بسم الله الرحمن الرحيم
من الحقائق المهمّـة في هذا الدين، أن كلّ جزئيـّة منه، لها ارتباط بقواعده الكليـّة، ومحكماته الثابتة، ذلك أن كل تشريع في الإسلام حتى المندوبات، بل حتى ما أذن الله في فعله، وهو المباح، هو من جهة، لاينفك عن تعلق بأصل الإيمان بالله - تعالى- ربا ومعبودا، لأن امتثاله يعبّر عن الانقياد لحقيقة أن الله - تعالى -هو وحده الذي يملك حق التشريع للعباد، لأنه وحده الذي خلقهم، فلا يستحق العبادة سواه، والعبادة أصل معناها الحب المقتضي لكمال الخضوع والانقياد، ولهذا قيل الطاعة دليل المحبة، كما قال - تعالى -(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله).
ولهذا صار التنازل عن أي جزئية من الدين ـ والمقصود هنا إلغاؤها أو رفضها، وليس إتيان المعاصي ـ يعني نقض أصل الدين، وقد حذر الله - تعالى -من انتهاج نهج التنازلات لإرضاء المخالفين.
أولا: لما تقدم من أن التنازل عن أي جزء من الدين يقتضي نقض أصله.
وثانيا: لأن هذا النهج طبيعته الذاتيه أنه تسلسل لا ينتهي إلاّ إلى هدم الدين كله، ولهذا جاء في الحديث (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة، تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم وآخرها الصلاة) رواه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث أبي أمامه - رضي الله عنه -، والمقصود أن ذلك يحدث في مواضع وأزمنة معينة لا أن الإسلام يحاط به فلا يبقى له اسم، بل جاء في الحديث (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة.
ولهذا حذّر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أن ينصاع لمطالبة المشركين بتقديم التنازلات لهم، قال - تعالى -(ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا)، وقال (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)، وقال (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين)، وتأمل قوله (شيئا قليلا)، (بعض ما أنزل الله إليك)، (بعض الأقاويل) وما تشعر من الوعيد، والتحذير الشديد.
ولهذا قال الله - تعالى -لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا) والمقصود: جاهدهم بالوحي، ومعلوم أن الجهاد هو بذل الوسع والطاقة، الذي يعارض التنازل، والتراجع أشد المعارضة، ولهذا صار الجهاد ذروة سنام الدين، لان به قوام الدين، ونصره، وعزّه.
ومن المهم جدا للحركة الإسلاميّة أن تعي هذه الحقيقة حق الوعي، فهي وإن لم يصل بها الحال ـ حتى الآن ـ أن ترفض، أو تلغي شيئا من دين الله - تعالى -، غير أن هذا التراجع المستمر أمام ضغط الواقع، سيأخذ بها إلى منحى خطير جدا.
وقد بدت بوادر خطورة هذا النهج تلوح في الأفق، ولنضرب على هذا مثالا، فعندما دهمت العالم الإسلامي مصيبة إقصاء الشريعة، قاومها العلماء والمفكرون الإسلاميون مقاومة عنيفة، وجعلوا ارتكاب هذا الجرم الشنيع، حدا فاصلا بين الكفر والإيمان، ثم مع استمرار هذا الواقع الأليم، واعتياد الناس عليه ظهر من يهون أمره، ثم جاء بعد ذلك من يخرجه من كليات الدين أصلا، ويقول ليس هو من مباحث العقيدة
ثم جاء من يجيز فعله تحت ذريعة مصلحة الدعوة، حتى ربما أصبح ـ في بعض البلاد ـ الذين كانوا يأمرون بالحكم بالشريعة، هم القائمون اليوم على الحكم بغيرها، من مرتبة الوزير إلى العمل في النيابة والتحقيق!!!، وسيأتي اليوم الذي يصبح الناهي عما يفعلون ضالاً مبتدعاً، بل قد أصبح هذا واقعا!!
ومن الأمثلة الحيّة أيضا، قضية الجهاد، فقد بدأ أعداء الأمة، بمحاربة مفهوم الجهاد في الإسلام، فلما أصغى إليهم بعض المتهوّكين، فألغوا هذا الركن من الإسلام، لم يكتف أعداء الأمة منهم بهذا، بل انتقلوا بهم إلى ما هو أضل سبيلا.
إلى أن يأتي الأعداء أنفسهم، ليجاهدوا هذه الأمة في عقر دارها، ثم يدعون أولئك المتنازلين سابقا عن الجهاد، الذين أرضوا أعداء الأمة بتسمية الجهاد إفسادا، أن يُفتُــوا المسلمين اليوم، بأن الجهاد مع أعداء الأمّة ضد هذه الأمّة، إنما هو امتثال لهذه الشريعة، ومن يقاوم أولئك الأعداء خارج عن الشريعة، فليُقتل إذا باسم الشريعة!! فصدق عليهم قوله - تعالى -(ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) وقوله: (فلما زاغوا أزاع الله قلوبهم).
ولا تعجبوا من هذا الإرتكاس، فهذه طبيعة نهج تقديم التنازلات، ذلك انه اتباع للهوى، والهوى ما سمي هوى إلا لأنّه يهوى بصاحبه، ولهذا جعل الله - تعالى -اتباع ما أنزل، مقابلا لاتباع الهوى، كما في الآية السابقة (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وفي قوله - تعالى -(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) وغيرها من المواضع في القرآن، ذلك انه كما يرفع الله - تعالى -العبد باتباع الوحي، يهوي به هواه بإعراضه عما أنزل الله - تعالى -، ولهذا قال - تعالى -(ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه).
والمقصود أن الحركة الإسلامية في انطلاقتها الأولى كانت تؤمن بأن رسالتها تغيير واقع الأمة ليتلاءم مع رسالتها كما هي، ثم هي ـ بعضها لا كلها ـ تتجه االيوم تحت ضغط هذا الواقع، من حيث تشعر أو لا تشعر، إلى تغيير رسالتها، بالقضم، والتنازل التدريجي، لتتلاءم مع الواقع كما هو، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فستنقض عرى الإسلام بأيدي من كانوا دعاته يوما ما!
والعصمة من هذه الفتنة أن نتذكّـر أن الله - تعالى -أمرنا أن نصبر على اتباع ما أنزل، وعذرنا إن عجزنا ـ بعد السعي وبذل الجهـد ـ عن تغيير واقع الناس، ولم يأمرنا أن نفتري على دينه، لأنّ النّاس لا يقبلونه كما أنزله، قال - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، وقال: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعلمون).
وأن نعلم أن الله - تعالى -علّـق النصر، والعز، والتمكين، على التمسك بهذا الدين، والصبر عليه وقت المحن، فمن نصره نُصِر، ومن خذله لم يزده خذلان الدين إلا ذلاّ وهوانــا.
وليتأمل العاقل حال المجاهدين، كيف أعزهم الله، لما أعزوا دينه، وما زالوا ينكون في أعداءهم النكاية العظيمة، ويرعبونهم أشد الرعب، وقد أهلك الأعداء أموالهم، وانفسهم، واتسع عليهم الخرق من كل جانب، وأحاطت بهم المصائب، ليصلوا إلى مبتغاهم السيء في أولئك المجاهدين، فما زادهم ذلك غير تتبيب، ذلك أن الله - تعالى -قال: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)، والله المستعان، وهو حسب المؤمنين في كل زمان ومكان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد