بسم الله الرحمن الرحيم
ربما لم يعايش أحد خلافات الأمة ويخوض غمارها مثلما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد أوصى ابن تيمية بإلحاح على اتباع قاعدتين جليلتين في تناول مسائل الخلاف، والحكم على المخالف، من أجل تحقيق الحق والقيام بالقسط، هما قاعدتا العلم والعدل. ودعا المسلمين إلى انتهاج هذا النهج، لا في المعاملات المالية والاجتماعية فحسب، بل فيما هو أهم من ذلك، وهو الحكم على المقولات والآراء والعقائد. ويخيل إلي أن أبناء الصحوة الإسلامية بحاجة إلى تذكير بهذين المبدأين في هذه الأيام التي طغى فيها الحماس على الفقه، والانفعال على البصيرة.
لم يكن ليخفى على شيخ الإسلام أن آفة الخائضين في خلافات الأمة تنحصر في أمرين اثنين:
أولهما:
الجهل بموضوع الخلاف، والتفريط في بحثه واستقرائه استقراء كافيا، يحرر نقطة النزاع ويتحرى الصدق في الرواية، وينقب عن خلفيات الوقائع وبواعثها. والخوض مع الجهل مخالفة لتحذير الخالق - سبحانه -: \"ولا تقف ما ليس لك به علم\" (1) كما هو مخالفة لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حول القضاة الثلاثة، حيث جعل القاضي بجهلٍ, في النار. ويتأكد العلم في موضوعات الخلاف، نظرا لورود الأدلة فيها محتملة الثبوت أو الدلالة غالبا، ونظرا لأن أغلب المخالفين من المبتدعة وغيرهم يجمعون بين حق وباطل عادة، فيحتاج مناظرهم إلى قدرة تامة على التمييز بين الأمور المتداخلة، وإنصاف كامل يرفض الانسياق مع نزعة التعميم والتسطيح والحلول السهلة، التي انساق منها \"سهلٌ\" القديم، فاستحق هذا التعيير على لسان أحد الشعراء:
أتانا أن \"سهلا\" ذمَّ جهلا *** علوما ليس يدريهن \"سهلُ\"
علوما لو دراها ما قلاها *** ولكن الرضى بالجهل سهلُ
وثانيهما:
الظلم لأحد الطرفين المختلفين، تعصبا ضده وتجاوزا، أو إغضاء عن الطرف الآخر ومجاملة، رغم أن الله - تعالى -حذرنا من أن نندفع مع غريزة العداء، أو أن تستخفنا الخصومة، فنتجاوز حدود بيان الحق و الأخذ به، إلى الظلم والتعدي على المخالفين. كما أمرنا بالشهادة بالقسط، ولو على أنفسنا أو الوالدين والأقربين. فقال - تعالى -: \"ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى\" (2) وقال جل من قائل: \"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا..\" (3).
وقد ألح شيخ الإسلام على تحري العلم والعدل في موضوعات الخلاف، وفي الحكم على المخالفين، في أكثر من كتاب من كتبه:
فأعلن أن \"الدين كله العلم والعدل\" (4) وأن \"الله يحب الكلام بعلم وعدل، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتنزيل الناس منازلهم\" (5).وقد صدق في ذلك وأحسن، فبالعلم والعدل ومن أجلهما أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، لدلالة الناس على منهج القيام بالقسط، قال - تعالى -: \"لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط\" (6).
وبين ابن تيمية أن السنة مبناها العلم والعدل، وذلك هو منهج المنتسبين إليها صدقا لا ادعاء، فقال: \"وقد نهى الله في كتابه عن التفرق والتشتت، وأمر بالاعتصام بحبله. فهذا موضع يجب على المؤمن أن يتثبت فيه، ويعتصم بحبل الله، فإن السنة مبناها على العلم والعدل، والاتباع لكتاب الله وسنة رسوله\" (7) وقال: \".. وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين، ويتكلمون بعلم وعدل، ليسوا من أهل الجهل، ولا من أهل الأهواء \" (8) \"أهل السنة يتكلمون بعلم وعدل، ويعطون كل ذي حق حقه\" (9).
ورفض ابن تيمية ما انتهجه بعض المنتسبين إلى السنة ممن لم يتلزموا منهج العلم والعدل في الحكم على مخالفيهم، فسمى هؤلاء بـ\"المتسننة\" الذين \" قابلوا باطلا بباطل، وردوا بدعة ببدعة\" (10) وأوضح أن مثل هذا النهج يثير الفساد ولا ينصر الحق، فقال: \"لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فسيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم\" (11).
وأوضح شيخ الإسلام أن العلم والعدل إذا كانا مطلوبين في الحياة اليومية وفي فروع الدين الجزئية، فهما في \"المقالات\" - ذات الصلة بأصول الدين وكليات الشريعة - أولى، والناس إليهما أحوج، فقال: \"فعلى الإنسان أن يتحرى العلم والعدل فيما يقوله في مقالات الناس، فإن الحكم بالعلم والعدل في ذلك أولى منه في الأمور الصغار. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة. رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار\". فإذا كان هذا فيمن يقضي في درهم وثوب، فكيف بمن يقضي في الأصول المتضمنة للكلام في رب العالمين وخلقه، وأمره ووعده ووعيده\" (12).
كما بين أن هذا هو منهج الراسخين في العلم من أعلام الأمة، فقال: \"ومن له في الأمة لسان صدق عام، بحيث يُثنى عليه ويُحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وغلطهم قليل يالنسبة إلى صوابهم، وعامته من موارد الاجتهاد التي يُعذرون فيها، وهم الذين يتبعون العلم والعدل، فهم بُعداء عن الجهل والظلم، وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس\" (13).
وأخيرا أن المناظرة العلمية في أمور الخلاف لا تصلح بغير هذين المبدأين، وتلك هي \"المناظرة العادلة التي يتكلم فيها الإنسان بعلم وعدل، لا بجهل وظلم\" (14). ومن لم يلتزم بذلك فهو إلى البدعة أقرب منه إلى السنة مهما كانت التسميات، لأن السنة طريق ومنهاج، وليست شعارا وادعاء، فقال: \"والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم، كحال أهل البدع\" (15).
ولا بأس بأن نختم بكلمة لابن تيمية تستحق أن تُكتب بماء الذهب، وأن يستحضرها الشباب الإسلامي في معاركه ومناظراته الحالية.. قال ابن تيمية: \"إن العدل واجب لكل أحد، على كل أحد، في كل حال، والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال\" (16).
----------
(1)- سورة الإسراء، الآية 36
(2)- سورة المائدة، الآية 8
(3)- سورة النساء، الآية 135
(4)- ابن تيمية: مجموع الفتاوى 28/179
(5)- الفتاوى12/205
(6)- سورة الحديد، الآية 25
(7)- الفتاوى 3/409
(8)- ابن تيمية: منهاج السنة 2/71
(9)- منهاج السنة 4/358
(10)- مجموع الفتاوى 4/513
(11)- منهاج السنة 5/83 وقارن مع الفتاوى 19/203
(12)- ابن تيمية: درء تعارض العقل والنقل 8/409 (وحديث \"القضاة ثلاثة.. \" رواه بألفاظ مختلفة: الحاكم 4/101 والبيهقي في الكبرى 10/117 وفي الشعب 6/73 والترمذي 3/613 والطبراني في الأوسط 7/39 وفي الكبير 2/21)
(13)- مجموع الفتاوى 11/43
(14)- منهاج السنة 2/343
(15)- منهاج السنة 4/337
(16)- منهاج السنة 5/126
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد