بسم الله الرحمن الرحيم
\"... إنَّ مدار كمال المخلوق على حبِّ الحقِّ وكراهية الباطل، فخَلقَ اللهُ - تعالى -الناسَ مفطورين على ذلك، وقدَّر لهم ما يؤكد تلك الفطرة، وما يدعوهم إلى خلافها، ليكون عليهم في اختيار الكمال، وهو مقتضى الفطرة مشقةٌ وتعبٌ وعناء... \"
لم يكن العلامة الإمام عبدالرحمن بن يحي المعلمي (المتوفى سنة 1386هـ) - رحمه الله -، عالماً عاديِّاً كغالب علماء عصره، من الذين انشغلوا بحفظ المتون وضبط الشروح ثم انتهوا إلى تقليد من سبق، إنما كان - رحمه الله - من العلماء المجتهدين الذين جمعوا العلمَ والفهمَ والتحقيقَ، ومن نظر في مصنفاتهº وجد فيها من الفوائد والكلام الدقيق، ما يدلٌّ على براعة تحقيقه وعمق تأمله في علوم الشريعة، فلم يكن مجرَّد حافظٍ, أو ناقلٍ,، وإنما كان محرِّراً لكلام الناس ومتأملاً فيه، مع اطلاعٍ, واسع في النصوص والآثار، وناقدٍ, حاذقٍ, فيها، عالمٍ, بالرجال، بل كان مدرسةً في علم الرجال، حتى قال الإمام المحدث الألباني - رحمه الله - معلقاً على كلام للمعلمي في درجات التوثيق عند ابن حبان: (هذا تفصيلٌ دقيق، يدلٌّ على معرفة المؤلف - رحمه الله تعالى -، وتمكنه من علم الجرح والتعديل، وهو مما لم أره لغيره، فجزاه الله خيراً). وصدق الشيخ العلامة بكر أبو زيد حين لقَّبه: (ذهبيٌّ عصرِه العلاَّمةُ المحقِّق) وقال أيضاً: (تحقيقاتُ هذا الحَبر نقشٌ في حَجَر، ينافسُ الكبارَ كالحافظِ ابن حجر).
وفي هذا المقال أنقل لك - أخي الكريم - مقطوعةً نفيسةً من أحد مصنفات هذا الإمام الكبير، وهو كتاب (القائد في معرفة العقائد)، حيث كان يتكلم - رحمه الله - عن موضوع خطير، وهو إيثار الحق على الباطل، والحذر من اتباع الهوى، وملاحظة النفس الحقٌّ الذي قامت عليه السماوات والأرض الحقٌّ الذي أشغلَ الشيخَ في حياته مدافعاً له وداعٍ, إليه ومحارباً لضده من الباطل، خاصةً في كتبه: (التنكيل) و (الأنوار الكاشفة) و (القائد في معرفة العقائد) وهذا الأخير هو الذي أنقل منه هذه المقطوعة.
وبدون تطفٌّلٍ, من قلميº سأتـركك - أخي القاريء - مع كلام الشيخ مباشرة بدون تعليق أو توضيح أو إضافة. يقول - رحمه الله - في كتابه (القائد) ص 9:
1) إنَّ مدار كمال المخلوق على حبِّ الحقِّ وكراهية الباطل، فخَلقَ اللهُ - تعالى -الناسَ مفطورين على ذلك، وقدَّر لهم ما يؤكد تلك الفطرة، وما يدعوهم إلى خلافها، ليكون عليهم في اختيار الكمال، وهو مقتضى الفطرة مشقةٌ وتعبٌ وعناء، ولهم في خلاف ذلك شهوةٌ وهوى، فمن اختار منهم مقتضى الفطرة وصبر على ما فيه من المشقة والعناء وعما في خلافه من الراحة العاجلة واللذة = استحقَّ أن يُحمد، فاستحق الكمال فناله، ومن آثر الشهوة واتبع الهوى استحق الذمَّ فسقط!
2) والإنسان لا يكره الحقَّ من حيث هو باطل، ولكنه يحبٌّ الحقَّ بفطرته، ويحبٌّ الباطل لهواه وشهوته، ومدار الفوز أو الخسران على الإيثار، قال - تعالى -: (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى).
3) وسبب اتباع الهوى في مخالفة الحق من وجوه:
أ- أن يرى الإنسان أن اعترافه بالحق يستلزم اعترافه بأنه كان على باطل، فالإنسان ينشأ على دينٍ, أو اعتقادٍ, أو مذهبٍ, أو رأيٍ, يتلقاه من مربيه ومعلمه على أنه حق، فيكون عليه مدة، ثم يتبين له أنه باطلº شقَّ عليه أن يعترف بذلك، وهكذا إذا كان آباؤه أو أجداده أو متبوعه على شيء، ثم تبين له بطلانه، وذلك أنه يرى نقصهم مستلزمٌ لنقصه، فاعترافه بضلالهم أو خطأهمº اعترافٌ بنقصه، حتى إنك لترى المرأة في زماننا هذا إذا وقفت على بعض المسائل التي كان فيها خلاف بين أم المؤمنين عائشة وغيرها من الصحابة أخذت تحامي عن قول عائشة، لا لشيءº إلا لأنَّ عائشة امرأة مثلها، فتتوهم أنها إذا زعمت أن عائشة أصابت وأن من خالفها من الرجال أخطأوا، كان في ذلك إثبات فضيلةٍ, لعائشة على أولئك الرجال، فتكون تلك الفضيلة للنساء على الرجال مطلقاً، فينالها حظُّ من ذلك، وبهذا يلوح لك سرَّ تعصب العربي للعربي، والفارسي للفارسي، والتركي للتركي، وغير ذلك، حتى لقد يتعصب الأعمى في عصرنا هذا للمعري!.
ب- أن يكون قد صار له في الباطل جاهٌ وشهرة ومعيشة، فيشق عليه أن يعترف بأنه باطل فتذهب تلك الفوائد.
ج- الكبر، وذلك إذا كان الإنسان على جهالةٍ, أو باطل، فيجيء آخر فيبيِّن له الحجَّة، فيرى أنه إنِ اعترفَ كان معنى ذلك اعترافه بأنه ناقص، وأنَّ ذلك الرجل هو الذي هداه، ولهذا ترى من المنتسبين إلى العلم لا يشقٌّ عليه الاعتراف بالخطأ إذا كان الحق تبيِّن له ببحثه ونظره، ويشقٌّ عليه ذلك إذا كان غيره هو الذي بيِّن له.
د- الحسد، وذلك إذا كان غيره هو الذي بيِّن الحقَّ، فيرى أن اعترافه بذلك الحق يكون اعترافاً لذلك المبيِّن بالفضل والعلم والإصابة، فيعظم ذاك في عيون الناس، ولعله يتبعه كثيرُ منهم، وإنك لتجد من المنتسبين إلى العلم من يحرص على تخطئة غيره من العلماء ولو بالباطل، حسداً منه لهم، ومحاولةٌ لحطِّ منزلتهم عند الناس.
4) وهنا أمورٌ ينبغي للإنسان أن يُقدَّم التفكير فيها ويجعلها نصب عينيه:
أ- أن يفكَّر في شرف الحق وضعة الباطل، وذلك بأن يفكر في عظمة الله - عز وجل -، وأنه - سبحانه - يحبٌّ الحقَّ ويكره الباطل، وأنَّ من اتبع الحقَّ استحقَّ رضوان الله رب العالمين، فكان - سبحانه - وليِّه في الدنيا والآخرة، بأن يختارَ له كلَّ ما يعلمُه خيراً له وأفضلَ وأنفعَ وأكملَ وأشرفَ وأرفعَ حتى يتوفَّاه راضياً مرضياً، فيرفعه إليه ويقربه لديه، ويحله في جواره مكرماً منعماً في النعيم المقيم والشرف الخالد الذي لا تبلغ الأوهام عظمته، وأنَّ من أخلد إلى الباطل استحقَّ سخط رب العالمين، وغضبه وعقابه، فإن آتاه شيئاً من نعيم الدنيا، فإنما ذلك لهوانه عليه وليزيده بُعداً عنه، وليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغ الأوهام شدته!
ب- أن يفكَّر في حاله مع الهوى، افرض أنه بلغك أنَّ رجلاً سبَّ رسول الله r، وآخر سبَّ داود - عليه السلام -، وثالثاً سبَّ عمر أو علياً - رضي الله عنهما -، ورابعاً سبَّ إمامك، وخامساً سبَّ إماماً آخر، أيكون سخطك عليهم وسعيك في عقوبتهم وتأديبهم أو التنديدِ بهم موافقاً لما يقتضيه الشرع، فيكون غضبك على الأول والثاني قريباً من السواء وأشد مما بعدهما جداً، وغضبك على الثالث دون ذلك وأشد مما بعده، وغضبك على الرابع والخامس قريباً من السواء دون ما قبلهما بكثير؟
افرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولاً لإمامك والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيهما سواء، لا تبالي أن يصحَّ سند كل منهما أو يضعف؟
افرض أنك تعلم من رجل منكراً، وتعذر نفسك في عدم الإنكار عليه، ثم بلغك أنَّ عالماً أنكر عليه وشدَّد النكير، أيكون استحسانك لذلك سواءً فيما إذا كان المنكِرُ صديقك أم عدوك، والمنكَر عليه صديقك أم عدوك؟
وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى، وقد جرَّبتُ نفسي أنني انظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي، فيلوحُ لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذلك المعنى، فأجدني أتبرم بذلك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلَّف الجواب عنه وغضَّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررت ذلك المعنى أولاً، تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحدٌ من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش ولكن رجلاً آخر اعترض عليَّ به؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه؟
هذا ولم يُكلَّف العالِمُ بأن لا يكون له هوى، فإن هذا خارجٌ عن الوسع، وإنما الواجب على العالِمِ أن يفتش نفسه عن هواها حتى يعرفه ثم يحترز منه ويمعن النظر في الحقِّ من حيث هو حق، فإن بان له أنَّه مخالف لهواه آثر الحق على هواه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد