بسم الله الرحمن الرحيم
\"... إنِّ مصطلح (التجديد) أصبح مثالاً لهذه المصطلحات التي تعرَّضت إلى كثيرٍ, من الخلط والعبث الفكري، حيث استطاع ثلةٌ من العلمانيين الملحدين، ومن العصرانيين المنهزمين أمام الحضارة الغربية،... \"
إنَّ كشف معاني المصطلحات المتداولة وضبطها ورسم حدودها من أهم نشاطات البحث في الشأن الفكري بشكل خاص وفي الشأن المعرفي بشكل عام، وذلك للوصول إلى اتخاذ مواقف منضبطة تجاه المصطلح، واستعماله استعمالاً لا يتعارض مع مدلوله. وهو في ذات الوقت سياجٌ للحراك الفكري من الخلط والعبث، وحمايةٌ للعقل المسلم من الإرباك والفوضوى.
ذلك لأن عدم وضوح دلالة المصطلح يورِّثُ - أثناء استعماله - شيئاً من الضبابية الفكرية، والتميٌّعِ العلمي، الأمر الذي يسمح (لقراصنة) الفكر من العلمانيين وأضرابهم من خطف ذلك المصطلح وتوظيفه توظيفاً غير نزيه، بعد إفراغ مضمونه من دلائله الشرعية، ثم تعبئته بالمضامين والتوجهات الغربية المنحرفة وتسريبها إلى العقل المسلم عبر ذلك المصطلح الذي قد يكون شرعياً في أصله.
والأمثلةٌ كثيرةٌ على ذلك، كالذي يحصل في هذه الأيام من الخلط بين مصطلح (الديموقراطية) بمفهومها العلماني و(الشورى) بمفهومها الإسلامي، وبين مصطلح (التعددية) بمفهومها الليبرالي و(الاختلاف) بمفهومه الشرعي، وبين مصطلح (التأويل) بمفهومه الباطني و(التأويل) بمفهومه القرآني، ونحو ذلك.
والجدير بالذكر، أنَّ هذه الخلط الفكري مِن قبل أدعياء الثقافة والفكر ومِن بعض الصحفيين وكتاب الجرائد في عالمنا العربي هو في الحقيقة ليس من بنيِّات أفكارهم أو من قراءاتهم الخاصة في التراث، فهم أجهل الناس بالتراث وبالمصطلحات الشرعية، وإنما هو من مخرَّجات المدرسة الاستشراقية - قديماً - التي لم تكن محايدة ولا دقيقة في دراساتها وأبحاثها، فجاء المثقفون في عالمنا العربي وقاموا بسرقة تلك المخرجات كأنها نتاج للبحث والدراسة الذاتية!
وسرقة المثقفين العرب وتوسلهم إلى تراث المستشرقين في الدراسات الإسلامية قصةٌ أخرى ينبغي أن تروى في غير هذا المقام.
أعود فأقول: إنِّ مصطلح (التجديد) أصبح مثالاً لهذه المصطلحات التي تعرَّضت إلى كثيرٍ, من الخلط والعبث الفكري، حيث استطاع ثلةٌ من العلمانيين الملحدين، ومن العصرانيين المنهزمين أمام الحضارة الغربية، أن يستغلوا هذا المصطلح استغلالاً غيرَ علمي ولا نزيه، بتفريغه من مضمونه الشرعي، وجعله غطاءً على (تحريف الدين) و (إبطال الشريعة)، حتى أصبح مصطلح (التجديد) يثير الريبة والتوجس والقلق بين عامة المسلمين.
أصالة مصطلح (التجديد):
إن مصطلح (التجديد) - في أصله - مصطلحٌ ديني، جاء ذكره في خطاب الشارع، وهو قبل ذلك لفظٌ عربي له مدلوله الخاص في لغة العرب، ومدلوله اللغوي متوافقٌ مع مدلوله الشرعيº كبقية المصطلحات الشرعية المتوافقة في دلالتها مع المعنى اللغوي (اشتراكاً أو تواطئاً)، كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك.
مفهوم التجديد في اللغة:
فالتجديد في لغة العرب كما تشير معاجم اللغة [1]: نقيض الخَلِق، أي: القديم، ويُقَال: جدَّد الشيء: صيِّره جديداً، أي: جعل القديم جديداً وأعاده إلى حالته الأولى، وجدَّد الثوب أي أعاده إلى أول أمره.
فالتجديد إذن في معناه اللغوي يتكوَّن من ثلاثة معانٍ, متصلة، وهي:
1) أن الشيء المجدَّد قد كان في أول أمره موجوداً، وللناس به عهد.
2) أن هذا الشيء قد طرأ عليه ما غيره وأبلاه وصار قديماً.
3) أن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويخلق\" [2].
وفي القرآن الكريم جاء ذكر (التجديد) بمعنى الإحياء والبعث والإعادة، وهي معان تتفق مع المعنى اللغوي للتجديد، كما في قوله - تعالى -: {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} (ق: 15)، وقوله: {أئنا لفي خلق جديد} (السجدة: 1)، قال ابن جرير: \"منكرين قدرة الله على إعادتهم خلقاً جديداً بعد فنائهم وبلائهم\" [3]، وهذا التفسير - كما ترى - منسجمٌ مع المعنى اللغوي للتجديد.
المفهوم الديني للتجديد:
إذا تقرر هذاº فحينها عندما يأتي مصطلح (التجديد) في خطاب الشارع، كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) [4]º فينبغي أن يُفهم على وفق مدلوله اللغوي، فيكون المقصود بـ (التجديد): \"إعادة الدين (مفهوماً وممارسة) إلى صورته الأولى قبل التحريف والإضافة\"º وهذا هو المعنى الشرعي الذي ينبغي أن يفهم من خلال هذا الحديث، وهو المعنى الذي ينسجم مع التصور الكلي للنصوص الأخرى في هذا الباب:
- كحديث: (يرث هذا العلم من كل خلفٍ, عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين) [5].
- وحديث: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [6].
- وحديث: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين بغرسٍ, يستعملهم في طاعته) [7].
ونحو ذلك من النصوص التي تكوِّن في النهاية معنىً كلياً للمفهوم الشرعي لمصطلح (التجديد).
ممارسة العلماء للتجديد بمفهومه الشرعي:
لقد كانت ممارسة العلماء للتجديد عبر التاريخ على وفق هذا المفهوم، ولعلنا نستدعي هنا مقولة الإمام مالك التي ذكرناها في المقالة السابقة: \"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها، وما لم يكن يومها ديناً لا يكون اليوم ديناً\" [8]، وهذا هو المسار الصحيح لعملية التجديد والنهوض بالأمة عند أئمة السلف.
وإذا أردنا أن نستعرض أدوار المجددين في تاريخ الإسلام لطال بنا المقام، كدور التابعي الجليل الحسن البصري في تجديد الشعور الديني لدى عامة الناس، ودور الخليفة الراشدي عمر بن عبدالعزيز في تجديد السياسية الشرعية في الإسلام، ودور الإمام الشافعي في تجديد المنهج العلمي في باب الاجتهاد والاستدلال، ودور الإمام ابن تيمية في تجديد التصور السلفي الأصيل ونقد التصورات الفلسفية والكلامية المنحرفة، ودور الإمام محمد بن عبدالوهاب في تجديد حقيقة التوحيد ومحاربة الشرك الخرافة، وهكذا في سلسلة من أهل العلم الذين مارسوا التجديد بمفهومه الشرعي، مع مراعاة كل واحدٍ, منهم حاجة الزمان والمكان.
يقول أبو الأعلى المودودي: \"المجدِّد: كل من أحيا معالم الدين بعد طموسها، وجدَّد حَبلَه بعد انتقاضه... والتجديد في حقيقته: تنقية الإسلام من كل جزءٍ, من أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصاً محضاً على قدر الإمكان\"[9].
ويقول الشيخ القرضاوي: \"إن التجديد لشيء ما: هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر، بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد، وذلك بتقوية ما وهى منه، وترميم ما بلي، ورتق ما انفتق، حتى يعود إلى أقرب ما يكون إلى صورته الأولى... فالتجديد ليس معناه تغيير طبيعة القديم، أو الاستعاضة عنه بشيء آخر مستحدث مبتكر، فهذا ليس من التجديد في شيء\"[10].
الممارسة المنحرفة لمصطلح التجديد:
ومع هذا الضبط والوضوح للمفهوم الشرعي لمصطلح \"التجديد\"، إلا أن الممارسة الثقافية والدينية لبعض دعاة التجديد في واقعنا المعاصر تختلف وتبتعد كثيراً عن هذا المفهوم، إذ أنها تتوسل وتستدعي أثناء ممارستها للتجديد ممارسات أجنبية مختلفة عن طبيعة الموضوع (= الإسلام)، ولعل تلك الممارسات تجتمع في اتجاهات أربعة:
الاتجاه الأول:
وهو المتأثر في ممارسته بالحركة التجديدية الإصلاحية التي قامت في أوربا في بداية القرن الخامس عشر، والتي كانت تمارس نقد المسيحية الكاثوليكية آنذاك، وكان يقودها القس الألماني (مارتن لوثر)، وقد نتج عنها بعد ذلك قيام المذهب البروتستانتي، الذي - بلا شك - أحدث شرخاً كبيراً في الكيان الديني (الفاتيكاني) المتسلِّط في أوربا.
والحركة البروتستانتية وهي وإن كانت تدعوا إلى العودة إلى تعاليم (الآباء الأوائل) للنصرانية، ونقد المفهوم البدعي القائم للنصرانية المتمثل في قرارات المجامع الكنسية، إلا أن نقدها - في الحقيقة - لم يكن نقداً إيجابياً بناءً، بل كان نقداً هدميّاً فحسب، فلم يقدموا تصوراً صحيحاً وبديلاً للديانة المحرَّفة، وإنما قدموا تصوراً آخر لا يقلٌّ انحرافاً عما قبله.
ونحن نعتقد جازمين أن الحركة البروتستانتية عاجزة عن ذلك (أي تقديم البديل)، لسببٍ, بسيط، وهو فقد وغياب المرجعية الأولى للديانة النصرانية التي كان يمكن للبروتستانت وللإصلاحيين أن يقدموا من خلالها الصورة الصحيحة للديانة النصرانية.
وأقصد بالمرجعية الأولى: تراث نبيهم وتراث أصحابه الحواريين الذين اعتنقوا النصرانية الصحيحة التي أرادها الله، بل إن إنجيل المسيح الذي جاء به من عند الله = ضاع وفُقِدَ عبر التاريخ بإجماع الباحثين اللاهوتيين الغربيين، هذا إن صحَّ أنه جُمِع وكتب بالفعل. فضلاً عن تراثه أو تراث أصحابه.
إن تلك المرجعية الأولى هي الميزان الدقيق لمعرفة صحة أو بطلان جميع الأوضاع والممارسات التي كانت تمارسها النصرانية المتأخرة.
والحقيقة التي نعتقدها - نحن المسلمون - أن تلك المرجعية وإن ضاعت عبر التاريخ إلا أن جوهرها محفوظ في القرآن الكريم، وهو المصدر الإلهي الوحيد الذي لم تصل إليه يد التحريف والعبث.
أقول: بسبب ضياع وفقد تلك المرجعية، واستكبار النصارى عما هو موجود لدى المسلمين من الحقº تخبطت الحركة البروتستانتية في عملية التجديد تخبطاً كبيراً، ولم يقدموا سوى صورة جديدة للنصرانية المنحرفة.
ولذا فإن استلهام هذا التجربة الإصلاحية التي قامت بها الحركة البروتستانتية من قبل بعض المثقفين ودعاة التجديد في واقعنا الإسلامي = خطأ فادح، وسذاجةٌ في التفكير، وسوءُ فهمٍ, لقراءة التاريخ، فالموضوع هنا يختلف اختلافاً كبيراً عن الموضوع هناك، فالإسلام هنا مرجعيته محفوظة، وتراث النبي - صلى الله عليه وسلم - مدوَّن ومنقول إلينا بالسند الصحيح، وكذلك تراث أصحابه من بعده، بل وتراث أئمة الدين الكبار من التابعين وتابعيهم إلى زماننا. هذه المرجعية المحفوظة، هي التي أمكن من خلالها أن يقدم العلماء المجدِّودن عبر تاريخ الإسلام الصورة الصحيحة للإسلام.
الاتجاه الثاني:
ويسير عليه فريق من المثقفين العرب الذي تأثروا بالمذاهب المادية المنحرفة، كالماركسيين وأضرابهم، والذين كان \"الدين\" عقبةً أمام مشاريعهم الفكرية في المجتمعات الإسلامية، حيث عجزوا أن يمحوا آثاره من حياة الناس، وأدركوا أنَّ الإسلام متأصلٌ في قلوبهم.
فعمدوا حينها إلى مشروع وفاقي مع الإسلام (شكلياً)، فبدؤوا أولاً بالإعلان أنهم وجدوا ضالتهم في هذا الدين، ثم قرروا بأن الإسلام لا يتعارض مع النظرية الماركسية، ثم ظهر بعد ذلك مصطلح (اليسار الإسلامي) ومصطلح (الإسلام الاشتراكي).
والمتابع لهذا الاتجاه يجد أنه ينطلق في ممارسته (للتجديد) من خلال مسارين:
الأول: بالتوسل إلى التراث والبحث في داخله عن أي معنى يتوافق مع الماركسية، وذلك من خلال إبراز الرموز المنحرفة في التاريخ الإسلامي، أو الإشادة بالحركات الثورية الباطنية المتهمة بالزندقة.
الثاني: محاولة تفسير النصوص الشرعية والوقائع التاريخية تفسيراً مادياً بحتاً يتوافق مع النظرية الماركسية، وذلك تحت شعار (تجديد الخطاب الديني).
ولعل المفكر اليساري \"حسن حنفي\"، و\"الطيب تزيني\"، و\"محمود أمين العالم\"، نماذج واضحة على هذا الاتجاه.
وفي الحقيقة أن المقام لا يتسع لمناقشة هذا الاتجاه، ولكن لعلي أكتفي بالإشارة إلى أنَّ هذه الاتجاه لم يكن يمارس (التجديد) في حقيقة الأمر، وإنما مارس شيئاً أستطيع أن أسميه بـ (النفاق الفكري) أو (التزلف الفكري) أو (المداهنة الفكرية)، فبدل أن يكشف هذا الاتجاه عن مشروعه الحقيقي بشكل واضح لا ملابسة فيه، حتى يكون أمره بيِّناً لدى الطليعة من شباب مثقفي الأمة، فيدركوا المقاطعة الواضحة بينه وبين الإسلام... بدل أن يقوم بذلكº أخذ في التمسٌّحِ بعتبة الإسلام ومحاولة الولوج فيه والبحث في داخله عما يوافق مشروعه الفكري، وذلك عن طريق العبث بالنصوص الشرعية ومحاولة تفسيرها تفسيراً لا يمت إلى العلمية والموضوعية بصلة، وهذا كله تحت شعار (تجديد الخطاب الديني!!)، وهذا في الحقيقة أقرب إلى النفاق والتزلف منه إلى الوضوح في تبني الفكرة.
الاتجاه الثالث:
وهو ما أستطيع أن أسميه بالاتجاه \"التبريري\"، وذلك لكثرة تأويله للنصوص الدينية - خاصةً نصوص الأحكام - حتى تنسجم مع الواقع، خاصةً إذا كان النص ظني الدلالة ووقع الخلاف في دلالته، فبدل أن يجتهد أصحاب هذا الاتجاه في قراءة النص قراءة علمية على وفق المعايير الموضوعية عند علماء الأصول، بدل ذلك.. تتجه قراءتهم إلى تأويل النص تأويلاً ينسجم مع ظروف الواقع، تحت شعار (التجديد).
فكأن الواقع هو المحور الثابت الذي يدور في فلكه النص، مع أن النص الديني في التصور الإسلامي هو المحور الثابت الذي يدور في فلكه ليس الواقع فحسبº بل الوجود بأكمله! قال - تعالى -: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك الله وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (الأنعام: 2) وقال - تعالى -: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم... } (الأحزاب: 36) ولهذا عبَّر الفقهاء الأوائل بالقاعدة الشهيرة: (لا اجتهاد مع النص).
وهذا الاتجاه يسير عليه جماعة من المنتسبين إلى العلم والفكر الإسلامي، الذين واجهوا الحضارة الغربية وما أفرزته من تقدم هائل في التقنية والمعرفة ومجالات الحضارة، والتي أدَّت إلى افتتان كثيرٍ, من المسلمين بالغرب العلماني، واستيراد نظمه التعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومحاكاته في أنماط الحياة وطريقة العيش، دون إفرازها وتنقيتها مما يخالف الشريعة، حتى تكونت مع الأيام فجوة كبيرة بين الشريعة وواقع المسلمين. فجاء هذا الاتجاه لردم هذه الفجوةº لكن ليس بإصلاح الواقع، وإنما بتأويل الشريعة حتى توافق ذلك الواقع.
ومشكلة هذا الاتجاه هي ذات المشكلة التي واجهت المتكلمين قديماً، فالمتكلمون قديماً كانوا يشعرون بإشكالٍ, كبير عند تعارض العقل مع النقل في بعض المسائل الدينية، خاصةً في القضايا الإلهية.
علماً بأن هذا التعارض - في الحقيقة - ليس له وجودٌ في واقع الأمر، إنما هو موجودٌ في الأذهان، ولذا فهو نسبي يختلف من عقل إلى عقل، بخلاف النص الذي يمتاز بالثبات والحياد.
فبدل أن يتجه المتكلمون إلى درء تعارض العقل مع النقل بقدر المستطاع، أو اللجوء في نهاية الأمر إلى تحكيم النقل على العقل تعبداً لله - تعالى -، وتعظيماً للوحي الإلهي، واتهاماً للعقل البشري القاصر، مع الجزم بأن العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح، لأن الله - تعالى - هو مصدر النقل وهو خالق العقل في نفس الوقت... بدل أن يتجه المتكلمون إلى ذلك اتجهوا إلى تأويل النقل الصحيح حتى يتوافق مع ما يقوله العقل الذي قد يكون فاسداً في حقيقته، فحكَّموا العقل على النقل.
كذلك وقع العصرانيون في نفس الخطأ، عندما وجدوا أن الواقع في أغلبه يتعارض مع بعض النصوص الشرعية، فبدل أن يجتهدوا في إصلاح ذلك الواقع والقيام بواجب الدعوة ومحاولة تطبيق تلك النصوص في أرض الواقعº اتجهوا إلى تأويل تلك النصوص حتى تنسجم مع الواقع، بحجة أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان! وأنه عندما توجد (المصلحة!) فثمَّ شرع الله! وأن الشريعة قامت على الرفق والتيسير! ونحو ذلك من الحجج التي يُستدَل بها في غير مواضعها، وهذا كله تحت شعار (التجديد!).
ولهذا فإن خطاب (التجديد) الذي يتبناه بعض الدعاة والمفكرين المتأثرين بهذا الاتجاه لم ينجح في إصلاح واقع المسلمين إصلاحاً حقيقياً، لأنه كان خطاباً تبريرياً للواقع وليس خطاباً تغييراً نهضوياً يقارب الفجوة بين الشريعة وواقع الناس، مما أدى إلى استمرار التخلف وترسيخ المشاكل والأمراض التي تعاني منها الأمة!
ويعتبر الشيخ محمد عبده، هو المؤسس الفعلي لهذه الاتجاه، والذي سمي فيما بعد بالاتجاه (العصراني) أو (التنويري)، وقد تأثر به جماعةٌ من الدعاة والمفكرين الإسلاميين، كالشيخ محمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، وسليم العوا، وفهمي هويدي.
الاتجاه الرابع:
وهو ما يسمى بـ(الإسلام الليبرالي) أو (الإسلام الأمريكي)، وهذا الاتجاه هو أحدث الاتجاهات ظهوراً في العالم الإسلامي وإن كان وجوده في أدبيات الفكر الإسلامي من قديم، ولعل الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - هو أول من تنبأ بظهور هذا الاتجاه وسطوته في الساحة الثقافية والإعلامية.
حيث ذكر الشيخ عبد الله عزام أن من مزايا سيد قطب الكثيرة: \"نفاذ بصيرته وعمق نظره\"، وفي هذا السياق يقول: \"وكثيرًا ما كان سيد قطب يردد: (ستهب في المرحلة القادمة على المنطقة رياحٌ من الإسلام الأمريكي) وقد كان! \" [11].
فلما وقعت أحداث الحادي عشر من أيلول كانت هي الانطلاقة الفعلية في ظهور هذا الاتجاه وانتشاره بشكل ملفت.
وخطورة هذا الاتجاه تكمن في قوته والدعم المادي الذي يلاقيه من قبل أقوى دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية، إضافةً إلى التمكين له في وسائل الإعلام المختلفة، بل هناك وسائل تعتبر الناطق الرسمي له، كقناة العربية، ومجموعة الأم بي سي، وقناة الحرة، وإذاعة سوا، وصحيفة الشرق الأوسط.
ونحن هنا إزاء ظاهرة فريدة، إذ تحول سؤال (التجديد) من مطلب داخلي تجسَّد على يد دعاة التجديد في العالم الإسلامي باختلاف توجهاتهم ومشاربهم، فرضه الواقع والانفتاح نحو الحضارة الغربية، تحول إلى مطلب خارجي من قبل (الاستعمار) ليصبح خطاباً إرغامياً إيديولوجياً من قبل القوى الأمريكية المتمثلة في حزب (المحافظين الجدد)، أو خطاباً ملحاً فيه شيء من التهذيب والمتمثل في القوى الليبرالية الأمريكية.
والاتجاه الأمريكي في ممارسة تجديد الخطاب الديني، يقوم على اعتبار المصالح الأمريكية بشكل أساس بغض النظر عن مصالح الأمة، ويتبلور مشروعه: في إيجاد خطاب ديني جديد ومعتدل حسب المنظور الأمريكي يتمشى مع المصالح والسياسات الأمريكية في المنطقة العربية، ويحل مشكلة ما يسمى بـ(الإسلام الأصولي) الذي ينزع إلى المقاومة ويؤمن بالجهاد كإحدى فرائض الإسلام الكبرى، ويقف موقف الرفض للثقافة الغربية التي تصطدم مع الثقافة الإسلامية.
ولعل أهم الوسائل التي يمارسها هذا الاتجاه في عملية \"التجديد\" هي التلاعب بالمصطلحات الدينية، ومنها مصطلح (الإسلام المعتدل) أو (الوسطي) حيث أصبح هذا المصطلح ينتشر كثيراً في الأوساط الإعلامية وفي الخطاب الثقافي العربي، ويُقصَد به: الإسلام الذي ينسجم مع المصالح الأمريكية في المنطقة عسكرياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، وفي المقابل (الإسلام المتطرف) أو (المتشدد) ويراد به: المقاوم والممانع للسيطرة الأمريكية، مع أن (الاعتدال والتشدد) و (الوسط والتطرف) مفاهيم دينية خاصة لها مدلولاتها المحددة في الشريعة الإسلامية، إلا أنه بفضل الخطاب الليبرالي المتأسلم أصبحت تلك المفاهيم ذات مدلولات أمريكية بحتة.
ولعل المفكر المصري سعد الدين إبراهيم، وشاكر النابلسي، وهشام جعيط، وعبدالرحمن الراشد، وأحمد الربعي، أبرز من يمثل هذا الاتجاه.
والخلاصة:
أن هذه الاتجاهات الأربعة لم تمارس (التجديد) على مفهومه الشرعي، وإنما مارست مفاهيم أخرى، ألصقت بمفهوم (التجديد)، وهي أقرب - في الحقيقة - إلى مفهوم \"الانحراف\" و\"التغيير\" و\"التبديل\".
إن تجديد الإسلام ليس في نسف أصوله والتهجم على ثوابته، وليس في تجاوز نصوصه الدينية باسم المصلحة تارة أو باسم ضرورة الواقع تارة أخرى، وليس في تجاهل واحتقار تراث فقهاء المسلمين المنجز عبر التاريخ، وليس في تجاهل العلوم المعيارية التي تضبط حركة (الاجتهاد) الذي هو أساس حركة (التجديد).
إنما التجديد في قناعتنا: عبارةٌ عن ممارسة تعبدية لها شروطها وأركانها يجب الالتزام بها، وله - في النهاية - رجاله المخلصون من أهل العلم والإيمان، الذين هم فقط من يمتلكون شرعية الحديث عن (التجديد)!
ـــــــــــــــــ
الهامش:
[1] انظر: الجوهري، \"الصحاح\"، ابن منظور، \"لسان العرب\"، 2/22، الفيومي، \"المصباح المنير\"، (92).
[2] انظر: بسطامي سعيد، \"مفهوم تجديد الدين\"، ص / 15، أ. د. سيف الدين عبد الفتاح، \"مفهوم التجديد\"، موقع إسلام أون لاين.
[3] ابن جرير الطبري، \"الجامع في بيان القرآن\"، 13/91.
[4] أخرجه أبو داود، والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 599.
[5] أخرجه الخطيب في \"شرف أصحاب الحديث\"، وصححه جماعةٌ من أهل العلم، كابن القيم في \"مفتاح دار السعادة\"، وابن الوزير في \"العواصم من القواصم\"، وحسنه القاسمي في \"قواعد التحديث\".
[6] أخرجه مسلم، برقم (3544).
[8] أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان.
[9] أبو الأعلى المودودي، \"الموجز في تاريخ تجديد الدين\"، ص / 13 - 25.
[10] يوسف القرضاوي، \"من أجل صحوة راشدة\"، ص / 28. وليت الشيخ القرضاوي التزم بما شرطه هنا للتجديد الصحيح، فقد وقع - عفا الله عنه - في بعض آرائه التجديدية ما يخالف شرطه هنا.
[11] عبد الله عزام، \"عملاق الفكر الإسلامي الشهيد سيد قطب\"، نشر مركز شهيد عزام الإعلامي، باكستان، الطبعة الأولى.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد