والباطل، وقاعدةَ انطلاقٍ, نحو التقدم والتحديث. وعندما نقول الدين فإنما نقصد الدين الذي عاشه النبي صلى الله عليه وسلم وفهمه ومارسه أصحابه من بعده، لأن هذا الدين بمفهومه الأول قبل الانحرافات أو الإضافات كان هو العامل الأساسي والفاعل المؤثر في نهضت المسلمين الأوائل. ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: {خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم... } [رواه البخاري ومسلم] والخيرة هنا مطلقة: خيرة الدين والفهم والفقه والمعرفة، وليس خيرة السلوك والأخلاق فحسب! ويقول صلى الله عليه وسلم: {قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين، الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ} [رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح].
وحينما بدأ يتسرب إلى هذا المعيار ( الدين ) الانحرافات وتتراكم عليه الإضافات البشرية ( البدعة ) ويبتعد عن الحياة السياسية والثقافية والاجتماعيةº بدأ حينها الفساد والضعف والتخلف يتسرب إلى حياة المسلمين عبر التاريخ، وكلما زادت الانحرافات والتراكمات... زاد الفساد والضعف والتخلف.
فيأتي حينئذٍ, دور المجدِّد في إحياء الدين من جديد بتنقيته من البدع والخرافات ونقد الممارسات والمقالات البشرية المخالفة لصورة الدين الأولى في عهد تلك القرون المفضلة... حتى يكون ربانياً خالصاً كما أنزل.
ولهذا كانت الحكمة الإلهية في وجود مجدد في كل رأس مئة سنة، مهمته الأساس: إعادة الأمة إلى المفهوم الصحيح للإسلام، وحينما تعود الأمة إلى دينها الصحيح سينقشع عنها غبار التخلف، ويشرق أمامها أنوار التقدم والحضارة. قال صلى الله عليه وسلم: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة، من يجدد لها دينها} [رواه أبو داود بإسنادٍ, صحيح].
ولعل مقولة الإمام مالك رحمه الله التي وضَّح فيها المسار الصحيح لعملية التجديد والنهوض بالأمة عند أئمة السلف، تصلح أن تكون قاعدةً ينطلق من خلالها المصلحون والمجددون في هذا الزمان:
\"لن يصلحَ آخرَ هذه الأمة إلا بما صَلُحَ به أولها، وما لم يكن يومها ديناً لا يكون اليوم ديناً\" (5).
-----------------------------
الهوامش:
(1) كثيرٌ من الباحثين يجعلون بداية ظهور المدرسة العقلية الحديثة المتمثلة في سيد خان الهندي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده هي بداية الفكر الإسلامي المعاصر وذلك نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الميلاديين، وهذا الآراء في الحقيقة إنما تؤرخ المدرسة العقلية الحديثة وليس الفكر الإسلامي الأصيل، والتعبير لها بـ (الفكر الإسلامي) فيه تسامحاًº لأن الفكر الإسلامي هو امتداد لما كانت عليه الأمة في زمن القرون الثلاثة المفضلة من الفهم والممارسة، وأما المدرسة العقلية فقد ابتعدت كثيراً عن ذلك المفهوم، وفي تقرير ذلك بحثٌ ليس هذا موضعه.
(2) عبدالرحمن بن خَلدون، المقدمة، (ص2).
(3) طه حسين، مستقبل الثقافة في مصر، (2/28).
(4) نصر حامد أبو زيد: الخطاب والتأويل، نشر المركز الثقافي المغربي، ص 239.
(5) القاضي عياض: الشفا بحقوق المصطفى، (2/88).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد